عقوق الوالدين ( 1 - 2 )
عقوق الوالدين آفة ذات أثر خطير، وعواقب وخيمة على العاملين وعلى العمل الإسلامي، وحتى يتخلص من هذه الآفة من ابتُلي بها، ويتجنبها من سلَّمه الله - عز وجل - منها.
عقوق الوالدين آفة ذات أثر خطير، وعواقب وخيمة على العاملين وعلى العمل الإسلامي، وحتى يتخلص من هذه الآفة من ابتُلي بها، ويتجنبها من سلَّمه الله - عز وجل - منها، فإننا سنعرض لها من هذه الجوانب:
أولاً: معنى عقوق الوالدين:
لغة: العقوق له معانٍ منها:
1 الشق والقطع، تقول: عقَّ رحمه: قطعها، وعقَّ عقَّاً: انشق، وعقَّ ثوبه: شقه.
2 الاستحلاب، تقول: عقَّتْ الريح السحاب: استحلبته وكأنها شقَّته. (1)
ولا تعارض، إذ هو: استحلاب الشيء وإخراج خيره بعد شقه وقطعه.
وأما الوالدان فهما الأب، والأم، وإن علوا. (2)
اصطلاحاً: ذكر العلماء لعقوق الوالدين عدة تعريفات منها:
1- تعريف الإمام القرطبي المحدِّث: "عقوق الوالدين: مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما، كما أن برهما: موافقتهما على أغراضهما الجائزة لهما، وعلى هذا إذا أمرا، أو أحدهما ولدهما بأمر وجبت طاعتهما فيه، إذا لم يكن ذلك الأمر معصية، وإن كان ذلك المأمور به من قبيل المباحات في أصله، وكذلك إذا كان من قبيل المندوبات"(3).
2 تعريف ابن الصلاح: "العقوق المحرم: كلُّ فعل يتأذى به الوالد، أو نحوه، تأذياً ليس بالهيِّن مع كونه ليس من الأفعال الواجبة". (4)
3 تعريف ابن حجر العسقلاني: "والعقوق مشتق من العقِّ، وهو القطع، والمراد به صدور ما يتأذى به الوالد من ولده، من قول، أو فعل إلا في شرك أو معصية ما لم يتعنت الوالد". (5)
4 تعريف ابن حجر المكي: "العقوق أن يحصل لهما، أو لأحدهما، إيذاء، ليس بالهيِّن عرفاً"(6).
ثانياً: أهم مظاهر العقوق وحكمه:
لعقوق الوالدين مظاهر تدل عليه، نذكر منها:
1 - عدم إبرار قسمهما أو قسم أحدهما فيما ليس بمعصية، مع قدرته على إبرار هذا القسم.
2 - عدم طاعة أمرهما أو أمر أحدهما فيما ليس بمعصية، مع القدرة على الطاعة.
3- عدم إجابة سؤالهما أو سؤال أحدهما فيما ليس بمعصية، مع القدرة على الإجابة.
4- خيانتهما، أو خيانة أحدهما، وقد ائتمناه.
5- الجهاد الكفائي دون إذنهما، أو إذن الحيِّ منهما.
6- السفر سفراً يشق عليهما، أو على الحيِّ منهما وليس بواجب.
7- الغياب الطويل عنهما أو عن الحيِّ منهما، وليس في مصلحة من علمٍ نافع، أو كسبٍ حلال، أو نحو ذلك.
8- سبهما، أو سبُّ أحدهما بطريق مباشر، أو بطريق غير مباشر.
9- العبوس في وجهيهما، أو في وجه أحدهما مع بذل الطاعة ولزوم الصمت.
10- استثقالهما أو استثقال أمرهما، مع التأفف، والضجر.
11- الامتناع من الإنفاق عليهما ولو إلى حدِّ الكفاف.
12- عدم احترامهما وتوقيرهما بأن يمشي أمام أبيه، وأن يقعد قبله، وأن يدعوه باسمه، وأن يحدَّ الطرف إليه، قال عروة بن الزبير: "ما برَّ والده، من شدَّ الطرف إليه"(7).
13- عدم الدعاء لهما أحياء، أو أمواتاً وعدم الاستغفار لهما.
14- عدم صلة أرحامهما، وأصحابهما.
15- عدم قضاء ديونهما المادية، والمعنوية.
إلى غير ذلك من هذه المظاهر. وقد جاءت نصوص كثيرة في الكتاب، والسنة تتضمن هذه المظاهر، ومنها قوله - سبحانه -: وقضى" ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما (23) واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا (24) (الإسراء).
