مَا قَبْلَ البَوْح

منذ 2015-03-17

البَوْح، وما أدراك ما البَوْح..! نعمة ونعيم ونعماء.. لا حُرِمْتُم إيَّاه، ورُزِقْتُم لسانًا ذاكرًا، وقَلبًا مطْمَئِنًّا بالفرار في لجّة الحياة إلى الحنّان الصمد.

هي حشْرجاتٌ.. تمتماتٌ مُبَعْثَراتٌ، قد سببها حَزِنٌ طويل أو قصير..
تُفتش في معاجم لغة الهموم عن كَلِمٍ متراصٍّ يفك رموز ما تلبَّد بالفؤاد المضطرب، وأَثْقَلَ عليه وكَتَمَ أنفاسَ نبضاته، فنبضتْ على غير انتظامٍ وضَرَبَ بعضُها بعضًا..

هي غمغماتٌ وَجِلاتٌ باكياتٌ مُبْكياتٌ بلا نَوْح..
أشبهُ بخيوطِ النَّوْلِ المتقاطعة في تعقيدٍ متين، فلا يستطيعُ أحدٌ أن يَحْدِس أو يحْزِر لها بدايةً أو نهايةً، كَرُسوم طفلٍ صغيرٍ لا يُتقنُ القبض على القلم بعدْ، وقد غاب والداه عن مراقبته دهرًا..!

انفعالاتُ غَمٍّ خانقة، وخواطرُ ضِيقٍ مبهمةٌ.. تتزاحم في الأذهان.. تتعارك في القلوب..
تجثمُ فوق غُرُفاتِ العقول فتحجبُ الرؤيةَ وتُغَلِّلُ أُفُقَ الألبابِ، تنهشُ بمخالبِ التيهِ الكئيبِ والتخبطِ المسنونِ، والكدرِ القارسِ في أرجاء نفوس الحيارَى، تاركةً أصحابها بلا قدرة على البيان مطلقًا، فتذَرُها أشد حيرةً وبردًا وشعثًا من ذي قبل..

ثم بِمِنَّةٍ من الرحمن يُلهمُ القلبُ الذِّكْرَ، فيتحركُ اللسانُ بالتسبيح، فَتَنْحَلُّ عقدةٌ.. إثر عقدةٍ..
وتأتي عَبَراتٌ بِشِقِّ الأعْينِ، رحمةً من ربك فنحجزُ منها الكثيرَ.. ونجيزُ منها القليلَ..
ولا ندري أن التِّرياقَ فيها، لو ندري..!

دمعٌ رائقٌ تَرَجرَج ثم تَدَحرَج، وسال رغمًا عنا خُطوطًا قاسيةً كَوديان القفار الموحشة..
وحَفَر أخاديدَ للدموع الحارقة في صفحة وجوهنا المرتعشة من ألم العجز عن البَوح..
أخاديد في إثر أخاديد، تجاورَتْ وتتابعَتْ كأنما تُمهِّد طريقًا سرمديًّا لاستقبال دموعَ المستقبل القريب كذلك!
وانصبَّتْ بلورات المرِّ المالحِ تلك فوق ظهر شفاهنا بلا إرادةٍ منَّا، فنتجرعُها علقمًا بطرف لساننا كَرهًا وعُنوةً، فمن ذا يَهوَى طعم الدموع ويستعذب مذاقها!

وعجبًا أننا كلما أَجَزْنا حفنةً من هذه العَبَرات إلى وادي الدموع، ومن هذه الزَّفَرات الذاكرة المبتهلة على طرف اللسان، أننا نرتاحُ بعدها ويشدو.. اللسان بالذكر أكثر، فتنكسرُ أغلالُ البَوْح الأسير شيئًا فشيئًا وينيخُ مَطاياهُ ورِحَالَ معانيه أخيرًا على الورقة البيضاء، والحمد لله الذي بنعمته فاضتِ المعاني بعد جَدبٍ، وعاد الذهنُ صافيًا من جديد كصفاء تِلكُمُ الورقة قبل احتضانها آنفا للبثِّ الأسير سلفًا، وتنفَّسَتِ الروحُ الصَّعْداءَ من قلبها أخيرًا من بعد تَصَعُّدٍ في السماء..

البَوْح، وما أدراك ما البَوْح!
نعمة ونعيم ونعماء.. لا حُرِمْتُم إيَّاه.

ورُزِقْتُم لسانًا ذاكرًا، وقَلبًا مطْمَئِنًّا بالفرار في لجّة الحياة إلى الحنّان الصمد. 
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

أسماء محمد لبيب

كاتبة مصرية