احتساب امرأة فرنسية

منذ 2015-02-22

تقول هذه المرأة: "تخرجت من مدارس (الماردي ديبيه) ثم في قسم الصحافة بكلية الآداب، عشت مع جدتي والدة الفنان (أ) فهو عمي.. كنت أجوب طرقات حي الزمالك، وأرتاد النوادي وكأنني أستعرض جمالي أمام العيون الحيوانية بلا حرمة تحت مسميات التحرر والتمدن. وكانت جدتي العجوز لا تقوى عليّ، بل حتى أبي وأمي، فأولاد الذوات هكذا يعيشون، كالأنعام، بل أضل سبيلاً، إلا من رحم الله - عز وجل -.

كثير من المسلمين في هذه الأيام من يعيش عيشة التيه والضياع، ويتخبط في دياجير الظلام، ويسرف على نفسه باقتراف الذنوب والآثام، متناسين الحلال والحرام، ومتجاهلين لتعاليم الملك العلام، وشريعة خير الأنام، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، ومع هذه الانحرافات التي يقع فيها الكثير من المسلمين إلا أننا نرى مصابيح تنير للسائرين، وعلامات توجه السالكين، وتدلهم على طريق النجاح والفلاح، ولعل من خلال القصة التي سنذكرها يتبين لنا ما وصل إليه حال بعض المسلمين والمسلمات، وكيف كان أثر الاحتساب من امرأة مسلمة فرنسية على امرأة مسلمة عربية عاشت بين أظهر المسلمين ولكن حياتها غايرت حياة المسلمات، فكان لاحتساب تلك المرأة المسلمة الفرنسية أثر عظيم في رجوع أختنا المسلمة العربية.

تفاصيل القصة:

تقول هذه المرأة: "تخرجت من مدارس (الماردي ديبيه) ثم في قسم الصحافة بكلية الآداب، عشت مع جدتي والدة الفنان (أ) فهو عمي.. كنت أجوب طرقات حي الزمالك، وأرتاد النوادي وكأنني أستعرض جمالي أمام العيون الحيوانية بلا حرمة تحت مسميات التحرر والتمدن. وكانت جدتي العجوز لا تقوى عليّ، بل حتى أبي وأمي، فأولاد الذوات هكذا يعيشون، كالأنعام، بل أضل سبيلاً، إلا من رحم الله - عز وجل -.

حقيقة كنت في غيبوبة عن الإسلام سوى حروف كلماته، لكنني برغم المال والجاه كنت أخاف من شيء ما.. أخاف من مصادر الغاز والكهرباء، وأظن أن الله سيحرقني جزاء ما أنا فيه من معصية، وكنت أقول في نفسي إذا كانت جدتي مريضة وهي تصلي، فكيف أنجو من عذاب الله غداً، فأهرب بسرعة من تأنيب ضميري بالاستغراق في النوم أو الذهاب إلى النادي.

وعندما تزوجت، ذهبت مع زوجي إلى فرنسا لقضاء ما يسمى بشهر العسل، وكان مما لفت نظري هناك، أنني عندما ذهبت للفاتيكان في روما وأردت دخول المتحف البابوي أجبروني على ارتداء البالطو أو الجلد الأسود على الباب.. هكذا يحترمون دياناتهم المحرفة.. وهنا تساءلت بصوت خافت: فما بالنا نحن لا نحترم ديننا؟؟! وفي أوج سعادتي الدنيوية المزيفة قلت لزوجي: أريد أن أصلي شكراً لله على نعمته، فأجابني: افعلي ما تريدين، فهذه حرية شخصية!!، وأحضرت معي ذات مرة ملابس طويلة وغطاء للرأس ودخلت المسجد الكبير بباريس فأديت الصلاة، وعلى درب المسجد أزحت غطاء الرأس، وخلعت الملابس الطويلة، وهممت أن أضعها في الحقيبة، وهنا كانت المفاجأة.. اقتربت مني فتاة فرنسية ذات عيون زرقاء لن أنساها طول عمري، ترتدي الحجاب.. أمسكت يدي برفق وربتت على كتفي، وقالت بصوت منخفض: لماذا تخلعين الحجاب؟! ألا تعلمين أنه أمر الله!!.. كنت أستمع لها في ذهول، والتمست مني أن أدخل معها المسجد بضع دقائق، حاولت أن أفلت منها لكن أدبها الجم، وحوارها اللطيف أجبراني على الدخول، سألتني: أتشهدين أن لا إله إلا الله؟.. أتفهمين معناها؟.. إنها ليست كلمات تُقال باللسان، بل لا بد من التصديق والعمل بها.. لقد علمتني هذه الفتاة أقسى درس في الحياة.. اهتز قلبي، وخضعت مشاعري لكلماتها، ثم صافحتني قائلة: انصري يا أختي هذا الدين، خرجت من المسجد وأنا غارقة في التفكير لا أحس بمن حولي، ثم صادف هذا اليوم أن صحبني زوجي في سهرة إلى (كبارية.. )، وهو مكان إباحي يتراقص فيه الرجال مع النساء شبه عراياً، ويفعلون كالحيوانات، بل إن الحيوانات لتترفع من أن تفعل مثلهم.. كرهتهم، وكرهت نفسي الغارقة في الضلال.. لم أنظر إليهم، ولم أحس بمن حولي، وطلبت من زوجي أن نخرج حتى أستطيع أن أتنفس.. ثم عدت فوراً إلى القاهرة، وبدأت أولى خطواتي للتعرف على الإسلام. وعلى الرغم مما كنت فيه من زخرف الحياة الدنيا إلا أنني لم أعرف الطمأنينة والسكينة، ولكني أقترب إليها كلما صليت وقرأت القرآن. واعتزلت الحياة الجاهلية من حولي، وعكفت على قراءة القرآن ليلاً ونهاراً.. وأحضرت كتب ابن كثير وسيد قطب وغيرهما.. كنت أنفق الساعات الطويلة في حجرتي للقراءة بشوق وشغف.. قرأت كثيراً، وهجرت حياة النوادي وسهرات الضلال.. وبدأت أتعرف على أخوات مسلمات. ورفض زوجي في بداية الأمر بشدة حجابي واعتزالي لحياتهم الجاهلية، لم أعد أختلط بالرجال من الأقارب وغيرهم، ولم أعد أصافح الذكور، وكان امتحاناً من الله، لكن أولى خطوات الإيمان هي الاستسلام لله، وأن يكون الله ورسوله أحب إليّ مما سواهما، وحدثت مشاكل كادت تفرق بيني وبين زوجي.. ولكن الحمد لله فرض الإسلام وجوده على بيتنا الصغير، وهدى الله زوجي إلى الإسلام، وأصبح الآن خيراً مني، داعية مخلصاً لدينه، أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحداً. وبرغم المرض والحوادث الدنيوية، والابتلاءات التي تعرضنا لها فنحن سعداء ما دامت مصيبتنا في دنيانا وليست في ديننا"[1].

من هذه القصة نأخذ دروسا وعظات وعبراً، ومنها على سبيل المثال ما يأتي:

الأول: حال هذه المرأة نموذج لحال كثير من المسلمين والمسلمات الغارقين في بحار الظلمات والشهوات، الذين هم بعيدون عن منهج الله - سبحانه وتعالى -، وهم في أمسِّ الحاجة إلى من يذكرهم بالله - سبحانه - ويدلهم على شرعه وهديه، وهذا الأمر يؤكد لنا ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذين حثنا عليهما القرآن الكريم (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104].

الثاني: عدم احتقار أي جهد يبذل في سبيل دعوة الناس إلى الخير، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ويتضح ذلك من خلال ما قالته تلك المرأة من كلمات قليلة كانت سببا في عودة امرأة مسلمة -كانت غارقة في الملذات والشهوات- إلى دين ربها - سبحانه - الذي يأمرها بأداء الفرائض وفعل الخيرات وترك المنكرات ولبس الحجاب والبعد عن أماكن الاختلاط والريبة، تلك الكلمات الاحتسابية غيرت مجرى حياة تلك المرأة -كما يقال- رأسا على عقب، وتعدى هذا التغيير إلى زوجها فأصبح داعية إلى الله - سبحانه وتعالى -، فسبحان مقلب القلوب، هذا الدرس ينبغي أن تعرفه الأخت المحتسبة فتمارسه حياة عملية.

الثالث: من أهم الأمور التي ينبغي التركيز عليها إيقاظ الضمير ومخاطبة القلوب التي غطت عليها أغشية المعاصي، فهذه المرأة من خلال قصتها نرى أنها مع ما كنت فيه من سوء الحال إلا أنها كانت تخاف من الله أن يعذبها، وتطلب من زوجها أن يتركها تصلي، وتستنكر ما تفعله مقابل تمسك النصارى بشعائرهم، -وهي مسلمة ولكنها قد تخلت عن قيمها وشعائر دينها-، هذه الأمور تجعل المحتسبة لا تيأس من نفور بعض المحتسَبِ عليهن أو تباطؤهن في الاستجابة، فقد تكون تلك الكلمات التي تطرحها ستغير من مجرى حياة الكثير منهن ومتى أراد الله لهن الهداية نمت تلك البذرات التي غرستها تلك المحتسبة في قلوبهن.

الرابع: تفريط الراعي يضيع الرعية، فهذه المرأة لم يحسن الأبوان تربيتها، ولم يرعياها كما أمر الله، وانتقلت إلى زوجها فأضافت إلى ضياعها ضياعا آخر، وهذا يجعلنا نؤكد على دور الراعي الذي استرعاه الله على من تحت يده، فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كلكم راع فمسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته))[2]، وعن معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من استرعاه الله رعية فمات وهو غاش لها إلا حرم الله عليه الجنة))[3]، فولي المرأة هو المسؤول عنها سواء أكان أبا أو أخا أو زوجا، والله سائله عن هذه الأمانة هل حفظها أم ضيعها.

الخامس: أثر الرفق عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فرفق هذه المرأة ترك الأثر البالغ في قلب العائدة إلى الله وهذا الأمر ينبغي أن تتنبه إليه المحتسبة عند احتسابها، وقد حثنا على هذا الخلق العظيم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - الصادق الأمين فقال: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه))[4]، وقال: ((إن الله رفيق، يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه))[5]، فتحرص المحتسبة على هذا الخلق العظيم وتتحلى به.

السادس: حسن الخطاب وجودة الأسلوب الذي تميزت به تلك المحتسبة، فلو نظرنا إلى خطابها الجميل وأسلوبها الرائع الذي أسرت به قلب أختنا التائبة، ولعلنا نلمس هذا من خلال قولها: "لن أنساها طول عمري، ترتدي الحجاب.. أمسكت يدي برفق وربتت على كتفي، وقالت بصوت منخفض: لماذا تخلعين الحجاب؟! ألا تعلمين أنه أمر الله!!.. كنت أستمع لها في ذهول، والتمست مني أن أدخل معها المسجد بضع دقائق، حاولت أن أفلت منها لكن أدبها الجم، وحوارها اللطيف أجبراني على الدخول. سألتني: أتشهدين أن لا إله إلا الله؟.. أتفهمين معناها؟.. إنها ليست كلمات تُقال باللسان، بل لا بد من التصديق والعمل بها.. ".

هذه القصة عند التأمل فيها نجد أنها مليئة بالدروس والعبر، ولعل ما ذكرناه كان من أهم الدروس التي احتوت عليها والقارئ سيأخذ دروسا أخرى.

نسأل الله بمنه وكرمه أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، والحمد لله رب العالمين.

 

[1] العائدات إلى الله (ص 5).

[2] رواه البخاري (2/901) رقم (2416).

[3] المعجم الكبير (20/206) رقم (472).

[4] صحيح مسلم (4/2004) رقم (2594).

[5] صحيح مسلم (4/2003) رقم (2593).


منصور صالح حسين الجادعي