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لرجل جاءه يستأذنه في الجهاد: "لك أبوان؟ " قال: نعم، قال: "ففيهما فجاهد"(8).
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لرجل أقبل، فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله: "فهل من والديك أحد حيٌّ؟ " قال: نعم، بل: كلاهما، قال: "فتبتغي الأجر من الله؟ "، قال: نعم: قال: "فارجع إلى والديك، فأحسن صحبتهما"(9).
وأتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله: إني جئت أريد الجهاد معك، أبتغي وجه الله، والدار الآخرة، ولقد أتيت وإن والديَّ ليبكيان، قال: "فارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما". (10)
وعن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي - رضي الله عنه - قال: بينا نحن جلوس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله، هل بقي من برِّ أبويَّ شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: "نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما"(11).
هذا والشرع الحنيف ينظر إلى عقوق الوالدين على أنه من أكبر الكبائر بعد الكفر، والشرك بالله. إذ جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه أبوبكرة، أنه قال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ " قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ثلاثاً: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين"، وكان متكئاً فجلس، فقال: "ألا وقول الزور، وشهادة الزور، ألا وقول الزور، وشهادة الزور"، فمازال يقولها حتى قلت: لا يسكت!. (12)
وسيأتي في ذكر الآثار المتربة على عقوق الوالدين، ما يؤكد: أن هذا العقوق من أكبر الكبائر.
ثالثاً: آثار عقوق الوالدين، وعواقبه:
لعقوق الوالدين آثار سيئة، وعواقب خطيرة على العاملين، وعلى العمل الإسلامي، ودونك هذه الآثار:
من آثار عقوق الوالدين على العاملين:
1 - الحرمان من التجارب والخبرات: ذلك أن النجاح في الحياة لا يقتصر على مجرد التحصيل العلمي، وإنما لابدَّ له من الخبرات، والتجارب، والخبرات والتجارب يكتسبها المرء تارة بممارسته هو، وتارة أخرى بممارسة الآخرين، والوالدان بالقطع أصحاب خبرات، وتجارب، وقد جرت العادة بمنح الخبرات والتجارب لمن يخفض الجناح، ويلين الجانب، فإذا عقّ الولد أبويه، وأساء معاملتهما..ضنا عليه بخبراتهما، وتجاربهما، وحينئذ تكون حياته سلسلة من الفشل، والانتكاسات، وكفى بذلك عقاباً.
2 - الحرمان من الدعوات: ذلك أن المرء كثيراً ما تعتريه عقبات، ومعوِّقات، ومهما بذل من جهود لتخطيها فإنه لا يفلح، ويبقى الدعاء السهم النافذ، والورقة الأخيرة، وخير الدعاء: دعاء كبار السن، والضعفاء، وكلما تقدم السن بالوالدين كانا إلى الضعف أقرب، وكانت الإجابة أسرع، والعقوق يكون سبباً في حرمان الولد من دعوات أبويه، فتتعثر حياته، وتنقطع مسيرته.
3 - حلول الغضب الإلهي: ذلك أن الوالدين من أجلِّ نعم الله على المرء، إذ هما السبب المادي في وجوده على ظهر هذه الأرض، وبجهودهما نشأ، وصار ملء السمع والبصر، فإذا ما عقهما فقد جحد نعمة الله عليه، وجحود النعمة يقتضي الغضب الإلهي، والسخط، وقد قال الله - عز وجل -: ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى" 81 (طه).
وعن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما -: عن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد". (13)
4 – سقوط هيبة الولد ووقاره: ذلك أن الناس إذا رأوا من الولد عقوقاً لوالديه، أو لأحدهما، فإنهم ينظرون إليه على أنه خائن الأمانة، جاحد النعمة، وحينئذ تسقط هيبته من قلوبهم ويزول وقاره من أعينهم.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم -: "احفظ ودَّ أبيك، لا تقطعه، فيطفئ الله نورك". (14)
5- بغض الناس للعاقِّ وكراهيتهم: ذلك أن محبَّة الناس، والقبول لديهم له أسبابه، وبواعثه، ولكن أعظم الأسباب، والبواعث إنما هو رضا الله، ومن غضِبَ الله عليه وسخِطَ، فإنه يحرمه محبة الناس، وقبولهم له، بل يعاقبه ببغض هؤلاء وكراهيتهم.
وقد جاء هذا صريحاً في الحديث، إذ يقول -صلى الله عليه وسلم -: "إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل، فقال: إني أحبُّ فلاناً فأحببه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يحبُّ فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلاناً، فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً، فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض". (15)
6- عقوق أولاد العاق له: على العاق أن ينتظر ثمن عقوقه أبويه في الدنيا: أن يعقه أولاده من باب: "كما تدين تدان"، وقد شهد الواقع صحة ذلك، وصدقه.
قال الأصمعي: حدثني رجل من الأعراب، قال: خرجت من الحيِّ، أطلب أعقَّ الناس، وأبرَّ الناس، فكنتُ أطوف بالأحياء، حتى انتهيتُ إلى شيخ، في عنقه حبل يستقي بدلو، لا تطيقه الإبل في الهاجرة، والحرُّ شديد، وخَلْفَهُ شاب في يده رشاء(16)، من قدٍّ(17)، ملويٍّ، يضربه به، قد شقَّ ظهره بذلك الحبل، فقلت: أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف؟ أما يكفيه ما هو فيه، من هذا الحبل حتى تضربه؟ قال: إنه مع هذا أبي، قلت: فلا جزاك الله خيراً، قال: اسكت، فهكذا كان هو يصنع بأبيه، وهكذا كان يصنع أبوه بجده، فقلت: هذا أعقُّ الناس".
7 - الحرمان من الجنة ورؤية الله - عز وجل -: إن كل حرمان في الدنيا يمكن تعويضه بصورة أو بأخرى، أما حرمان الجنة ورؤية الله - عز وجل -، فهو الحرمان الحقيقي الذي لا يمكن تعويضه، قال - تعالى -: إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين 15 لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون 16 (الزمر).
والعاقُّ يحرمه الله في الآخرة: الجنة، ورؤيته - سبحانه -، يقول -صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثة لا ينظر الله - عز وجل - إليهم يوم القيامة: العاقُّ لوالديه، والمرأة المترجِّلة، والدَّيوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاقُّ لوالديه، والمدمن على الخمر، والمنَّان بما أعطى".
من آثار عقوق الوالدين على العمل الإسلامي:
1- القطيعة والفرقة: ذلك أن العقوق سيمتد من جيل إلى جيل، وتتقاطع الأجيال، وتكون الثمرة المرة: التمزق، والفرقة، الأمر الذي ينتهي إلى الضعف والهزيمة.
2 - سيطرة الأعداء: إذا تمزقت وحدة المجتمع، وكان الضعف، والانهزام سيطر الأعداء واستنزفوا خيرات الأمة، وثرواتها، بل عملوا على تغيير هوية الأمة وثقافتها حتى يظلوا مسيطرين أطول فترة ممكنة.
3 - طول الطريق، وكثرة التكاليف: إذا أرادت الأمة التخلص من سيطرة الأعداء في هذا الجو المتنافر الممزق فإنها ستتحمل كثيراً من التكاليف، ويطول بها الطريق، على الأقل حتى ينقضي هذا الجيل العاق، وينشأ جيل بار بأبويه، محسن إليهما، مترابط، متماسك، يقوم بواجبه في تحرير الأمة من سيطرة الأعداء.
-----------------------------------------------
الهوامش
(1) المعجم الوسيط 2-616.
(2) السابق 2-1056.
(3) المفهم 6-520.
(4) دليل الفالحين 2-178.
(5) فتح الباري 10-406.
(6) الزواجر ص459.
(7) تهذيب سير أعلام النبلاء 1-416.
(8) أخرجه البخاري، ومسلم، كلاهما من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - مرفوعاً به، ونحوه.
(9) أخرجه مسلم من حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما -، بهذا اللفظ.
(10) أخرجه ابن ماجه في: السنن: كتاب الجهاد.
(11) أخرجه أبوداود في: السنن: كتاب الأدب.
(12) أخرجه البخاري في: الصحيح.
(13) الحديث أخرجه الترمذي في: السنن: كتاب البر والصلة.
(14) أورده الهيثمي في: مجمع الزوائد، وعزاه إلى الطبراني من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قائلاً: "رواه الطبراني في الأوسط، وإسناده حسن".
(15) أخرجه البخاري في: الصحيح.
(16) الرشاء: الحبل، أو حبل الدلو، ونحوه، انظر: المعجم الوسيط 1-348.
(17) القد:السوط، وأصله: سير يقد، أي: يقطع من جلد مدبوغ، انظر: المعجم الوسيط 1-718.
السيد محمد نوح
- التصنيف:
- المصدر: