مفهوم الالتزام بالإسلام
كثيرًا ما يروج في وسط الناس اليوم الحديث عن الالتزام، حتى صارت هذه الكلمة حديث الناس في لقاءاتهم بحق وبغير حق، فيوصف فلان بالالتزام كما توصف فلانة بالالتزام، في حين يوصف آخر، وتوصف أخرى بعدم الالتزام، فما هو الالتزام؟ وهل من وصفوا بالالتزام ملتزمون حقًا؟ وما هي سمات الالتزام؟ ومتى يوصف هذا وهذه بالالتزام؟ ومتى يوصف ذلك وتلك بعدم الالتزام؟
يقول الحق تبارك وتعالى في سورة الأنعام: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]، ويقول عزًّ من قائل في سورة الحشر {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7].
كثيرًا ما يروج في وسط الناس اليوم الحديث عن الالتزام، حتى صارت هذه الكلمة حديث الناس في لقاءاتهم بحق وبغير حق، فيوصف فلان بالالتزام كما توصف فلانة بالالتزام، في حين يوصف آخر، وتوصف أخرى بعدم الالتزام، فما هو الالتزام؟ وهل من وصفوا بالالتزام ملتزمون حقًا؟ وما هي سمات الالتزام؟ ومتى يوصف هذا وهذه بالالتزام؟ ومتى يوصف ذلك وتلك بعدم الالتزام؟
إن الالتزام في مدلوله اللغوي يعني ملازمة الشيء والتمسك به وإلزام النفس به، وعلى هذا فالملتزم بالإسلام قد ألزم نفسه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، واتخاد الإسلام عقيدة وعبادة ومعاملة وأخلاقًا وسلوكًا في الظاهر والباطن، يعيش المسلم إسلامه في سره وعلانيته، في نفسه ومع زوجته وأبنائه وأسرته، وفي مجتمعه ومع سائر الناس، فالمسلم الملتزم بدينه لا يتجرد من إسلامه أنى كان، ولو اقتضت ظروفه المعيشية أن يعيش مع غير المسلمين بعيدًا عن البيئة الإسلامية عليه أن يلتزم بدينه، إثباتًا للهوية الإسلامية، وكأن الشخص الملتزم بإسلامه ذكرًا كان أو أنثى إسلام حي في واقع الحياة يمشي على قدمين، والتزام الإسلام بهذا المفهوم هو الالتزام الذي كان سائدًا في سلف هذه الأمة انطلاقًا من الرسول وأصحابه.
ولا يكون الالتزام بالإسلام في جانب من جوانبه فقط، وإنما يكون بالإسلام في عمومه ابتداءً بالتصور والعقيدة، والملتزم بالإسلام يعبد الله بما شرع وفق تعاليم نبيه، فبه وحده يقتدي، وإياه وحده يتبع، يعصي هوى نفسه، ويستجيب لسنة نبيه، ولا التزام مع مخالفة هدي الرسول، وقد أمر أمته باتباعه والاستمساك بهديه فقال: « » (صححه ابن تيمية في منهاج السنة:164/4).
والملتزم بالإسلام يتحلى بأخلاق الإسلام التي تجلت في شخص الرسول، فعاش أخلاق الإسلام في كل شعبة، مع أهله وأسرته وأصحابه وسائر الناس حتى مع غير المسلمين، فلم يكن صلى الله عليه وسلم يلبس الإسلام كما يلبس الثوب حينًا ثم يخلعه حينًا آخر، وإنما كان الإسلام لازمًا له لا يفارقه أبدًا، وهكذا كان أصحابه في نطاق بشريتهم، فكان وكانوا كذلك مثالاً في التواضع والعزة والسماحة، والصدق والإيثار والجود والمحبة، والإحسان والتعاون والتضحية..
والملتزم بالإسلام يتعامل في حياته العامة مع سائر الناس التعامل الإسلامي الصحيح، فلا غش ولا تدليس ولا حرص ولا بخل ولا كذب، ولا شَرَهَ ولا طمع ولا تزوير ولا خداع، ولا تشوف إلى ما في أيدي الناس، ولا تحايل على الناس بمظهر الإسلام، والتزام الإسلام يظهر أساسًا في تعامل الملتزم بالإسلام مع أقرب الناس إليه كزوجته وأبنائه وأبيه وأمه وسائر أقربائه وجيرانه وأصدقائه ورفقائه في العمل.
هناك صور لا تدل على التزام أصحابها، ولعلها قصد بها ضرب الصور الحقيقية للالتزام حتى يقال: ليس هناك التزام صحيح في ميادين الحياة المعاصرة، الصور المنتحلة للالتزام الصوري صور باهتة مكشوفة، لا تقوى على مزاحمة الصور للملتزم حقًا لأن هذه فيض إيماني.
والمسلم الملتزم بإسلامه يفرض عليه التزامه أن يكون أحسن الناس عشرة لزوجته، يعلمها دينها ويرشدها إلى الخير باللين والرفق والتواضع، ويوجهها توجيهًا صالحًا يظهر أثره في معاملتها لأبنائها وأسرته، كما يفرض عليه التزامه الاهتمام بشؤونها فلا يهملها إن مرضت، ولا يقتر عليها في النفقة حسب استطاعته، والتزامه بالإسلام يفرض عليه أن لا يتسرع في الحلف عليها بالايمان المغلظة، وتهديدها بالطلاق من حين لآخر، وانتقاص أسرتها، أو رميها بما ليس فيها.
أما الملتزمة فالتزامها يفرض عليها هي الأخرى إكرام الزوج والتودد له بفعل ما يحب منها، واجتناب ما يكره، والتزامها أيضًا يفرض عليها تجنب إغضابه والإساءة إليه بالقول أو الفعل، ومراعاة ظروفه وأزماته، وعدم إفشاء أسراره، وعدم إطلاع الناس على ما لا يحب أن يطلعوا عليه، ولا تستعلي عليه بثقافتها أو بجاه أسرتها أو بحسبها ونسبها..
والتزامها بالإسلام يفرض عليها أن لا تعمل على إبعاد الزوج عن أبويه من أجل أن تستقل به وحده بعيدًا عن أبويه وأسرته، فيكون هذا سبب بغضها والانتقام منها، إلا إذا كان هناك ضرورة ملحة تقتضيها الحياة الإسلامية لتوفير جو من الحشمة والحياء والالتزام بعيدًا عن الاختلاط، مما لم يتوفر مع أسرة الزوج كما هو الحال لبعض الأسر التي تتأزم فيها حياة الزوجين، إما لضيق السكن وإما لبعد الأسرة عن الإسلام في واقع حياتها البيتية.
أما الالتزام الصوري فهو الالتزام في المظهر فقط، ولاحظ لصاحبه ذكرًا كان أو أنثى من الالتزام الصحيح إلا كان من مظهره الخارجي من لحية أو لباس، والالتزام الحق ينبعث من باطن الشخص، فتكون الصورة الخارجية صادقة تمامًا ومعبرة عن صدق الباطن ويتجلى ذلك في كل ممارساته، غير أن أكثر صور الالتزام التي تظهر اليوم من حين لآخر لا تعكس صدق الباطن كما يشهد لهذا النماذج التي نراها في ميادين الحياة..
فالمخادع والمخادعة للناس والغاش والغاشة لهم، والمتحايل والمتحايلة عليهم لأكل أموالهم بالباطل، والكاذب والكاذبة عليهم، والمتعامل والمتعاملة معهم تعاملاً بعيدًا عن روح الإسلام، كل منهما يظهر بالمظهر الإسلامي في المظهر، فالقميص ابيض فضفاض والجلباب فضفاض جذاب والقلنسوة والعمامة بيضاء ناصعة، والخمار نقي واسع ساتر، واللحية مسرحة والعطر يفوح، والعينان كحيلتان من أثر الأثمد، وكل هذا جميل يستحسن منه ما يخص الرجل كما يستحسن منه ما يخص المرأة..
ولكن مع هذا المظهر الكذب والغش والخيانة والغدر، والتعامل بالربا والتحايل عليه بالتماس الأعذار، والتحايل على الناس، واغتياب الناس، ظن السوء بهم، ورميهم بما ليس فيهم، والتقول عليهم، أهذا هو الالتزام؟! وهل الالتزام مجاله المظهر الخارجي فقط؟ ألا يعد هذا من الرجل أو الفتى، ومن المرأة أو الفتاة التزمًا صوريًا؟
هناك نماذج من الذكور والإناث ليس لها من الالتزام بالإسلام إلا الصورة، وليس هذا من الالتزام الصحيح بالإسلام في شيء، بل صورة الالتزام وراءها ما وراءها من المكر والخداع والتهتك أخطر على الالتزام الصحيح، تتغطى المرأة بلباس ساتر أو الفتاة وتتخمر بخمار ساتر ثم تطوف في الشوارع والأزقة والأسواق العامة وحدها، وتظهر في كل الأماكن ولا محرم معها، أهذا هو الالتزام؟!
تكون المرأة أو الفتاة على الصورة التي ذكرت، ثم تختلط بالرجال أو يختلي بها الرجال فتضحك مع هذا وتتمايل على ذاك، وتغيب عن البيت ساعات أو يومًا كاملاً بلا محرم وبلا رفقة مأمونة، ثم تدعي الالتزام، أهذا هو الالتزام؟! إن الالتزام المظهري الصوري الذي يصحبه انحرافات في المعاملة والسلوك ما هو إلا تشويه للالتزام الصحيح، وتمييع للصورة الحقيقة للملتزمين الصادقين وللملتزمات الصادقات.
وإن الصحوة الإسلامية المعاصرة التي ظهر أثرها -والحمد لله- في كل ميادين الحياة من جديد لتدل دلالة قوية على صدق نيات بعد الآيبين والآيبات إلى الله هنا وهناك، وصدقهم في رجوعهم إلى الله يتجلى في التزامهم بدينهم، إن قالوا صدقوا، وإن وعدوا لم يخلفوا، وإن عاهدوا أوفوا، وإن صلوا أتقنوا وخشعوا، وإن تصدقوا أخفوا، وإن دعوا إلى الخير أسرعوا، وإن عملوا أتقنوا وأحسنوا، وإن خاصموا لم يفجروا وإن غلبوا لم يظلموا، وإن أعتدي عليهم سمحوا، وإن نفروا من الشر أقاموا عاجلين.
إن هناك رجالاً ونساءً وفتيانًا وفتياتًا يعانون معاناة لا حد لها من أجل التزامهم بدينهم، أحاطت بهم المشاكل والأزمات، مع ذلك هم صامدون ملتزمون بدينهم التزاما صحيحًا في نطاق بشريتهم، ولا يرضون أبدًا أن يشار إلى دينهم بسوء، وهم بالتزامهم يجسدون الصورة الحية للصبغة الإسلامية التي صبغهم الله بها {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة من الآية:138].
كما يعيدون إلى أذهان الناس -كل الناس- صورة المسلم الملتزم والمسلمة الملتزمة، فعلى المسلم الملتزم بدينه أن يحذر الملتزم الصوري الذي يريد تمييع الالتزام الصحيح، وعلى المسلمة الملتزمة أن تحذر الملتزمة الصورية التي تريد تمييع الالتزام الصحيح.
فالإسلام حق والالتزام به التزام بالحق، والالتزام الصوري كذبًا وزورًا وهمًا باطلاً، والباطل لا يغني من الحق شيئًا.. {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس من الآية:32].
القاضي برهون
من أكابر علماء المغرب
- التصنيف: