ولو فِرسن شاة!!

منذ 2015-02-21

مظهرٌ قد تفشى وانتشر بين النساء المسلمات ولكن النهيَ عنه والتحذيرَ من الوقوعِ فيه قد وردَ على لسانِ الصادقِ المصدوقِ صلى الله عليه وسلم؛ ألا وهو (احتقار الهدية) والتقليل من شأنها والسخرية من صاحبتها.

مظهرٌ قد تفشى وانتشر بين النساء المسلمات ولكن النهيَ عنه والتحذيرَ من الوقوعِ فيه قد وردَ على لسانِ الصادقِ المصدوقِ صلى الله عليه وسلم؛ ألا وهو (احتقار الهدية) والتقليل من شأنها والسخرية من صاحبتها.

فكم من النساء المسلمات تهدي جاراتها وصاحباتها في المناسبات بعض الهدايا البسيطة، ثم تأتي المرأة المُهدَى إليها فتحتقر تلك الهدية ثم تقول بلسان حالها ومقالها: "ما هذه الهدية الرخيصة! إنها لا تليق بي وبمقامي!! ألم تجد شيئًا أقيم من هذه الهدية لتهديني إياه!!" وقد تغتاب الأخت التي أهدتها وتقول عنها إنها قليلة الذوق، وتفضحها في المجالس، بل وقد ترمي الهدية وتفرط فيها.

ومن الناحية الأخرى نجد أن كثيرًا من المسلمات ميسورات الحال قد أحجمن عن إهداء جاراتهن وصديقاتهن حرجًا من أن تكون قيمة الهدية قليلة وثمنها رخيص.

لكن النبي صلى الله عليه وسلم سهّل علينا هذا الأمر وأمرنا بعدم التكلف في الهدية، كما أمرنا أيضًا بعدم احتقار الهدية مهما قل شأنها ورخصت قيمتها.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ» (متفقٌ عليه).


معاني المفردات:

- قوله «يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ»: ذكر عياض في إعرابه ثلاثة أوجه أصحها وأشهرها نصب النساء وجر المسلمات على الإضافة وهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه والموصوف إلى صفته.

- قوله «جارة»: الجارة مؤنث الجار، ويقال للزوجة جار لأنها تجاور زوجها في محل واحد، وقيل العرب تكني عن الضرة بالجارة تطيرًا من الضرر، ومنه كان ابن عباس ينام بين جاريته.

- قوله «لجارتها»: ظاهره المرأة التي تجاور المرأة التي تسمى جارة مؤنث الجار.

- قوله «فِرْسِن»: بكسر الفاء والمُهملة بَينهما راء ساكنَة وآخره نُون: هو عَظْم قَلِيل اللَّحْم، وهو لِلْبَعِيرِ مَوضِع الحَافر لِلْفرَسِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّاة مَجازًا، وَنُونه زائدة وقِيل أصلية، وأُشِير بذلك إلى المبالغة في إهداء الشيء الْيَسِير وَقَبُوله لا إلى حَقِيقَة الْفِرْسِن لأنه لم تَجرِ العَادَة بإهدائِهِ.


شرح الحديث:

نهى النبي صلى الله عليه وسلم النساءَ مِن استحقارِ أن تُهدي لجارتها هديةً قد تظن أنها غَير ذاتِ قِيمة، بَل ينبغي عَليها أنْ تهادِي جَارتها بما هو مُتاحٌ عِندها حتى ولو قلَّ شأنه. كما أنه ينبغي للمرأةِ المسلمةِ التي تُهديها جَارتها شيئًا أن لا تحتقرَ هذا الشيء ولا تُقلل من قيمته ولا تتأفف أن تأخذه ولا ترده على صاحبته.. بل تأخذه بعين الرضا وتشكر لجارتها حسن صنيعها.

قال ابن حجر في (فتح الباري): "أي لا تمنع جَارة من الْهدِية لِجَارتها المَوجُود عِندهَا لِاستقلالهِ بَل يَنبغِي أَن تجودَ لها بِما تَيسَّرَ وإن كَان قَليلًا فَهو خَيرٌ مِنْ الْعَدَم، وَذِكْر الْفِرْسِن عَلَى سَبِيل المُبالغة، وَيُحتمَل أَنْ يَكُونَ النهي إِنمَا وَقَع لِلْمُهْدَى إِليها وَأَنَّها لَا تَحْتقِرُ ما يُهْدَى إِلَيْهَا وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا، وَحَمْله علَى الأَعم مِن ذلِك أَولَى".

وقال في موضعٍ آخر: "أي لا تحقرنَّ أن تهدي إلى جارتها شيئًا ولو أنها تُهدي لها ما لا يُنتَفع به في الغالب، ويُحتمَل أن يكونَ من بابِ النهي عن الشيء أمرٌ بضده، وهو كِناية عن التحابُب والتوادُد، فكأنه قال: لِتُوادِد الجارةُ جارتها بهدية ولو حقُرت، فيتساوى في ذلك الغني والفقير، وخص النهي بالنساء لأنهن موارد المودة والبغضاء، ولأنهن أسرعُ انفعالًا في كل منهما. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون النهي للمُعطية، ويحتمل أن يكون للمُهدى إليها. قلت: ولا يتم حمله على المُهدَى إليها إلا بجعل اللام في قوله (لجارتها) بمعنى مِن ولا يمتنع حمله على المعنيين".

وقال العيني في (عمدة القاري): "والمقصود أنها تهدي بحسب الموجود عندها ولا يُستحقر لقلته؛ لأن الجود بحسب الموجود، والوجود خيرٌ من العدمِ، هذا ظاهرُ الكلامِ. ويُحتمل أن يكون النهي واقعًا للمُهدى إليها وأنها لا تحتقر ما يُهدى إليها ولو كان حقيرًا".


الفوائد والعبر المستفادة من الحديث:

- النهي عن الاحتقار؛ فلا تحتقر المعطية هديتها لجارتها، ولا تحتقر المُهدى إليها الهدية حتى وإن كانت بسيطة. وكذلك لا يحتقر المؤمنُ أخاه المؤمنَ في كل شأنه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الكبر وأشار أنه: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبر»، والكبر هو: «بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» (أخرجه مسلم)، والغمط هو الاحتقار.

- الحض على التهادي ولو باليسير لأن الكثير قد لا يتيسر كل وقت، وقد أوصانا النبي عليه الصلاة والسلام بالهدية حين قال: «تهادوا تحابوا» (أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وحسّنه الألباني). فالهدية تستجلب المودة وتُذهب الشحناء والبغضاء. "وفي الحديث الحض على التهادي ولو باليسير لما فيه من استجلاب المودة وإذهاب الشحناء، ولما فيه من التعاون على أمر المعيشة. والهدية إذا كانت يسيرة فهي أدل على المودة وأسقط للمؤنة وأسهل على المهدي لاطراح التكلف، والكثير قد لا يتيسر كل وقت والمواصلة باليسير تكون كالكثير" (تحفة الأحوذي).

- الوصية بالجار، وما أكثر الآيات والأحاديث النبوية التي توصينا بجيراننا، قال صلى الله عليه وسلم: «ما زالَ جِبريلُ يوصيني بالجَارِ حتَّى ظنَنتُ أنَّهُ سيورِّثُهُ» (متفقٌ عليه)، وقال عليه السلام: «لا يدخلُ الجنةَ مَنْ لا يأمَنُ جارُه بوائِقَهُ» (السلسلة الصحيحة).

- "وَفِيهِ اِسْتِحْبَاب الْمَوَدَّة وَإِسْقَاط التَّكَلُّف" (فتح الباري).

- و"فيه تحريض على الخيرِ إلى أحدٍ ولو كان بشيءٍ حقيرٍ" (عمدة القاري).

 

ومن هنا وجب عليكِ أختي المسلمة أن تجتنبي ما نهى عنه نبيك صلى الله عليه وسلم وأن لا تخجلي من أن تهدي جارتكِ أو صديقتكِ أي هديةٍ حتى ولو كانت بسيطة، وأن تتقبلي هدايا جارتكِ وصديقتكِ وقريبتكِ دون التقليل من شأنها والحط من قيمتها، جعلني الله وإياكِ ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والحمد لله رب العالمين.

 

-----------------
المراجع:
- فتح الباري شرح صحيح البخاري- ابن حجر العسقلاني.
- عمدة القاري شرح صحيح البخاري- بدر الدين العيني.
- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي- المباركفوري.
- المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (شرح النووي)- النووي.