عوارض الديمقراطية الداخلية - الديمقراطية - معيار الأغلبية
من أوسع الأخطاء وأشدّها ذيوعا اعتبار حكم الأكثرين وإن كانوا غير ذوي تخصّص معيارا للحقيقة، والحقيقة حقيقة رضيتها الأغلبيّة أو مجّتها تحمل قوّتها في ذاتها وبرهانها ودليلها، أمّا التّوقّف فيها حتّى تقرّر الأغلبيّة قبولها أو رفضها فيلزم عنه نسبيّة الحقيقة وهو مطلب سفسطيّ بامتياز.
من أوسع الأخطاء وأشدّها ذيوعا اعتبار حكم الأكثرين وإن كانوا غير ذوي تخصّص معيارا للحقيقة.
والحقيقة حقيقة رضيتها الأغلبيّة أو مجّتها تحمل قوّتها في ذاتها وبرهانها ودليلها، أمّا التّوقّف فيها حتّى تقرّر الأغلبيّة قبولها أو رفضها فيلزم عنه نسبيّة الحقيقة وهو مطلب سفسطيّ بامتياز. (1)
يقول برتراند راسل: "إنّ واقعة أنّ رأيا ما قد انتشر على نطاق واسع ليس دليلا البتّة على أنّ هذا الرّأي ليس باطلا كلّ البطلان، والحقّ أنّه بالنّظر إلى سخف أغلبيّة بني الإنسان فإنّه لأقرب للاحتمال أن يكون الاعتقاد واسع الانتشار اعتقادا سخيفا من أن يكون اعتقادا معقولا" اهـ
وهذه إحدى الإشكاليّات الأساسيّة الّتي انتبه لها كثيرون من العقلاء، فينبغي على الأقلّ أن تكون الأكثريّة المعتبرة هي أكثريّة متخصّصة على الأقلّ (مثل أهل الحلّ والعقد عندنا، أو أكثريّة وجمهور العلماء في ذلك الفنّ).
يقول باسكال سالان : " فإذا كان اتّخاذ قرار جماعي مرهونا على حصوله على تأييد أغلبية الأصوات (أو على نوع من الأغلبية المتخصصة) فإنّ معنى هذا فقط أننا متيقّنون، من عدم حصولنا على أغلبية أخرى قادرة على اتّخاذ قرار مناقض للقرار المتخّذ .فقاعدة الأغلبية إذًا هي تعبير عن حتمية وجود الانسجام في المسلسل التقريري. ولكنها لا تستند على أي أساس أخلاقي أو منطقي".
- اللّيبراليّة -
بل ذهب سولان إلى أبعد من هذا مقرّرا أنّ الاحتكام للأغلبيّة حيلة ظالمة منافية للعدل تمكّن من التّحايل على كلّ القوانين لرعاية مصالح الأكثر قوّة وفاعليّة من السّياسيّن وهضم حقوق الأفراد أو الأكثريّة الأقلّ قدرة على تمثيل نفسها اجتماعيّا.
يقول : " " لنتصور على سبيل المثال ان هناك قرية يسكنها 100 من الأفراد وحيث تحاول عصابة مكونة من 51 لصا تجريد 49 من سكان هذه القرية من أموالهم. ففي دولة القانون سيكون من المشروع التصدي لهذا النوع من الخرق للحقوق الفردية، الذي تتعرض له فئة من السكان وإلى جانب هذا هناك طريقة أخرى مفتوحة لهذه العصابة من اللصوص وهي أن يصلوا إلى الحكم عن طريق انتخابهم ديمقراطيا وسيكون كافيا بالنسبة إليهم أن يصوّتوا على تشريعات وضرائب تساعد على تجريد الأفراد من أموالهم وأمتعتهم، ليصبح هضم الأموال أمرا قانونيا.
ومن الواضح أنّنا حين نقول قانونيا، فإننا لا نقصد بذلك مشروعيا وأن القول بأن سلطة ما انتخبت ديمقراطيا لا يعني أن الأمر يتعلق بطريقة مشروعة تحترم حقوق الآخرين ولعل هذا هو ما يجعل من غير الممكن اعتبار الطابع الديمقراطي لسلطة ما بمثابة المعيار المطلق.
وهناك نمط أخر للتقييم يمكن إعتباره أعلى من هذا. ويتعلق الأمر بمشروعية العمل العمومي أي مطابقته للقوانين الطبيعية للأفراد". اهـ
وعلى هذا المنوال يمكن لكلّ شرّ أن يمضي بطريقة ديمقراطيّة محتكما لشهوة الجمهور، وهو ما وقع فعليّا فالحزب النّازيّ وصل إلى الحكم وأشعل الحرب العالميّة وقام بالإبادات الجماعيّة بطريقة ديمقراطيّة 100/100، وهكذا الواقع من تصدّع الاقتصاد العالمي القائم على الرّبويّة المتّخذة بتدابير ديمقراطيّة تصادم ما يقرّره المتخصّصون أنفسهم، وهكذا الحربان العالميّتان خاضتهما كلّ الدّول المشاركة بمشورة أغلبيّة ديمقراطيّة في الجملة، ممّا حدى بعالم الاجتماع أولريش بيكر
أن يلقّبها بالدّيمقراطيّة الأمّيّة.
* بعض الشّواهد المنتقاة: 1- يقول فرانسيس فوكوياما: " إن الأغلبيات الديمقراطية يمكن أن تقرر فعل أشياء فظيعة لأقطار أخرى ويمكن أن تتغول على الحقوق والقيم الإنسانية التي بني عليها نظامها الديمقراطي نفسه." اهـ
Fukuyama, State-Building, Cornell University Press, New York, 2004, pp 114-115.
2- يقول ليبنمان أحد أكبر المفكّرين السّياسيّين الأمريكيّين في القرن الماضي: " يجب في رأيي أن نرفض القول بأن مبادئ الحرية والعدالة والحكم الصالح إنما تتمثل في حكم الأغلبية". اهـ
.Clinton Rossiter & James Lane, editors, The Essential Lippman: A Political Philosophy for Liberal Democracy
Harvard University Press, 1982, p. xi
3- ويقول جون استيوارت مل: " إنّ الحقيقة إما أن تكون مع الأغلبية في المجتمع أو تكون مع الأقلية، أو يكون مع هؤلاء جزء منها ومع أولئك جزء آخر". اهـ
- عن الحرّيّة -
(1): مثال سخيف لأصحاب العقول المستنيرة فايسبوكيّا: فلنفترض أنّ لاعبا سجّل هدفا بعد أن وقع في التّسلّل، ولنفترض أنّ المباراة كانت في ملعب الفريق الّذي قبل الهدف، هل رفض غالبيّة الجمهور المتفرّج للهدف ومكابرته في وقوع التّسلّل يغيّر من الحقيقة شيئا؟!
هذا هو المقصود.
ربّ يسّر وأعن!
كمال المرزوقي
رئيس جامعة الإمام مالك للعلوم الشّرعيّة بتونس.
- التصنيف:
- المصدر: