الشاب المسلم بين السلبية والإيجابية (2)
ثم تجد أن هذا الشاب الذي أصيب بهذا الداء داء (السلبية) يطمئن نفسه ببعض المسكنات، فيقول: هاأناذا أساهم مع الشباب في حضور بعض الأنشطة، وهاأناذا أحضر مناسبات الخير، وإذا دعيت أجبت. ويعتقد أنه بهذه المساهمات المحدودة، البسيطة قد أدى ما عليه. يشعر بالاكتفاء، والامتلاء. وهذا في الحقيقة داء.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد: تكلمنا في مقال سابق عن معنى السلبية والإيجابية وعن بعض أمثلة لأناس كاوا إيجابيين، ونكمل هنا ما بدأناه:
وصف الظاهرة: اسمحوا لي الآن بعد عرض هذين المثلين الإيجابيين، أن أعرض لوصف مظاهر السلبية، التي صارت تتفشى في مجتمعات كثير من الشباب الصالحين هذه الأوقات. فقد كان الشباب في مطلع هذه الصحوة المباركة، فيهم من القوة، والبذل، والتضحية، بالأوقات، والحماس للدعوة إلى الله عز وجل، ما هو مضرب المثل. وكانوا قلة يواجهون باللوم، والتقريع، وإطلاق ألقاب السوء عليهم. فلم يزالوا صابرين، ناصحين، باذلين، حتى فتح الله على أيديهم، وكثر المهتدون بسببهم. ثم بتنا نرى جموعاً من الشباب، يحبون الخير، ويشهدون مجالسه، ولكنهم أقل عطاءً، وأضعف إنتاجاً، وأثرهم في المجتمع ضعيف. أصيبوا بداء (السلبية).
وهذه الظاهرة تنشأ عبر خطوات؛ فتجد الشاب يعيش في مرحلة ما قبل الاستقامة حياةً ممتلئة، فعالة، مؤثرة، تضج بالعطاء، والحيوية، والذهاب، والإياب، والانشغال، لكن في مجال الباطل، والغفلة، واللهو؛ رحلات متتابعة، سفريات، وزيارات، ومشاريع كثيرة جداً. ثم يلتزم الشاب، ويجد طعم الراحة الإيمانية، وتتساقط عنه همومه، وإشكالاته، ويحس بالخفة النفسية. وهذه مرحلة طبيعية، وفرح إيماني صحيح. لكن بعضهم يسيطر عليه شعور بالانسحاب من الحياة العامة، والعيش في جو مغلق محدود، لا يتناسب من حيث العطاء مع وضعه السابق، إذا به يعود منغلقاً على نفسه، مطأطأ الرأس، خافت الصوت، لا ينتج، ولا يبذل. ويصدق عليه المثل القائل: (جبَّار في الجاهلية خوار في الإسلام).
ثم تجد أن هذا الشاب الذي أصيب بهذا الداء داء (السلبية) يطمئن نفسه ببعض المسكنات، فيقول: هاأناذا أساهم مع الشباب في حضور بعض الأنشطة، وهاأناذا أحضر مناسبات الخير، وإذا دعيت أجبت. ويعتقد أنه بهذه المساهمات المحدودة، البسيطة قد أدى ما عليه. يشعر بالاكتفاء، والامتلاء. وهذا في الحقيقة داء.
ليس المقصود أن تكون رقما فقط، كلا! إنك حينما اهتديت إلى الله عز وجل، بات المطلوب منك أن تحمل غيرك، كما حملك غيرك، وأن تكون فاعلاً، مؤثراً، كما كنت قبل ذلك، لا أن تملأ المجالس، ويكون دورك فقط الدور الحضوري.
ثم لا يلبث صاحبنا أن تنشأ عنده اهتمامات جانبية، تافهة، تكون هي شغله الشاغل. وقد يتعدى الأمر إلى خطر أكبر، فيقع في الفتور، إذا طال عليه الأمد كما قال الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}(الحديد:16)، فيقسو قلبه، وتموت أحاسيسه، وانفعالاته الإيمانية، ولا يستجيب لما كان يستجيب له من قبل. وربما أفضى به ذلك إلى الردة، والانتكاسة، كما نسمع بين الوقت والآخر: إن فلاناً أصابه شيء، وانتكس والعياذ بالله.
وربما ابتلي هذا الإنسان السلبي، بمرض آخر خطير، وهو (حب النقد) و(توزيع التهم) و(الانشغال بتجريح الآخرين). فإنك، غالباً، لا تجد من يشتغل بالنقد، والتجريح، والوقيعة في الناس، ولاسيما الدعاة، والعلماء، إلا الفارغين. فالفارغون الذين ليس عندهم عمل، ولا دعوة، ولا طلب علم، ولا حسبة، شغلهم الشاغل أن يتكئ أحدهم على أريكته، ويشير بأصبعه السبابة، قائلاً: هذا صح، وهذا خطأ! وفلان أصاب، وفلان أخطأ! وربما لم يبلغ بعد أن يحسن تلاوة الفاتحة، أو يحفظ باباً من العلم.
السلبية في البيت: ففي البيت، ليس له تميز، ولا أثر؛ لا يأمر بالمعروف، ولا ينهي عن المنكر. وربما قصر في الحقوق الواجبة عليه من البر والصلة. لا يميز أهله بينه، وبين أخيه غير المستقيم، بل قد يفوقه بعض إخوانه في نفع أهله. وربما لا يقوم بتعليمهم ما يتعلم، ولا يجلب لهم الأشرطة، ولا الكتيبات، ولا يجلس معهم، ولا يحدثهم بأحاديث إيمانية، ولا يناصحهم ولا يسألهم عن مجريات أمورهم. فهذا لاشك أنه نوع من السلبية.
وليستذكر كل واحد الآن، ماذا يصنع في بيته ؟ هل أنت شعلة مضيئة ؟ هل أنت زهرة فواحة، تنشر أريجها، وعبقها في كل ركن من أركان البيت ؟ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : "خيركم، خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"رواه الترمذي. فلماذا نحرص على الخير خارج بيوتنا، ونهمل بيوتنا، وهي ألصق بنا، وأولى ببرنا، وعطائنا ؟ ! لا شك أن هذا يكشف خللاً في التربية، والتدين.
السلبية مع الزملاء: في المدرسة، أو الكلية، تجد علاقة هذا الإنسان المصاب بداء السلبية، مع زملائه علاقةً عادية في أحسن أحوالها، لا قدوة، ولا أخلاق، ولا تميز. فالمفترض في من يحمل بين جنبيه إيماناً دافقاً، أن يكون بين زملائه، الذين هم أصلاً مهياؤن لطلب العلم، داعية، ومذكراً، وأن يباشرهم، و يتعرف على أحوالهم، ويدعوهم إلى الله، ويربيهم، ويتبادل معهم الخبرات، والمعلومات. يعطي هذا شريطاً، ويهدي لهذا كتيباً، ويتفقد حال هذا، ويزور ذاك في بيته. إلى غير ذلك من صور التفاعل الإيجابي، لا أن يقعد ويحتل كرسياً في الفصل، دون أن يكون له أثر. وربما اجتاح الميدان غيره من دعاة السوء، واللهو، والعبث، فصاروا هم المقدمين، الذين لهم الكلمة النافذة، الذين يوجهون مناشط الفصل، ومناشط المدرسة، وبرامج الكلية، وهو يتفرج، لا يحرك ساكناً، لا يقدم ولا يؤخر. كما قيل :
ويقضى الأمر حين تغيب تيم *** ولا يستأذنون وهم شهود
سائل نفسك: حين تكون عضواً في جمعية النشاط المدرسي، أو برامج النشاط التي تقام في الكليات، والجامعات، هل أنت تقدم الأفكار، والاقتراحات، والملاحظات، والمبادرات؟ فإن هذا لون من ألوان التفاعل والإيجابية، أم تكتفي بالحضور الصامت؟
السلبية في المسجد والحي: تجد هذا الشاب الموصوف بالسلبية، لا ثقل له بين جماعة مسجده، ولا اعتبار. نكرة من النكرات، لا يعرفه أحد ! لأنه لا يبذل نفسه، ولا يسعى في حاجة المسجد، ولا يساعد جماعته، ولا يعظ، ولا ينصح، بل يأتي ليصلي، ثم ينصرف سريعاً، كأنه عابر سبيل. بل إنك تجد أحيانا ً بعض العامة يبذل في هذا المجال بذلاً عظيما ؛ إذا جاء شهر رمضان، رأيت طائفة من الناس يشتغل في تهيئة المسجد، لصلاة التراويح، والعناية بالصوت، والإضاءة، وغير ذلك، وصاحبنا لا ناقة له، ولا جمل.
سائل نفسك :حين تكون منتمياً لحلقة تحفيظ القرآن في المسجد، هل أنت على صلة بزملائك، تناصحهم، وترشدهم، وتثبتهم، وتحضهم على المواصلة في الحفظ؟ وسائل نفسك : ما هو دورك حيال قضايا المجتمع ؟ أنت عضو في هذا المجتمع، عضو في هذا البلد، هل تشعر بالاهتمامات على المستوى العام؟ وهل تحاول أن تصلح إذا سمعت بمنكر، فتسعى في إزالته بالطرق المناسبة ؟ وإذا سمعت بمعروف شاركت فيه وأيدت ؟ أم أنك تكتفي فقط بتلقي الأخبار، و تحليلها وينتهي دورك؟
أسباب السلبية: لماذا يقع بعض الشباب في السلبية؟ ما هو السبب الذي جرهم إلى ذلك، مع أن المنطلق كان صحيحا ؟ هذا يرجع في الحقيقة إلى عدة أسباب منها:
أولاً: عدم الفهم الصحيح للعقيدة الإسلامية: كأن يتصور أن الدخول في عقد الإيمان، يعني أن يكون حاله حال دراويش الصوفية، الذين يقبعون في الزوايا، والتكايا. ولا ريب أن هذا فهم خاطئ أساساً. فالعقيدة الإسلامية عقيدة تقوم على الإيمان الصحيح بالله عز وجل، وما يقتضي ذلك من الدعوة إليه، والصبر على الأذى فيه. قال تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}وتواصوا : صيغة مفاعلة، أي أوصى بعضهم بعضاً. فعلى كل واحد أن يصحح معتقده، ويفهم دينه على الوجه الصحيح .
ثانياً: اعتقاد الإنسان أن من شروط الإيجابية حصول الكمال: وهذا عذر مشهور يعلق عليه كثير من الناس تقصيرهم، وتقاعسهم. يقول أحدهم: ومن أنا حتى أفعل كذا، ويتواضع، ويتمسكن، ويقول ما عندي من العلم، وما عندي من الإيمان، وما عندي من التقوى، حتى أفعل كذا، وكذا ! هذا ليس تواضعاً شرعياً، وإنما هو تواضع بارد مذموم. نعم لا تتكلم بما لا تعلم، بل تكلم بما تعلم. ولو تأملت لوجدت أن ما تعرف خيراً كثيراً، تملك أن تدعو إليه. وفي نفس الوقت، اسعَ لتكميل علمك، وعملك، وكلما زاد علمك وعملك زادت مسئوليتك، وفضلك.
ثالثاً: دعوى أن المبادرة، مدعاة للرياء: هذه حيلة شيطانية، تحول بين الإنسان وبين العمل الصالح. إذا صلحت نيتك الأولى لم يضرك ما قد يقع من ثناء الناس، أو حصول مغنم، بادر في هذا المشروع الطيب، وكن رأساً فيه، فإذا رأيت من هو أولى منك، فكن عوناً له. ولكن لا يجوز أن ينظر بعضنا إلى بعض، ونقول: (من يعلق الجرس)؟ كل منا مطالبٌ أن يعمل قدر وسعه، فلا يتعلل الإنسان بهذه العلل المقعدة.
رابعاً: التربية الرخوة: قد يتربى بعض الشباب على منهج تطغى فيه الوسائل على الغايات، فلا يتربى على منهج جاد، بل يُنشَّأ على برامج خفيفة، بسيطة، ليس فيها حزم، ولا صبر، ولا جلد، ولا ثني ركب. لابد من الصبر، والمصابرة في تحصيل العلم، والتربية، والدعوة.
كثير من الشباب يدخل في سلك الصالحين بواسطة ما يسمى (الأناشيد الإسلامية) والبرامج المشوقة، والجذابة، وأنا لا أعترض على التدرج، بشرط أن يكون هذا الأسلوب أسلوباً ملتزماً بالضوابط الشرعية، ولمرحلة مؤقتة. ولا يجوز بحال، أن يُستمَر عليه، وأن يكبر الشاب وهو لا يعيش إلا على صدح الأناشيد، والمسرحيات، والرياضة، والسباحة، والرحلات، ونحو ذلك، ويستثقل حضور مجالس العلم، وحفظ كتاب الله . إن هذا المنهج الرخو يخرِّج أفراداً لا يقوون بعد ذلك على المواصلة، ويكونون سلبيين، ولا يملكون رؤيةً واضحة. فيجب أن نفرق بين الوسائل و الغايات. هذا في الحقيقة منافٍ للمنهج النبوي في التربية. المنهج النبوي منهج جاد، متين، قوي، وفي نفس الوقت ميسر، رفيق.
الختام: لابد أن نفتش في أنفسنا، لعل بعض الشباب، لازال يعيش على ذكريات الطفولة! قد كبرت يا عبد الله!
قد رشحوك لأمر لو فطنت له *** فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
هذه كلمات، أرجوا أن تنبه أذهانكم إلى هذه القضية الخطيرة وأن يراجع كل امرئ نفسه ويرى حظه من القيام بأمر الإيمان. فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، ففي العمر متسع، فارجع، وصحح المسار من جديد.
هذا، واسأل الله سبحانه وتعالى للجميع التوفيق، والهدى، والسداد.
وصلى الله، و سلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله، وصحبه، أجمعين.
أحمد بن عبد الرحمن القاضي
أستاذ في قسم العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود
- التصنيف:
- المصدر: