احتساب النبي صلى الله عليه وسلم على الألسن

منذ 2015-02-23

إن الله - سبحانه وتعالى - احتبس اللسان ببضع وثلاثين جنديا من العظم، وباب مطبق طبعاً لا يفتح إلا لحاجة؛ ذلك لما في اللسان من الخطر والضرر والأثر، كلها تستدعي حبسه عن كثير من ألفاظ لُغتِه فلا يتكلم بكل ما سمع.

إن الله - سبحانه وتعالى - احتبس اللسان ببضع وثلاثين جنديا من العظم، وباب مطبق طبعاً لا يفتح إلا لحاجة؛ ذلك لما في اللسان من الخطر والضرر والأثر، كلها تستدعي حبسه عن كثير من ألفاظ لُغتِه فلا يتكلم بكل ما سمع..

ولذا فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتسب على اللسان أن تقول منكراً أو تلفظ باطلاً أو تتكلم في غير إنصاف أو تبهت أحداً أو تغتاب مسلماً أو تنال من عرض، أو تقذف محصناً، أو تشهد بزور، أو تحلف يمينا فاجرة، أو تسبَّ أو تشتم أو تحتقر أو تنتقص الغير، أو تَكْذِب أو تُكَذِّب، أو تمدح فتغلو، أو تذمَّ وتلغو، أو تنطق بسوء ظنٍ فيكتب، أو تقول كلمة لا يلقي صاحبها لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً..

ولقد فوجئ معاذ - رضي الله عنها - حين ذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يُدخل الجنة وما يُبعد عن النار، وذكر أبواب الخير، ورأس الأمر وعموده وذروة سنامه ثم قال: ((ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟)) قال: قلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه، قال: ((كف عليك هذا)) فقلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم!)) قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح [1].

ولم يكن في خلد معاذ - رضي الله عنه - أن اللسان ملاك ذلك كله، ولا أنها سبب جرجرة العباد!، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - خطرها في مواطن شتى من ذلك خبر الصحيحين [2] عن أبي هريرة سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق)) وعنه أيضاً: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفع الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوى بها في جهنم)).

لمثل هذا كان - عليه الصلاة والسلام - يولي اللسان جانباً كبيراً من الاحتساب، وهو بهذه الأحاديث يحتسب على ألسنة العالم، مبينا أنه: ((كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ))[3]، فتكون قاعدة يمشي عليها كل مسلم، ولا زال النبي - صلى الله عليه وسلم - محتسباً على الألسن ما دام هذا الحديث يتجلجل في آذان العباد، واحتسابه صالح لكل زمان ومكان، فلا زالت الأجيال عطشى دون ندى كلامه - صلى الله عليه وسلم -.

وتعود الأهمية في الاحتساب على اللسان إلى صلاح العبد والمجتمع، فخير شاهدٍ خلوُّ المجتمع من منكرات اللسان لو كان كيف يكون؟، أليس يصفو ما في الصدور؟ ويسلو ما في النفوس؟، أليس تخبو البدع، وتسطو السنن؟ أليس يرجو كل أحد سلامة الجيل، ويهفو إلى جمالية التعامل اللفظي بين الناس؟.

لا زال النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - واللسانَ في شأن عظيم، كم نهى عن قولٍ شركي، وعن غلوٍ بدعي، وعن لفظ شاذٍ وعن قول منكر، وعن عبارة موهمة، وعن جملة جاهلية احتملها القوم معهم فأرجعها عنهم..

فقد غير مسميات كانت في الجاهلية كحديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تسموا العنب الكرم ولا تقولوا: خيبة الدهر فإن الله هو الدهر))[4].

ونهى عن اللعن، وإعانة الشيطان على المذنبين، فقد أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قد شرب، قال: ((اضربوه))، قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: ((لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان))[5]. "ووجه عونهم الشيطان بذلك: أن الشيطان يريد بتزيينه له المعصية أن يحصل له الخزي، فإذا دعوا عليه بالخزي فكأنهم قد حصلوا مقصود الشيطان"[6]، "فإنه إذا أخزاه الرحمن غلب عليه الشيطان، أو لأنه إذا سمع ذلك آيس من رحمة الله وانهمك في المعاصي، أو حمله اللجاج والغضب على الإصرار فيصير الدعاء وصلة ومعونة في إغوائه وتسويله"[7]. وبهذا تظهر حكمة احتسابه - صلى الله عليه وسلم - في إنقاذ البشرية.

وحذر من الكذب فيما يتساهل فيه الناس، فعن عبد الله بن عامر أنه قال: دعتني أمي يوماً ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد في بيتنا فقالت: ها تعال أعطيك. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وما أردت أن تعطيه؟)).

قالت أعطيه تمرا. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة))[8].

وعن أسماء بنت عميس قالت: زففنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض نسائه، فلما دخلنا عليه أخرج عسا من لبن فشرب منه، ثم ناوله امرأته، فقالت: لا أشتهيه، فقال: لا تجمعي جوعا وكذبا، ثم ناولني القدح، فجعلت أدير القدح في فمي، وما أشربه إلا لتصيب شفتي أثر شفته - صلى الله عليه وسلم -، ثم تركنا وامرأته [9].

وكثيراً ما تتكرر هذان الموقفان بين الناس اليوم، كم من أب أو أم يدعو ولده ويمنِّيه ثم لا يعطيه، ويعده، وما يعده إلا غروراً.

وكم من موقف للناس يمرون عليه وهم محرجون، في مأدبة أو ضيافة طارئة أو دعوة سريعة فيقول الكثير: لا أريد، أو لا أزيد على ما أكلت، أو لا أحبه، لا أرغب، أو نحو ذلك خلاف الحال.. فما أحوجنا إلى هذين الحديث في لافتة قماشية نضعها في الممرات ومداخل البيوت..

وكان يجدر ذكرُ ما من شأنه الأولوية في مقامه، والبَدْءُ بما احتسب - عليه الصلاة والسلام - في شأن اعتقاد الخليقة، وألفاظ تمسها من قريب أو من بعيد، فقد جاء في البخاري: من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ألا من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله)) فكانت قريش تحلف بآبائها فقال: ((لا تحلفوا بآبائكم))[10].

ليستبين سبيل المؤمنين في تعظيم ربهم أنه مهما بلغ أحدٌ شأواً في العظمة فلا يصل إلى عظمة الرب حتى يحلف به، وليس مثل هذا مما يسكت عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهديه كان ملازماً حماية جناب تعظيم الله - تعالى -، فلا يريد أن ينتقص بوجه من الوجوه، ولا بتعظيم نفسه هو، لتتجلى دلالة النبوة، فتجده يحتسب على ثناء الصحابة من حوله؛ لئلا يتصوروه عظيماً من عظماء ملوك الدنيا، وإنما عظمة النبوة فوق كتفيه، فيصعد على منبره ويقول: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله))[11]، فالغلو هو الذي أورد النصارى الموارد.

ولم يرضَ - صلى الله عليه وسلم - حتى بالتسوية اللفظية مع رب العالمين، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا حلف أحدكم فلا يقل: ما شاء الله وشئت، ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شئت))[12].

إنه - صلى الله عليه وسلم - دقيق الملاحظة في شأن ما يتعلق بالتوحيد، حتى الكلمة التي اعتادتها الألسن من المملوك لمالكه أراد محتسباً على مثلها أن يغير ما فيها من شبه مع ما يصرف لله - تعالى -، فقال: ((لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، اسق ربك، وليقل: سيدي، مولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي، أمتي، وليقل: فتاي، وفتاتي، وغلامي))[13]؛ لما في كلمة العبودية والربوبية من العِظم الذي يكتسبه الطرف الأعلى.

وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرقب عن كثب كيف يدعو أحدهم ربه، فلما سمع بالتعليق على المشيئة احتسب على ذلك، فعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت ارحمني إن شئت ارزقني إن شئت وليعزم مسألته إنه يفعل ما يشاء لا مكره له))[14]، وما أكثر ما يقول اليوم بعضنا لبعض: الله يوفقك إن شاء الله، شفاك الله، إن شاء الله، ونحو ذلك من الدعاء معلقاً بالمشيئة..

وهكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسعى دأَباً في الوصول بالأمة أفرادًا وجماعات إلى علِيَّةٍ في الكلام، ودقة في العبارة، بعيدين عن ضغوطات المجتمع والبيئة والنفس التي تولِّد لغة مشوبة بشوائب تمس الجنان والمعتقد.. فكلمة "لو" حين استخدمها البعض في الاعتراض على القدر واستفتح بها باب الشيطان شعر أو لم يشعر، أوضح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن التسليم بقضاء الله وقدره من قوة الإيمان وأن قوي الإيمان أحب إلى الله من ضعيفه، وعليه فليرد الأمر كله لله، ولا يقل لو معترضاً على قدر الله، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان))[15].

ويظل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماضياً في تحقيق هدفه ناشداً سمو أمته لفظاً ومعنى، حتى إن كان أحدهم على شفير الموت فلا يضعف ولا يخور، فتهزم نفسه أمام الداء فيتمنى الموت، فنهى عن ذلك كما ورد عن أم الفضل، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على العباس وهو يشتكي، فتمنى الموت، فقال: ((يا عباس، يا عم رسول الله، لا تتمن الموت، إن كنت محسنا تزداد إحسانا إلى إحسانك خيرٌ لك، وإن كنت مسيئا، فإن تؤخر تستعتب خير لك، فلا تتمن الموت)) قال يونس: ((وإن كنت مسيئا، فإن تؤخر تستعتب من إساءتك خير لك))[16].

وهكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحتسب على الألسن أن تقول ما لا يليق أو لا يجوز، فينهى هذا ويبين لذاك ويوضح لهؤلاء، حتى ما ترك قولاً يوصلنا إلى الجنة إلا ودلنا عليه، ولا قولاً يوصلنا إلى النار إلا وحذرنا منه، - صلى الله عليه وسلم - من إمام محتسب مجاهد معلم رحيم.

[1]- سنن الترمذي: (5/11) باب ما جاء في حرمة الصلاة: برقم: (2616)

[2]- صحيح البخاري: (5/2377) برقم: (6112) واللفظ للبخاري.

[3]- سنن أبي داود: (4/ 455) برقم: (4994) وصححه الألباني.

[4]- صحيح البخاري: (15/433) برقم: (6182).

[5] - صحيح البخاري: (17/ 117) برقم: (6777).

[6] - فتح الباري لابن حجر: (19/187).

[7] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: (11/262).

[8]- سنن أبي داود: (4/ 455) برقم: (4993) وحسنه الألباني.

[9]- المعجم الصغير للطبراني (2/ 23) برقم: (710)

[10] - صحيح البخاري: (9/417) برقم: (3836)، ومسلم: (5/81) برقم: (4348).

[11] - صحيح البخاري: (8/552) برقم: (3445).

[12] - سنن ابن ماجه: (1/684) برقم: (2117) قال الشيخ الألباني: حسن صحيح

[13] - صحيح البخاري: (6/412) برقم: (2552) ومسلم (7/47) برقم: (6014)

[14] - صحيح البخاري: (18/511) برقم: (7477).

[15]- صحيح مسلم: (8/56) برقم: (6945).

[16] -مسند أحمد: (44/444) برقم: (26874).


علي بن أحمد المطاع