محنة الأندلسيين لصيام رمضان

منذ 2008-08-29

شكلت مراقبة هلال رمضان للأندلسيين مهمة محفوفة بالمخاطر نظرا لانتشار أعين الوشاة الذين يترصدون الحركة الكبيرة و الصغيرة التي قد توحي بأن فاعلها مسلم. لكن شدة شوقهم لصيام رمضان كانت أكبر من خوفهم من النصارى فصعدوا إلى المرتفعات لرؤية الهلال حرصا على صيام


بسم الله الرحمن الرحيم و الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على رسولنا محمد و على آله و صحبه أجمعين.

قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة البقرة:185]، إن من النعم التي أكرم الله بها عباده و أقرّ أعين المؤمنين بها أن بلّغهم شهر رمضان, هذا الشهر الفضيل الذي ُأنزل فيه القرآن العظيم على محمد صلى الله عليه و سلّم هو من خصائص الدين الإسلامي التي جمعت كل العبادات من صلاة و صيام و ذكر وصدقة و عمرة إضافة إلى تبني مكارم الأخلاق و أعفّها و أنبلها. قال عليه الصلاة و السلام : «الصوم جُنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم » [رواه البخاري ومسلم.] و قد و عد الله عز وجل من قامه حقّ قيامه بالعتق من النار و المغفرة و الأجر الكريم. قال رسول الله صلى الله عليه و سلّم: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» [رواه البخاري ومسلم]. فطوبى لمن عرف كيف يقوم رمضان و أحسن استغلاله في طاعة الرحمان.و ياحسرة من ضيّعه و زادته غفلته بعدا عن الرحمان. و ما أشد حسرة من ضيعه و هو له آخر رمضان.

من خلال هذا الموضوع - الذي أسأل الله أن يكون خالصا لوجهه الكريم- أريد أن أستعرض محنة طائفة من المسلمين عاشت دهرا طويلا في أرض كانت إسلامية تُدعى الأندلس. و قد غلب الكفار سنة 1492م على أرضهم فساموهم سوء العذاب و أرغموهم على التنصّر واعتقاد الكفر و التثليث و أكل لحم الخنزير و شرب الخمر و التسمّي بالأسماء النصرانية و لباس الزي النصراني ..., هذا و أجبروهم على التنصّل من كل اعتقادات المسلمين و التخلي عن المظاهر الإسلامية الظاهرة و الباطنة. و قد حكموا على من خالف ذلك بالموت شنقا وحرقا أو بالسجن المؤبد أو المؤقت أو بمصادرة الأموال أو بالأشغال الشاقة و....و ...و لائحة الإرهاب النصراني طويلة. و قد أطلق النصارى الإسبان على هذه الطائفة من المسلمين اسم "الموريسكيون" Moriscos أي "المسلمون الأصاغر" تمييزا لهم و تصغيرا من شأنهم. كما أطلقوا عليهم اسم " النصارى الجدد" Cristianos nuevos.

و بما أننا في شهر رمضان المبارك فقد اخترت أن أتناول حياة هؤلاء المسلمين -الذين عاشوا كنصارى ظاهرا و مسلمين باطنا - في شهر رمضان. كيف كانوا يرون رمضان؟هل كانوا يصومونه ؟ كيف كانوا يعيشونه؟ ماذا لحقهم جرّاء ذلك؟ إلى غير ذلك من الاستفسارات التي قد تُطرح عن حياة هاته الفئة من المسلمين التي -صراحة- تجاهلها المؤرخون المسلمون و كما ستلاحظون فأغلب الوثائق التي سأنقلها ذات مصدر إسباني و محفوظة في أرشيفهم. و لعل هذا أوّل موضوع من نوعه يتطرّق بصفة شبه مفصلة لحياة المورسكيين في شهر رمضان وما لقوه من شدة و محنة في سبيل صيام و لو يوم واحد منه دون أن يلحقهم أذى النصارى.

1- لمحة تاريخية :

سقطت دولة الإسلام بالأندلس سنة 1492م بتسليم أبي عبد الله ابن الأحمر -غفر الله له- مدينة غرناطة آخر معقل إسلامي بالأندلس إلى الملكين الكاثوليكيين فرديناند و إيزابيلا - عليهما من الله ما يستحقان- فرفعا الصليب على أعلى أسوار قصر الحمراء و أدى النصارى صلاة الحمد شكرا للرب على هذا الفتح -زعموا - , و قد وعد الملكان الكاثوليكيان في اتفاقية تسليم غرناطة المسلمين باحترام دينهم و تركهم أحرارا في اعتقادهم و عباداتهم. لكن ما أن غادر أبو عبد الله قصر الحمراء حتى حُوّلت مساجده إلى كنائس و قد كان هذا أول ناب كشّر عنه النصارى في خطة افتراس الأندلسيين.
أما الناب الثاني فقد كشّروا عنه سنة 1499م بإصدار مرسوم ملكي يقضي بتنصير المسلمين و تعميدهم قسرا و تخليهم عن أسمائهم و أزيائهم الإسلامية و لغتهم العربية و كل ما يمتّ للإسلام بصلة. فرفض أهل الأندلس هذا القرار فثاروا في غرناطة لكن ثورتهم أٌخمدت . و أمام إصرار النصارى على تنصيرهم عاش الأندلسيون حياة مزدوجة فهم ظاهرا نصارى و باطنا مسلمون. و أنشأ الأسبان محاكما للتفتيش لمراقبة تصرفاتهم و محاكمة كل من يتشبت بالإسلام. و استمر الأندلسيون على هذا الحال حتى سنة 1567م حيث أصدر الملك فيليب الثاني قرارا صارما بالتشديد على الأندلسيين و عدم التسامح مع من يٌبدي أي مظهر من مظاهر الإسلام فقام الأندلسيون سنة 1568م بثورة كبرى في غرناطة استمرت 4 سنوات انتهت بقمعها و اشتداد الوطأة على الأندلسيين الذين ظلوا رغم كل ذلك يحفظون شيئا من الإسلام. و جاءت سنة 1609م التي شكلت سنة الفرج للأندلسيين حيث أعلن الملك فيليب الثالث بإيعاز من القساوسة قرارا بطرد كل الأندلسيين من إسبانيا حفاظا على وحدة العقيد ة الكاثوليكية الإسبانية من خطر"المورسكيين" الذين لازالوا مسلمين يحملون دين محمد صلى الله عليه و سلم. و بالفعل تمّ طردهم إلى شمال إفريقيا حيث بلاد الإسلام و هكذا أنجاهم الله عزّ و جل من الكفر النصراني.

2- رمضان عند المورسكيين

حاول المؤرخون الإسبان الذين عاصروا المورسكيين بإسبانيا رسم صورة لحياتهم الدينية السرية و قد خرجوا جميعا بخلاصة مفادها أن صيام شهر رمضان و احترامه و تعظيمه هو أكثر ما تشبّت به المورسكيون رغم مرور العقود على تنصيرهم .

يقول المؤرخ الإسباني بورونات إي باراتشينا (Boronat y Parrchina) محاولا رسم صورة عن حياة المورسكيين الدينية كما كانوا يؤدونها خفية عن أعين الوشاة النصارى , وقد أورد عدة مظاهر أساسية في حياة المسلمين بينها الصيام حيث ذكر عن شهر رمضان :" و مدته ثلاثون يوما, لا يأكل المسلم خلال اليوم إلا في الليل عند بزوغ النجم, وفي كل ليلة يتسحر المسلم, فيأكل بقية ما خلفه في أكل الليل. يأكل قبل الفجر و يغسل فمه و يؤدي الصلاة, ويتطهر المسلم قبل بدئ رمضان. يبدأ الصوم برؤية الهلال و ينتهي برؤية الهلال. بعد ذلك ينتظر أحد عشر شهرا, و الشهر الثاني عشر يكون هو رمضان, بحيث أن رمضان يبدأ قبل رمضان السابق له بنحو عشرة أيام, إذ هكذا يكون حساب الأهلة. بعد أن ينتهي شهر رمضان - و مدته ثلاثون يوما - يحتفل المسلمون بعيد الفطر. و في أول أيام العيد يُقبّل الابن المسلم يد أبيه و يطلب منه أن يُسامحه, و الآباء يباركون الأبناء فيضعون أيديهم على رؤوسهم و يقولون "جعلك الله مؤمنا (أو مؤمنة) صالحا (أو صالحة)" , و يطلب كل مسلم من أخيه المغفرة قائلا :"غفر الله لي و لك".(1)

و استخلصت الباحثة الإسبانية غارسيا مرثيدس أرينال بعض طول دراسة لمحاضر محاكم التفتيش الإسبانية أن: " العبادات الأكثر رسوخا في حياة المورسكيين , و التي يتردد ذكرها في كل محاضر التفتيش تقريبا, هي صيام رمضان و الطهارة و الصلاة." و واصلت الباحثة "و بدون أدنى شك, صيام رمضان هو العبادة الدينية الأكثر تأصلا في حياة المسيحي الجديد, و في الغالب هي أكثر عبادة يحافظ عليها الجميع. و يمكن القول بأنه أخر مظهر إسلامي من حيث التلاشي...فصيام رمضان كما تصفه المحاضر, يرتكز أساسا على الإمتناع عن الطعام و الشراب و المحافظة على ذلك من الفجر إلى الليل عندما تطلع النجوم خلال شهر رمضان بأكمله. على وجه التحديد, طابع الرفض و الإمتناع في الصيام, مثل ذلك طابعه الجماعي, يجعل منه العبادة الإسلامية الأكثر تأصلا, و بالتالي الأكثر تميزا" (2).

أما الباحث الإسباني الشهير خوليو كارو باروخا فقد ذكر نقلا عن كتاب "سرفنتس و المورسكيون:" أنه في بداية القرن السابع عشر كان أهل مرسية و جيان و من بقي في غرناطة يصومون رمضان." (3) أي بعد 110 سنوات على سقوط غرناطة حافظ الأندلسيون على صيام رمضان. و هذا إن كان يدلّ على شيء فإنما يدل على عظم مكانة هذا الشهر عندهم رغم بطش النصارى بهم و ليعتبر اليوم من فرّط في صيام رمضان.

3- تشوق المورسكيين لرمضان.

شكلت مراقبة هلال رمضان للأندلسيين مهمة محفوفة بالمخاطر نظرا لانتشار أعين الوشاة الذين يترصدون الحركة الكبيرة و الصغيرة التي قد توحي بأن فاعلها مسلم. لكن شدة شوقهم لصيام رمضان كانت أكبر من خوفهم من النصارى فصعدوا إلى المرتفعات لرؤية الهلال حرصا على صيام رمضان في وقته الشرعي.

في هذا الإطار تروي الباحثة الإسبانية أرينال نقلا عن محاضر محاكم التفتيش بكوينكا:"يبدأ الصيام بظهور هلال رمضان الذي كان يدور حوله توقع كبير. و كان هناك قلق عند انتظار الهلال و مراقبته, و كانوا ينقلون خبر ظهوره بين القرى المجاورة و يتناقشون حوله. و تسبب هذا الاهتمام بهلال رمضان في محاكمة عدد ليس بالقليل من المورسكيين. تجدر بالذكر حالة ديثا, ففي عام 1570م (أي بعد 78 سنة على تنصير المسلمين) تم القبض على نصف القرية لأنهم خرجوا إلى أماكن الفضاء لرؤية ظهور هلال رمضان, و لما دار جدل حول ما إذا كان الهلال ظهر أم لا انقسموا إلى جماعات متفرقة و بدأت كل جماعة تدافع عن موقفها بصوت عال, و بالبتالي علمت السلطات و قبضت عليهم.(4)

و الحالات التي يظهر فيها المورسكيين و هم يستطلعون الهلال عديدة: ماريا دي أليخير (Maria de Aliger) من ديثا-(5) : "لشغفها بمعرفة متى سيبدأ شهر رمضان حتى تصوم, قالت لأحد المورسكيين إنها ذهبت لرؤية الهلال في فضاء هذه القرية". و خيرونيمو, نقاش أركوس, رآه جاره ذات ليلة و هو ينظر إلى الهلال و قال له هذا الشاهد : إلام تنظر و ما الذي جاء بك إلى هنا؟ قال هذا النقاش : إنه جاء لرؤية الهلال, قال الشاهد: تريد أن تصوم؟ قال له النقاش: أجل فهناك في أراغون يصوم الجميع" (6)


4- محنة الأندلسيين لصيام رمضان

لتسهيل الوشاية بالمسلمين من طرف النصارى و لمنعهم من أداء شعائرهم الإسلامية, نشرت السلطات الكنسية التابعة لمحاكم التفتيش لائحة طويلة من ستة و ثلاثين مظهرا من المظاهر الإسلامية التي وجب الإخبار عنها و منها:

" - إذا قاموا بصيام رمضان, و راعوا ذلك أثناء عيد الفصح و سلموا بعض الصدقات و أنهم لم يأكلوا و لم يشربوا حتى يلاحظوا النجمة الأولى.

- إذا قاموا بالسحور, واستفاقوا ليأكلوا قبل طلوع النهار أو غسلوا أفواههم و رجعوا إلى فراشهم" (7)

هكذا عاش الأندلسيون في حالة خوف و حذر من الوشاة و أخفوا عقيدتهم و التمسوا الخلوات و الأماكن المنعزلة لأداء فرائضهم و منها الصيام و كان النصارى إذا حل رمضان يمتحنوهم لمعرفة ما إذا كانوا ممسكين و رغم اعتذار الأندلسيين بأعذار مختلفة لتبرير عدم أكلهم فإنهم كانوا يتابعون من طرف محاكم التفتيش. و هذا ما جعل عدد المورسكيين المدانين في شهر رمضان أكثر من الشهور الأخرى. فهذا الأندلسي فرانسيسكو القرطبي(Francisco Cordoba)" الذي كان يصوم رمضان من طلوع الفجر إلى غروب الشمس خلال شهر كامل, لم تعرض له دعوات كثيرة من جيرانه مثل تلك التي جاءت خلال شهر رمضان, وقد كان حريصا على احترام الصيام, و أنه إذا دُعي للغداء فإنه كان يرفض بحجة أنه فاقد للشهية, و إذا دُعي أثناء الأكل, فإنه كان يرد أنه أكل قبل ذلك في مكان أخر" (8)

و قد سجلت محاضر محاكم التفتيش الإسبانية أعدادا كبيرة من حالات ضُبط فيها الأندلسيون في حالة صيام (عندما يصبح الصيام جريمة و لا حول و لا قوّة إلا بالله) وتبقى أشهر قضية عرفتها محاكم التفتيش هي ضد عائلة ابن عامر المسلمة (سليلة المنصور ابن أبي عامر الشهير) ببلنسية سنة 1567م و تبيّن لنا هذه القضية تعظيم المورسكيين لشهر رمضان و إصرارهم على صيامه رغم المنع و الحضر النصراني لأي مظهر إسلامي..و قد ذكر محضر الإتهام بعض شهادات المقرّبين من عائلة ابن عامر كشهادة الخادمة المورسكية أنخيلا زوجة خايمي أليمان و التي شهدت " أنها - و عمرها ستة عشر عاما - قد أدت شعائر المسلمين, فصامت رمضان, و أنها كانت خادمة للسيد خيرونيمو بن عامر في بناغواتيل بعد أن كانت تعمل خادمة في بيت هاشم في سيغوربي, و في بيت السيد خيرونيمو صامت رمضان معه و مع زوجته و أبنائه, وهم السيد كوسمي و السيد خوان و السيد أيرناندو و السيدة أغرايدا, وقد احتفل كل هؤلاء بعيد المسلمين فارتدوا أفضل الثياب لديهم. و هذا ما حدث بالضبط في بيت هاشم في سيغوربي - و السيد هاشم متزوج من السيدة أغرايدا ابنة السيد خيرونيمو - فلم يكونوا يأكلون طوال اليوم حتى حلول الليل" (9).

جاءت شهادة بيرنات المعلم - المسؤول في بناغواتيل عن ذهاب المورسكيين لسماع الوعظ النصراني بالكنائس - لتأكد التزام عائلة ابن عامر بالتعاليم الإسلامية , حيث يذكر محضر الإتهام عن بيرنات أنه" شاهدهم يصومون رمضان من أول شهر يوليو" (9).

أما سيبستيان القواغازي من مواليد أوريا بنهر المنصورة فقد حكم عليه سنة 1574م بمصادرة جميع ممتلكاته و التجديف ست سنوات في سفن الملك و ذلك لتلبسه بممارسة شعائر إسلامية منها :"أنه كان يتوضأ مرات عديدة و صلى على طريقة المسلمين و صام الصيام الذي يقولون عنه صيام رمضان ممتنعا عن الطعام و الشراب حتى دخول الليل و طلوع النجوم..." و قد اعترف سيبستيان قائلا:" إن مسلمي البربر ممن شاركوا في ثورة غرناطة علموه صيام رمضان, وهو يصوم شهرا كاملا..." (10). و " كان الإتهام يوجّه أحيانا إلى المورسكيين جملة على أثر بعض الحملات الفجائية على المحلات المورسكية, فقد حدث مثلا في سنتي 1589م-1590 أن سجلت مائة قضية في قرية "مسلاته"المورسكية بالقرب من بلنسية و سجلت في قرية "كارليت" مائتان, و اتهمت أربعون أسرة بصوم رمضان." (11)

و لتفادي المراقبة النصرانية عمل الأندلسيون على احتراف مهن تٌبعدهم عن أعين الوشاة حتى يتمكنوا من أداء شعائرهم الإسلامية في اطمئنان نسبي. و هكذا فقد اشتغلوا بمهنة نقل البضائع حيث كانوا يقضون رمضان في قرى غير قراهم أو في طريقهم إلى مدينة أخرى. و قد شكل لهم هذا فرصة لدعوة الأندلسيين إلى الإسلام و تعليمهم أمور دينهم, فلله ذرهم قد كانوا دعاة في قلب البلد الكاثوليكي المتعصّب.

"في إحدى الرحلات التي كان يسيرها بدرو زامورانو(Pedro Zamorano) اجتهد هذا الأرقوني لإقناع المورسكي الوحيد الذي رفض الصوم - إذ كانت الرحلة في شهر رمضان -بحتمية احترامه لهذه القاعدة الإسلامية" (12)

و لننظر من خلال القضايا أدناه المحفوظة في أرشيفات محاكم التفتيش إلى هم الدعوة عند الأندلسيين : "في عام 1524م كان أغوستين دي ثيلي Agustin de celei, وهو نسّاج من ديثا, غالبا ما يذهب إلى أراغون لزيارة أقاربه و أصدقائه. و كان ميغيل دي ديثا يذهب إلى مولد سان أندرس دي داروقا San Andres de Daroca و قام ماتيو ألموتثان Mateo Almotazan برحلة من ديسا إلى سرقسطة و علّمه المورسكيون الأراغونيون كيف يصوم رمضان و متى. " و كان غريغوريو غورغاث Gregorio Gorgaz, العمدة الإعتيادي لديثا, يمتلك بعض خلايا النحل في سيستريكا و كان يذهب إلى هناك كثيرا, قام المورسكيون بهذا الإقليم بتعليمه صيام رمضان و الصلاة و الطهارة...و كان لويس إيرناندبيث, أحد ناقلي البضائع, قد تعلّم كل ما يتعلق بالإسلام في أراغون التي كان يمرّ بها في أسفاره, وهناك و بإرادته قطع على نفسه عهدا أن يكون مسلما. و سافر لويس دي أورتوبيا إلى قطالونيا لبيع حمولنه عندما بدأ رمضان, و أراد أصدقاؤه الأراغونيون أن يصوم معهم, ولما لم يتمكنوا من إقناعه حملوه إلى قرية بها فقيه مشهور كي يعلمه الصيام و يحوله إلى الاسلام. " (13)

وقد ساعد بعض النصارى القدامى المورسكيين على أداء شعائرهم الدينية بما فيها الصلاة و الصيام لكن محاكم التفتيش كانت لهم بالمرصاد و حاكمتهم بتهمة حماية المورسكيين و إبقائهم على دينهم الإسلامي. و أذكر هنا حالة النصراني سانشو دي كاردونا أدميرال المقيم ببلنسية و الذي اتهم في 14 مايو 1568م بحماية المورسكيين و تمكينهم من أداء شعائرهم الإسلامية حيث قام ببناء مسجد لهم. و جاء في محضر الإتهام : " كان أمر تشييد المسجد معلوما, و كان وفود المورسكيين إليه معلوما, وكانت الفضيحة كبيرة وصلت إلى مسامع أسقف بلنسية, ثم إلى مسامع جلالة الملك فيليبي سيدنا, و بأمر صاحب الجلالة -كمسيحي مخلص - هُدم المسجد, و رغم هدمه فقد استمر قائما كمكان يعيش فيه المورسكيون بدعم من السيد سانشو. إن رعايا السيد سانشو من المتنصرين (المورسكيون) قد واصلوا أداء شعائر طائفتهم الخاصة بالزفاف و الزواج, و الخاصة بصيام رمضان, و الإحتفال بالأعياد التي يحتفل بها المسلمون, وختان الذكور كبارا و صغارا" (14) و الشاهد هنا هو استمرار المورسكيين في صيام رمضان حتى بعد عقود من فرض التنصير عليهم و محاولة طمس هويتهم الإسلامية.

و قد أبدى أسقف مدينة سيقوربي مارتين دي سالبترا سنة 1587م (حوالي 95 عاما على سقوط غرناطة) امتعاضه من استمرار المورسكيين في صيام شهر رمضان قائلا : " إنه من المشهور أنهم لم يصوموا أي صيام مسيحي, بل يصومون صيام المسلمين, خاصة ما يُسمى برمضان....و لكي يخفي المورسكيون ذلك فإنهم يذهبون إلى مزارعهم, ويقضون وقتهم هناك إلى أن يحل الظلام, فيعدون عشاءهم و طعامهم في سرية, و يؤدون بقية شعائرهم كالصلاة و الوضوء, وهي شعائر يأمر بها محمد في القرآن." (15)

و قد امتد الوجود الأندلسي المورسكي حتى القارة الأمريكية رغم منعهم من السفر إلى أمريكا و سجلت دواوين التفتيش بمكسيكو اصطباغ حياة العديد من الأسر بالمظاهر الإسلامية. و كان صيام رمضان أهم هذه المظاهر و هذا ما أكدته دراسة بالمؤتمر الأول للأدب الخميادو-المورسكي بمدينة أفييدو الإسبانية سنة 1972, حيث جاء في هذه الدراسة :"و في حالات أخرى فقد ضبط المسلمون, على حين غفلة عندما يقيمون الصلاة أو يصومون رمضان"

وختاما لهذا الموضوع الذي بيّن جزءا بسيطا من محنة الأندلسيين في شهر رمضان, أسأل الله أن يرحم أولئك الأندلسيين الذين قضوا على يد محاكم التفتيش الإسبانية و أن يسكنهم فسيح جنانه.
و صلى الله و سلّم على محمد و على أله أجمعين. و الحمد لله رب العالمين.

--------------------------------------------------------------


الهوامش



(1) (من كتاب "المورسكيون الأندلسيون للإسبانية مرثيدس غارسيا أرينال و ترجمة الدكتور جمال عبد الرحمان. ص 100)

(2) كتاب "محاكم التفتيش و المورسكيون" لللإسبانية غارسيا مرثيدس أرينال. ترجمة الدكتور جمال عبد الرحمن. ص 66

(3) كتاب "مسلمو مملكة غرناطة بعد عام 1492م" لخوليو كارو باروخا. ترجمة جمال عبد الرحمان. ص129.

(4) أرشيف محاكم التفتيش بكوينكا. ملف 249. رقم3363.

(5) أرشيف محاكم التفتيش بكوينكا. ملف 375. رقم5322.

(6) أرشيف محاكم التفتيش بكوينكا. ملف 237. رقم3072.

Llorente : Historia critica…t2 p 283 (7)
كتاب المورسكيون الأندلسيون و المسيحيون: المجابهة الجدلية للفرنسي لوي كاردياك. ص 115

(8) الأرشيف التاريخي الوطني الإسباني ملف 192 رقم4.
كتاب المورسكيون الأندلسيون و المسيحيون: المجابهة الجدلية للفرنسي لوي كاردياك. ترجمة الدكتور عبد الجليل التميمي.ص 25.

(9) (من كتاب "المورسكيون الأندلسيون" للإسبانية مرثيدس غارسيا أرينال و ترجمة الدكتور جمال عبد الرحمان. ص 167و 168)

(10) كتاب "محاكم التفتيش و المورسكيون" لللإسبانية غارسيا مرثيدس أرينال. ترجمة الدكتور جمال عبد الرحمن. ص 149.

(11) ص 375 . كتاب "المسلمون المنصّرون" للدكتور عبد الله محمد جمال

(12) (أرشيف دواوين محاكم التفتيش بكوينكا. ملف 376.رقم 5335)
كتاب المورسكيون الأندلسيون و المسيحيون: المجابهة الجدلية للفرنسي لوي كاردياك. ص 74.

(13) كتاب "محاكم التفتيش و المورسكيون" لللإسبانية غارسيا مرثيدس أرينال. ترجمة الدكتور جمال عبد الرحمن. ص 92.

(14) (من كتاب "المورسكيون الأندلسيون للإسبانية مرثيدس غارسيا أرينال و ترجمة الدكتور جمال عبد الرحمان. ص 147)

(15) (من كتاب "المورسكيون الأندلسيون للإسبانية مرثيدس غارسيا أرينال و ترجمة الدكتور جمال عبد الرحمان. ص 157)


بقلم /أبو تاشفين هشام بن محمد المغربي.

كاتب بمجلة أنا المسلم الإسلامية متخصص في شؤون المسلمين الأندلسيين.






المصدر: طريق الإسلام