لا أدري
إذا ترك العالم قول: لا أدري، إذا سئل سؤالًا لا يعلم جوابه، فتكلم في مسألة من العلم لا يعلمها، فأخطأ، أصيبت مقاتله، فعرّض نفسه لغضب الله عليه، ولاحتقار الناس له. فينبغي لمن سئل عن أمر لا يعرفه أن يقول: لا أدري...
مَنْ مِنَ الناس يحيط بأكثر العلم، حتى وإن كان عالمًا كبيرًا؟ ومن يستطيع أن يجيب عن كل سؤال يوجّه إليه؟ وهل هناك عارٌ على عالم أو معلّمٍ إذا سُئل سؤالًا أن يقول: لا أدري؟ ولماذا كان بعض العلماء القدامى -بعد أن يكتب أحدهم رأيهُ في مسألة من مسائل العلم، ويجتهد في بيان الصواب- يقول في نهاية كلامه: والله تعالى أعلم؟ ذلك لأن الله تعالى -ولا شك- أعلم، وبأنه -مع اقتناعه التام بما كتب اليوم- قد يغيّر رأيه غدًا، وقد ينفتح له ما كان مغلقًا عليه، وينكشف ما كان مستورًا عنه، وربما ناقشه عالم أعمق منه علمًا، وأوسع إحاطة فبين له خطأه.
إنّ كثرة الجزم والقطع بالصّواب، وأنّ الوجه الذي يراه طالب العلم هو الوجهُ الذي لا صوابَ غيره هو -فيما أرى- علامةٌ على قلة العلم، أو قلة العقل، أو على قلّتهما معًا.
قال التابعي الجليل الثقة محمد بن عجلان رحمه الله، إذا أخطأ العالم قول (لا أدري) أُصيبت مقاتلُه. يعني: إذا ترك العالم قول: لا أدري، إذا سئل سؤالًا لا يعلم جوابه، فتكلم في مسألة من العلم لا يعلمها، فأخطأ، أصيبت مقاتله، فعرّض نفسه لغضب الله عليه، ولاحتقار الناس له. فينبغي لمن سئل عن أمر لا يعرفه أن يقول: لا أدري.
وقد تكلم في هذا المعنى إمامان متعاصران: ابن عبد البر حافظ المغرب توفى عام 463هـ، والخطيب البغدادي حافظ المشرق المتوفى في العام نفسه رحمهما الله، الأول في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) تحت عنوان (باب ما العالمَ إذا سئل عما لا يدريه من وجوه العلم) والثاني في كتابه (الفقيه والمتفقه) تحت عنوان (باب ما جاء في الإحجام عن الجواب إذا خفي عن المسؤول وجه الصواب). وقد نظم ابن دُريد هذا المعنى شعرًا فقال:
ومن كان يهوى أن يُرى متصدّرًا *** ويكره (لا أدري) أُصيبْت مَقاتلُه
ذكر الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه (الفقيه والمتفقه: [2/69]) أن الإمام الكبير سفيان الثوري رحمه الله قال: "إذا رأيتَ الرجل يعمل العمل الذي تلُف فيه وأنت ترى غيره: فلا تنهه!".
كما ذكر في كتابه (تاريخ بغداد: [13/352]) عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله: "ولنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا".
وقد أثنى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله على الإمام إسحاق بن راهويه ثناء عاطرًا، وقال عنه: إنه في علمه لا نظير له مع أنه يخالفه في العديد من المسائل، كما جاء في (سير أعلام النبلاء: [11/371])، فقال: "لم نر الجسرَ إلى خراسان مثلُ إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضًا".
ألحقتُ هذه النقول اليسيرة عن بعض الأئمة الكبار في احترام الرأي المخالف بالحديث عن قول الرجل: لا أدري لما لا يعلم، لأن أكثر الذين يجترئون على العلم يتّصفون بالتعصب وضيق الأفق، ويوقعون الناس في الحرج، والتشتت، والانقسام، والتنابز بالألقاب، وهم يتحدثون في مسائل اجتهادية اختلفت فيها الآراء، وفيها والحمد لله سعة، فيقولون: هذا باطل، وهذا: لا يجوز، وهذا لا يجزئ... إلخ، عن أقوال مشهورة معتمدة عند ألوف العلماء على مرّ السنين، بحجة أنها (تخالف الدليل) وهي تخالف (فهمهم للدليل)!!.
أحمد البراء الأميري
دكتوراة في الدراسات الإسلامية من جامعة الإمام محمد بن سعود.
- التصنيف:
- المصدر: