نقد العولمة وتقديم البديل لها

منذ 2015-03-26

إذا ما تأمَّلنا واقِعَنا وألقَيْنا عليه نظرةً تقييميَّة، فإنَّنا نُلاحِظ أنَّ ظاهرة العَوْلَمة ظاهرة مُرَّة؛ فهي عَوْلَمة عدم الأمن، وعَوْلَمة عدم العدل، وعَوْلَمة عدم القِيَم، وعدم المعنى، وعدم الأخلاق.

إذا ما تأمَّلنا واقِعَنا وألقَيْنا عليه نظرةً تقييميَّة، فإنَّنا نُلاحِظ أنَّ ظاهرة العَوْلَمة ظاهرة مُرَّة؛ فهي عَوْلَمة عدم الأمن، وعَوْلَمة عدم العدل، وعَوْلَمة عدم القِيَم، وعدم المعنى، وعدم الأخلاق.

إنَّنا كأمَّةٍ إسلاميَّة نُعانِي كجميع الشُّعوب؛ لأنَّنا جزءٌ لا يتجزَّأ من هذا العالم الذي يُعانِي كلُّه من هذه الظاهرة الخطيرة، غير أنَّ الجدير بالملاحظة هو أنَّنا نُعانِي مرَّتين؛ بمعنى: أنَّنا نُعانِي ككلِّ الشُّعوب، ونُعانِي كمسلمين؛ وذلك بسبب سياسة الكَيْل بمكيالَيْن، والتي تنتَهِي ضدَّنا، ثم إنَّ النِّظام الدولي يستَهدِفنا ويعتبرنا عدوَّه.

إنَّ هذا الواقع يفرض علينا إلقاء جملةٍ من الأسئلة، من ذلك مثلاً:

• لماذا نجد العَوْلَمة التي تدَّعي أنها النموذج العصري الوحيد للتقدُّم، وهي في الواقع تَعنِي - كما قُلنا -: عدم الأمن، وعدم المعنى، وعدم الأخلاق والقِيَم؟!

هذا السؤال له جوابٌ موضوعي:

إنَّ الغرب اليوم يَبنِي نظامَه على ثلاثة مَراجِع أو ثلاثة أسس، هي:

• العلوم الدقيقة والتكنولوجيا.

• الرأسماليَّة والليبراليَّة الوحشيَّة.

• العلمانيَّة المتطرِّفة.

هذه الأسس أو هذه المَراجِع الثلاثة، يَزعُم الغَرْب أنها حتميَّة لكلِّ مجتمع يطمح إلى النُّهوض والتقدُّم، وهو يَرفُض أيَّ حوارٍ بنَّاء، أو نقد، أو إبداء رأي في هذه الأسس، التي يعتَبِرها من المُسَلَّمات.

ولكنْ مهما يكن من رفْضه وتعنُّته، فإنَّه لا يستطيع أنْ يمنَعَنا من القول السديد في هذه المسائل من وجهة نظرنا، فنقول:

إنَّ التركيز على العلوم الدقيقة والتكنولوجية مبدئيًّا أمرٌ مقبول؛ بل مطلوب، ولكن - وهذا هو الجَوْهر - ينبَغِي أنْ يستَنِد إلى منظومة قِيَمٍ أخلاقيَّة من وجهة، وأنْ يكون وسيلةً لتَحقِيق أهدافٍ نبيلةٍ من وجهة ثانية، ومن المعلوم عند كُلِّ صاحِب نظرةٍ موضوعيَّة أنَّ التكنولوجيا لا تكون حياديَّة أبدًا، والرأسماليَّة كمجال تنتَعِش فيه الحريَّة الاقتصاديَّة، وتُحتَرم فيه الملكيَّة الخاصَّة، وكمصدرٍ للإنتاج وتَحقِيق الثروة، كلُّ ذلك معقولٌ أيضًا ومقبولٌ، ولكنَّ الليبراليَّة الوحشيَّة تُخَلخِل أسس المجتمع؛ لأنَّ شعارها الدائم هو: "عبادة العجل الذهبي"، مع ادِّعاء القدرة على امتِلاك كلِّ شيء.

يُضاف إلى ذلك كلِّه أنَّ منطق اقتِصاد السُّوق إذا لم يكن في إطار العدالة الاجتماعيَّة واحتِرام القِيَم الروحيَّة، يُصبِح خطرًا جسيمًا يُهدِّد توازُن البشرية، ومَصِير الإنسانيَّة.

أمَّا العلمانيَّة التي تَفصِل الزمني عن الروحي، والدِّيني عن السياسي، والخاصَّ عن العام، إذا فهمنا جانبًا من هذه النظرة، وهو عدم الخلط وتجنُّب الغُمُوض، وكذا عدم تَوظِيف الدِّين لأغراضٍ ضيِّقة، وعدم تبنِّي النُّظُم الشموليَّة، فكلُّ ذلك مقبولٌ ومعقولٌ، ولكنَّ الإسلام هو دِين ودُنيا، ومَنطِق الإسلام يَقضِي بعدم وجود تناقُض بين هذه الثنائيَّات، بل يَرفُض تَهمِيش الدِّين؛ لأنَّه أساس الحياة ومعنى الحياة أصلاً.

أمَّا السؤال الثاني عن الأسباب الكامنة وَراء استِهدافنا من قِبَل الغرب، فإنَّ الجواب عنه بسُهُولة ووضوح هو أنَّنا آخِر المُقاوِمين أمام انزِلاقات وانحِرافات الحَداثَة الغربيَّة.

والمشكل يَزداد تَعقُّدًا عندما نخلط أنَّ بعض مُمارَساتنا غير عقلانيَّة، وغير عادلة، وتعطي الفرصة للعدو؛ لأنها تُسهِم في تزييف صورتنا، فما هو الحلُّ؟! إنَّ الحل في نظرنا:

استِعمال النقد الذاتي بدون مُجامَلة، بقصد تصحيح أخطائنا، وتجاوُز تَناقُضاتنا الداخليَّة بكلِّ شَجاعة وصِدق.

وإذًا فلِمُواجَهة العَوْلَمة - هذه الظاهرة الخطيرة - لا بُدَّ من:

(أ) تغيير وَضعِنا السياسي؛ وذلك لأنَّنا لا نستَطِيع أبدًا أنْ نُواجِه تحدِّيات العَوْلَمة وضُغُوطها بدون مساهمة المُواطِنين؛ امتِثالاً لقول الله - تعالى -: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، ولكن - ويا للأسَف الشديد - واقعنا مُرٌّ؛ لأنَّ أغلب النُّظُم العربيَّة والإسلاميَّة بعيدة عن هذه المبادئ القرآنيَّة والعالميَّة؛ لأنَّ شعوبَنا محرومةٌ من هذا الحق، إنَّ الدِّيمقراطية مجرَّد وسيلة، وليست غاية تُقدَّس أو تُعبَد.

(ب) لا مستقبل زاهر ولا قدرة على رفْع التحدِّي بدون تَركِيزٍ على مجتمع معرفي، والمُلاحَظ هنا أنَّه بالرغم من المجهودات والمكاسِب والقدرات، فإنَّ النُّخبة الفكريَّة والعلميَّة نجدها مهمَّشة؛ ممَّا جعَل الجهل ينتَشِر ويستَفحِل في عدَّة مُمارَسات؛ {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].

ومعلومٌ أنَّ تَعزِيز هذا المَجال المعرفي مُرتَبِطٌ بالمبدأ الأوَّل: مبدأ الديمقراطيَّة.

(جـ) الجانب الثالث الذي يُمكِن أنْ يُسهِم في مُواجَهة ضغوط العَوْلَمة، يتمثَّل في الإنتاج الإبداعي بصورة عامَّة في إطار الحريَّة، واحترام الغير، والحق في الاختِلاف، والعمل البنَّاء في خدمة المجتمع.

هذا، وخلاصة القول أنَّ الأمَّة الإسلاميَّة هي آخِر قلعة في طريق العَوْلَمة الكاسِحة، ولكنْ - بفضل الله - سبحانه -، ثم بفضل جميع أبنائها المخلِصين الصالحين المحسِنين - يمكن أنْ نُسهِم بصفة فعَّالة في تحقيق حضارة عالميَّة جديدة مُنقِذة؛ لأنَّنا اليوم في أزمةٍ حضاريَّة عميقة؛ إذ لا توجد حضارة غربيَّة ولا شرقيَّة، وتحقيق هذا كله يتوقَّف على عَزائِمنا وإرادتنا وشجاعتنا في أنْ نقول الحقَّ ولو كان مُرًّا، وذلك أضعف الإيمان.

أولاً: بتصحيح فهْمنا للإسلام؛ لأنَّ ذلك في جوهر الإشكاليَّة، فنحن نُعانِي اليوم توجُّهَيْن سلبيَّيْن متناقضَيْن:

(أ) توجُّه الغلوِّ والجمود والتعصُّب والتطرُّف والانغِلاق على الذَّات والتقليد الأعمى، يُمثِّله أولئك الذين اهتَزَّت علاقتهم بكتاب الله وسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

(ب) توجُّه دعاة التغريب والذَّوبان، الذين يَطلُبون مِنَّا التبعيَّة المطلقة للغرب من دون تحفُّظ أو شرط، وهذا طريقٌ مسدودٌ، والتوجُّهان كلاهما محكومٌ عليهما بالفشل.

إنَّنا أمَّة الوسط، يلزمنا أنْ نجادل الآخَر دائمًا بالتي هي أحسن، ولكن في الوقت نفسه بحذر ويقَظَة؛ لأنَّ الله - تعالى - يُخبِرنا أنَّه: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].

ثانيًا: تحقيق مفهوم أمَّة الوسط في كلِّ أبعاده ومجالاته؛ لأنَّ الفجوة ما تَزال واسعةً بين النظري والتطبيقي، بين الإيمان والعقل، وبين الحكَّام والمحكومين، وبين النخبة والمحيط الاجتماعي العام، وكذلك بين الشُّعوب نفسها.

وإذًا، فلا يُمكِن توفير شروط النجاح إلاَّ إذا مارَسْنا أسلوب الحوار بيننا باحترامٍ مُتبادَل، وكذلك بيننا وبين الآخَرين.

وإذًا، فلا مستقبل زاهر، ولا نهضة ولا تقدُّم بدون بناء دولة القانون، التي هي بمثابة العمود الفقري لكلِّ مجتمع متحضِّر، وبعيدًا عن احتِكار السلطة ومُمارَسة التهميش والإقصاء.

هذه هي السُّبُل التي يمكن أنْ تُساعِدنا في مُواجَهة المَخاطِر والتحدِّيات، من دون أنْ نُجامِل أنفسنا، أو أنْ نرهن مستقبل أجيالنا.

وفي هذا الأفق نقول: إنَّ جوهر الإشكاليَّة واضح، وتجاوُزها لا يكون في النهاية سوى بالاقتِداء بأعظم وأكمل نموذج وأحسن قدوة، ألاَ وهو نبيُّنا الكريم محمدٌ المصطَفى الهادي الأمين - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا - «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» [الأحزاب: 21]، الإنسان الكامل الذي عَلَّمَنا كيف يحقق التوازُن بين مُتطلَّبات الحياة الحرَّة الكريمة الرائدة، وبين حسن الإعداد للآخِرة التي فيها مَعادُنا.

وهذا كلُّه مصداقًا لقوله - تعالى -: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4]، وقوله - سبحانه -: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77].


مصطفى الشريف