نماذج ذكية من الحسبة النسوية
ولا شك أننا كلنا بحاجة إلى تلاقح الأفكار، وتبادل الخبرات والاستفادة من التجارب العملية والعلمية في مجال الدعوة إلى الله - تعالى -، ولأجل هذا خط سوادُ القلم في هذه البيضاء، وصاحبُه راجٍ تغذيةً راجعة من قرَّائه، وخبراتٍ ناجعة لدى نظرائه، وتوجيهات رائعة ممن لهم سبق في هذا المضمار وكثير ما هم.
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فقد قيل: الحاجة أم الاختراع، والتفكير يولد الإبداع، وإذا بلغت في النفس الدعوة إلى الله مبلغاً تكون كالحاجة أو الضرورة، فلا شك أن النفس ستتحايل كثيراً في الوصول إلى ما تهفو إليه.
ولعل كثيراً من الداعيات إلى الله يجدن في أنفسهن تساؤلات عن بعض الأخطاء الموجودة كيف تنكرها بأسلوب مقنع، أو طريقة مجدية، وكيف تستخدم وسيلة ناجحة.
ولا شك أننا كلنا بحاجة إلى تلاقح الأفكار، وتبادل الخبرات والاستفادة من التجارب العملية والعلمية في مجال الدعوة إلى الله - تعالى -، ولأجل هذا خط سوادُ القلم في هذه البيضاء، وصاحبُه راجٍ تغذيةً راجعة من قرَّائه، وخبراتٍ ناجعة لدى نظرائه، وتوجيهات رائعة ممن لهم سبق في هذا المضمار وكثير ما هم.
والأمل الوصول إلى استخراج الأسلوب الحكيم والطريقة المثلى والتجربة الموفقة من مواقف لبعض الداعيات المحتسبات، والإفادة منها، بغض النظر عن نوع القصة وموضوعها؛ إذ المراد هو معرفة كيفية طريقة الصيد، لا نوع السمكة، وإن ذكرت القصة فإنما للمثال والتوضيح ولحكاية تجربة ناجعة.
- وأحسب أن من أنجح المؤثرات في التغيير بعد توفيق الله القدوةَ الحسنةَ، فإنها لا مثيل لها في كثير من الأخطاء، فكلنا سمع بمشورة أم سلمة - رضي الله عنها - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين لم يحلق الصحابة - رضي الله عنهم - لأملهم في تيسير الله لهم بعمرة في بيته الحرام، فأخبرته أن يحلق وسيراه الناس فيحلقون، فما وني الصحابة ولا تراجعوا حينئذ في حلاقة بعضهم لبعض..فدلَّ ذلك على أن أم سلمة - رضي الله عنها - تدرك أن الحسبة بالقدوة لها أثر نافع، بأن تظهر المحتسبة على وفق ما تدعو إليه، وخلاف ما تنهى عنه، وهذا أسهل شيء تقوم به المحتسبة في أي شيء، سواء في العبادات والفضائل تقوم بفعلها، أو في المنكرات والرذائل تقوم بتركها، فذلك وحده كافٍ للتأثر، وهو نوع من الاحتساب الصامت.
- والحسبة الصامتة لها دور رائع في التأثير، لكونها لا تسبب إحراج المحتسب عليها، ولا حتى المحتسِبة، بل يمارس شيئاً دون أن يتعرض للآخر، ولكن يريه ويشعره بما يفعل كي تصل الرسالة، فالتجارب في هذا كثيرة مسموعة ومقروءة، ومن أجمل منتقى الروايات ما حكته إحدى الغارقات: "كنت أجمع الشعر الساقط، وأحفظه، وأتداوله مع الفتيات..
كنا نظن أن تلك سعادة..
ولكنَّ الله أراد لي هداية ونجاة من أمواج الشهوات..
جلست في إحدى المحاضرات يوماً في الكلية بجانب فتاة صالحة مستقيمة..
كانت قد كتبت على دفتر محاضراتها هذا الدعاء: (اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك)..
قلت: نحن نكتب الشعر الساقط.. وهؤلاء الفتيات يكتبنَ مثل هذه الكلمات..
فهزتني الكلمات، وتأثرت بها تأثيراً شديداً..
فأخذت أبكي..
وشعرتْ هي ببكائي، وسألتني عن السبب..
فأخبرتها بأنه الدعاء المكتوب على دفتر محاضراتها لقد أثر فيني[1].
وهذه ليست عفوية في جامعة تكثر فيها الغارقات، بل دالة على أن صاحبة الدفتر تحمله معها وتيسره أن يكون عُرضة للأعين، فكانت هذه ثمرةً من ثمار حسبتها الصامتة.
ولقد أسلمت فتاة أمريكية بحسبة صامتة أخرى، تكمن في إظهار أحكام الشريعة أنها كانت تعمل على آلة الحساب -قبض النقود في إحدى المحلات- وأنها كانت ترى بعض النساء يأتين للشراء من المحل وهن في حجاب كامل لا يظهر منهن شيء، فهذا المظهر كان منظراً غريباً جداً في ذلك المكان، وفي يوم من الأيام سألت إحداهن عندما كانت تحاسب، وقالت: ما هذا الذي ترتدينه؟ ولماذا ترتدينه؟ فشرحت لها أنها امرأة مسلمة، وهي زوجة أحد الطلاب الذين يدرسون في تلك المدينة الجامعية، وأنها مسلمة والإسلام يفرض عليها الحجاب، والله أوجب الحجاب ستراً للمرأة وصيانةً لها... إلخ، فكان هذا شيئاً قدح في نفس تلك المرأة الكافرة الإعجاب بهذا الدين، قالت: فرجعت إلى بيتي، وأخذت قطعة طويلة من القماش، فغطيت بها رأسي، وارتديت معطفاً ذا كم طويل، فأعجبني منظره، وذهبت بعد ذلك إلى مركز إسلامي قريب لأسأل عن هذا الدين، وما مكوناته، وما هي شعائره، فاطلعت وقرأت حتى اقتنعت ودخلت في الدين، والتزمت الحجاب، ما هو السبب؟ إنه ذلك التمسك بأحكام الشريعة التي قامت به تلك المرأة في ديار الكفر[2].
- وإذا كان الدعاء للمحتسب عليه نافعاً، فإن الدعاء على صاحب المنكر عند الضرورة قد يكون موصلا للنتيجة: خاصة في مثل الحالات المستعصية، والغرض إظهار الغضب والبغض من المنكر وعدم تسويل النفس به، لاسيما عند مواجهة الدعوة إليه، فعلى سبيل المثال: "فتاة سَمِعَتْ مُتّصلاً يُحاول الخضوع لها في القول، فأغلقت السماعة، ثم حاول مرة ثانية فَدَعَتْ عليه دعوةً شديدة، فما عاود الاتصال"[3].
- ومن الطرق الحكيمة إبداء الحزن والتحسر على المنصوح، على سبيل الخصوص إن كان الناصح محبباً إلى المنصوح، وقد جرت قصص وأحداث كثيرة في هذا من ذلك: ما "حكي أن شخصاً ذهب في سفر ومعه أخواته، وأدخل شريط الموسيقى في جهاز السيارة وأخذ يستمع، فنهرته أخته الملتزمة، فلم ينته، فأعادت عليه، فسخر منها، تأثرت لموقفه، وفي الطريق حدث حادث وماتت هذه الفتاة الملتزمة، فبقيت حسرة في نفس أخيها، إذ إن هذه الفتاة [أخته] ماتت وفي قلبها حسرة لمَ لمْ يطعها، ولم يستجب لطلبها.. فكانت تلك الحادثة سبب هدايته[4]. حيث شعر أن أخته ماتت وهي آخذة في نفسها عليه.
- ومن الطرق الناجحة في الاحتساب: اللباقة وحسن الجواب، فأثرُ ذلك قوي في ردع صاحب المنكر، وزجر ذوي العناد والسخرية، فما أجمل ما يكون من جواب مسكت، مفحم، كأنما وضعت حجر في فيه!، كما جرى لأخت مسلمة هي إحدى الطالبات في إحدى البلدان العربية، وقد قيل لها: كيف تتحجبين وقد وصل الإنسان إلى القمر؟ فأجابت: وهل الناس بحاجة إلى شعري ليجعلوه حبالا للتسلق إلى القمر؟!.
- ومن الطرق الحكيمة إشعار الآخرين بالعزة بفعل المعروف ومضادة المنكر، وعدم الضعف في وجه المنكَر عليه، فإن ذلك يكون له أثره حتى يلتحق بركبه آخرون، وربما انهار الطرف الآخر بخطئه، فلقد سددت رميتها إحدى المسلمات الداعيات حين سألَتها إحدى الفتيات الأمريكيات عن معنى الحجاب فأجابت:... وهذا إعلان عن شخصيتي واختياراتي في الحياة. فمن يرى حجابي من الشباب يعلم عن وجهتي الأخلاقية، فمثلا إن حصلت على علامة جيدة من أستاذٍ ما، علمت أنها باستحقاقي، ولم أتخوف من الأسباب التي دفعته إلى ما فعل، وكذلك إن ساعدني أحدهم في المدرسة كأن وقع عليَّ كتاب فأعطانيه لم أتخوف من نيته، وهكذا.. فالحجاب سبب في اطمئناني في الحياة بالإضافة إلى أشياء أخرى، فوافقتها تلك الفتاة الأمريكية قائلة -وكانت تلبس الـ "شورت" وهو سروال قصير-: أنت على صواب وإنك حرة في حجابك ولباسك أكثر مني في "شورتي".
- ومن الطرق الناجحة استغلال الفرص عند الحاجة، كما فعلت أم سليم - رضي الله عنها - حينما خطبها أبو طلحة، فقالت: إنه لا ينبغي أن أتزوج مشركا، أما تعلم يا أبا طلحة أن آلهتكم ينحتها عبد آل فلان، وأنكم لو أشعلتم فيها ناراً لاحترقت. فانصرف وفي قلبه ذلك، ثم أتاها، وقال: الذي عرضتِ عليَّ قد قبلتُ. قال: فما كان لها مهر إلا الإسلام[5]. فكان أغلى مهر عرفه التاريخ، وأفضل مهر، ثمرة احتسابها واستغلالها فرصة الحاجة التي أرادها أبو طلحة.. وقد وقعت مواقف كثيرة في مثل هذا المجال، فكثيراتٌ من الفتيات يتقدم لخطبتهن شابٌ يعمل بعض المحرمات أو يقصر في بعض الواجبات، فتشترط عليه، فما يكون منه إلا أن يلتزم ويستجيب.
- ومن أجمل الطرق اليوم استخدام الجوال في الحسبة بواسطة الرسائل فإنها تُحتَمل أكثر من الكلام المباشر، وتقلُّ ردةُ الفعل فيها. وكذا الرنات، فكثير اليوم يرن بعضهم على بعض؛ للتذكير بأوقات الصلوات والإيقاظ لصلاة الفجر، والبلوتوث يمكن استخدامه في نشر المقاطع المرئية والصوتية المؤثرة فبدلاً من النصح المباشر في بعض الحالات، يمكن استخدام هذه الوسائل فإن له أثراً، ومجال استخدامه بين الزميلات والقريبات ودائرة النساء؛ لئلا يفضي إلى علاقات لا تحمد عقباها فيما لو خرج عن دائرة القرابة من الرجال، والزمالة من النساء.
- ومن الطرق الجميلة إهداء ما يراد فعله أو تطبيقه، كإهداء حجاب إسلامي وجلباب ساتر، وإهداء مصحف، أو سواك، أو نحو ذلك مما لا يجد المُهدى إليه بدًّا من استخدام الهدية في حياته اليومية. وقد حكي أن امرأة تعمل في مجال التعليم الجامعي أهدت لإحدى طالباتها هدية مغلّفة، وقالت: اهتمّي بها، فلما فتحتها الطالبة وجدت مصحفاً أنيقاً جميلاً، فكان سبب هداية الطالبة[6].
- ومن الوسائل المجدية أيضاً استخدام الأوراق والبطائق والمنشورات وتوزيعها للتذكير ببعض الواجبات أو الآداب والأخلاق والسلوكيات الفاضلة، وكذا المنهيات الشرعية وحكمها، بصورة مختصرة ميسرة، دون تعقيد..
- ومن الطرق النافعة أيضاً حسن اختيار اللقطات من بعض القنوات عند زيارة الجارات والصواحب، تستطيع ضمن جلسة مفتوحة وبحركة عفوية تقليب القنوات بحثاً عن موضوع معروض أو برنامج يكون فيه نفع وتعريف بالقناة الإسلامية إن كانت الحاضرات يجهلنها، فرُّب فتاة لا تعلم عن هذه الحياة شيء، ولا تعرف إلا القنوات العامة، وتغفل وجود فضائيات دعوية علمية إسلامية..
وهكذا في كل موقف حسبة تقوم به أخت فاضلة نستلهم طريقة وأسلوباً يستفاد به، وتجربة تتحقق بها مصالح دعوية معتبرة، ولذا فلا تحتقر داعية نفسها أو جهداً لها، فعسى الله أن يكتب فيه أجراً، وسبيلاً يسلكه السالكون..
نفعنا الله أجمعين.
[1] - أحوال الغارقات: (1/6).
[2] -دروس للشيخ محمد المنجد: (125/17)
[3] - مقالات الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله السحيم: (2/429).
[4] - دروس للشيخ محمد المنجد: (125/19).
[5] - سير أعلام النبلاء: (3/271).
[6]- مقالات الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله السحيم: (2/381).
علي بن أحمد المطاع
- التصنيف:
- المصدر: