دراسة الأفكار مدخل منهاجي

منذ 2015-03-26

في ظل الحقبة العولمية الراهنة؛ يعز على أمة من الأمم أن تفرض حولها سياجاً يمنع تسلل الثقافات المغايرة لها إلى فضائها الثقافي الخاص، ومن ثم يقع عليها عبء المحافظة على نسقها الثقافي صافياً من مدخلات الثقافات الأخرى والتي قد تصيب بناه بالعطب؛ إذ بالدخول على فضاء ثقافي لأمة ما ليس منه تهتز أسس هويتها، وتتعرض للذوبان كلما زادت نسبة هذه المدخلات إليها.

تمهيد: في ظل الحقبة العولمية الراهنة؛ يعز على أمة من الأمم أن تفرض حولها سياجاً يمنع تسلل الثقافات المغايرة لها إلى فضائها الثقافي الخاص، ومن ثم يقع عليها عبء المحافظة على نسقها الثقافي صافياً من مدخلات الثقافات الأخرى والتي قد تصيب بناه بالعطب؛ إذ بالدخول على فضاء ثقافي لأمة ما ليس منه تهتز أسس هويتها، وتتعرض للذوبان كلما زادت نسبة هذه المدخلات إليها.

وبحسب قانون العولمة فإن الأمة المالكة لأسباب التقدم الحضاري المادي والمعرفي هي وحدها تتمكن من توظيف الأدوات العولمية لتعميم ثقافتها وقيمها على باقي الأمم المغايرة لها، إيماناً منها بأن الحفاظ على التقدم الحضاري مرهون بمدى ثبات قيمها، ومدى تعميمها على باقي الأمم، ومن ثم تسعى بكل سبيل لتسييد تلكم القيم الحضارية والتي تمثل أفقها الثقافي على الفضاء الثقافي العام لكل الأمم ليتشكل عالم ذو بعد واحد؛ أي عالم يتبنى قيماً ثقافية واحدة.

وبالنظر إلى الراهن نجد أن الأمة المتقدمة "حضارياً " - بالمعنى التكنولوجي - هي الولايات المتحدة الأميركية ومن خلفها أوروبا، ومن ثم فإنها تسعى لتسييد نسقها الثقافي على العالم؛ إذ يدعم ذلك هيمنتها السياسية، ويبقى على وضعية "القطب الواحد" للنظام الدولي الراهن.

إذ بحكم الواقع فالفكر الغربي تسلل للفضاء الثقافي العربي/الإسلامي منذ لحظة الاحتكاك الأولى من خلال "الحملة الفرنسية" على مصر؛ لتستمر عملية التسلل الفكري مع السياسات الإصلاحية لمحمد علي وبعدها يصير للفكر الغربي حاضنة معرفية تمثلت في تيار ثقافي بهر بالثقافة الغربية، وراح ينهل منها، ويحث الأمة على ورود ما ورد من معين الثقافة الغربية ظناً منه أن في ذلك دواء لمرض التخلف الحضاري المبتلى به الشرق.

ومع العولمة ازداد الأمر تعقيداً، إذ لم يعد مصطلح "التسلل" كافياً للتعبير عن معدل حضور الفكر الغربي في الفضاء الثقافي العربي؛ إذ يحضر بصورة صلبة تتمظهر في تيارات فكرية عربية صاغت مدارس فلسفية مثيرة للجدل، ولها مشاريع فكرية غربية، ففي المغرب العربي هناك "الجابري" و"العروي"، وفي المشرق "حسن حنفي" و"نصر أبو زيد"، والقائمة تطول.

وفي هذا السياق برز سؤال "التعامل مع التراث الإسلامي" والمنهج العلمي المستحضر من حقول العلوم الأنثروبيولوجية المناسب للتعامل معه فراح الجابري يشغل "القطيعة المعرفية" لبشلار، والعروي يوظف "التاريخية الماركسية"، وحسن حنفي يستعير "الاغتراب" من ماركوز وهكذا، ولكن غاب سؤال المنهج عن التعامل مع الفكر الغربي نفسه، بل تم اعتبار الأخير هو غاية التقدم المعرفي، والعلوم الإنسانية ومناهجها هي آخر ما وصل إليه العقل، ومن ثم ما علينا إلا استعارتها من البيئة الثقافية الغربية، وإعمالها في الفكر الإسلامي لتحديثه، وجعل ذلك شرطاً للنهضة العربية والإسلامية.

وفي هذا السياق نود أن نرسم خطاً منهجياً يعين على دراسة المذاهب الفكرية الغربية بوصفها وافداً فكرياً على ثقافتنا الخاصة وجد له موطن قدم في البيئة الثقافية العربية باستخدام الأدوات المنهجية العلمية التي تكسب التعاطي مع الفكر الغربي رصانة معرفية بدل الطرائق المعيارية التي تحكم على فكر ما بأنه مخالف لثقافتنا، ومن ثم هو خطأ ينبغي التحذير منه؛ إذ أن هذا الأسلوب غير ناجع في حفظ الهوية المعرفية للأمة بقدر ما هو تأجيل للمواجهة مع الفكر الغربي.

فبرسم خطوط منهجية في دراسة المذاهب الفكرية يتمهد السبيل لنقدها علمياً نقداً يضعها في قدرها اللائق بها، وسياقها الملائم لها.

أولاً: القراءة المعجمية .. مقاربة غير وافية:

يتوجه القصد عند محاولة الاقتراب من مذهب فكري ما أول ما يتوجه إلى المعاجم الفكرية، والموسوعات الفلسفية التي تتناول تلك المذاهب بالتعريف والوصف، ويمكن التمثيل عليها بـ:

- الموسوعة الفلسفية لأندريه لالاند، والمعجم الفلسفي لجميل صليبا، وموسوعة الفلسفة لعبدالرحمن بدوي، وموسوعات المعارف كالبريطانية والأمريكية.

ويتسم التناول المعجمي دوماً بالاختزال والتبسيط تبعاً لمنهجية وضعها في الأساس؛ إذ تروم الإحاطة، مما يدفعها لتجاوز التفصيل، مما يجعل المقاربة المعجمية غير وافية لتحقيق وعي ناجز عن حقيقة الموضوع المبتغى درسه، ولكن الاختزال ليس وحده سبب كون الاقتراب المعجمي غير واف؛ إذ هناك سبب ثان يرجع هذه المرة لطبيعة المادة الفكرية نفسها؛ فالمذاهب الفكرية في مستوى النظر، والعمل ليست مجرد دوال لفظية يمكن مقاربتها على أرض المعجم ولكنها تتشكل نتيجة لتفاعلات تاريخية، وحراك مجتمعي؛ فالليبرالية والشيوعية والديمقراطية وغيرها من الأفكار التي وجدت لها موطن قدم على أرض الواقع بتمثلها سياسياً واقتصادياً، أو تلكم التي ظلت حبيسة في سياج النظر والتجريد الفكري كالمدارس الفلسفية: المثالية والمادية الحداثية أو البنيوية والتفكيكية الما بعد حداثية؛ لا يمكن تحصيل واعي ناجز عنها، وفهمها حق الفهم بالاعتماد على التناول المعجمي المجرد لها كألفاظ ومصطلحات.

فالأفكار التي نالت حظ التمثل الواقعي تتحقق بوصفها واقعاً وممارسة قبل أن تستقر كمصطلح له مفهوم مصكوك في المعاجم والقواميس، ومن ثم لا ينبغي الاقتصار على القراءة المعجمية لها التي تلت كونها واقعاً متمثلاً على الأرض.

ثانياً: المقاربة السوسيوتاريخية: شرط لتحقيق الوعي:

إذا كانت المقاربة المعجمية غير وافية فما السبيل نحو تحقيق الوعي بفكر ما؟ أجادل بكون المنهج السوسيوتاريخي (اجتماعي وتاريخي) هو خير من يؤدي تلك المهمة، ويبتنى هذا المنهج على قاعدة تقول: أن المذاهب الفكرية وخصوصاً التطبيقي منها ليست مجرد فكرة لمعت في ذهن فيلسوف فجأة، ثم بنى أسسها في ذهنه، ومن بعدها عمد إلى الواقع سعياً في تمثيلها وتطبيقها، ولكن في الحقيقة أن ذاك الفكر لم يتشكل إلا بعد أن عملت على ذلك مجموعة من الشروط المجتمعية والتغيرات التاريخية؛ حيث يتسم الواقع بمحددات معينة تتطور مع الوقت هذه المحددات تكون سبباً مباشراً لبلورة هذا الفكر وتشكله في هذا الوقت، ومن ثم يكون هذا الفكر رهين تلك الشروط المجتمعية، ونتيجة لها.

من هنا ينحبس الفكر في سجن "الخصوصية المجتمعية"، فهو قد نتج من بيئة معينة، توفرت فيها شروط تبلوره، ومع تطور تلكم الشروط عبر التاريخ يتطور ذاك الفكر تبعاً لتلكم التغيرات.

ومن هنا لا يمكن استنبات هذا الفكر في بيئة مغايرة لم تتوفر فيها تلكم الشروط المجتمعية التي كانت سبباً لتبلور هذا الفكر، وبذلك يبين الخلل المنهجي الذي يقع فيه مفكرو العرب؛ إذ يسعون لنقل الفكر الغربي، والأدوات المعرفية التي أنتجها حقل العلوم الإنسانية الغربي إلى البيئة الثقافية الإسلامية التي لم تتوفر فيها الشروط المجتمعية التي أنضجت تلكم الأفكار والمناهج في السياق الغربي.

ومن ثم لكي نفهم فكر ما ينبغي أن ننظر في الشروط المجتمعية التي عملت على تشكله، وكذلك في السياق التاريخي لتلكم الشروط.

ثالثاً: الليبرالية: مثال تطبيقي:

أسلفنا القول أن إبقاء أمة من الأمم على ريادتها الحضارية يحتاج إلى تثبيت قيمها، وتعميمها على باقي الحضارات المغايرة.

وفي هذا السبيل نجد الغرب يسعى راهناً لتعميم قيمه المتمثلة في "القيم الليبرالية"، والتي تشكل أفقه الثقافي على باقي الأمم مستثمراً ما أتاحته الحقبة العولمية من آليات الاختراق في الأنساق الحضارية المغايرة، ولا يكتفي بتلكم الوسائل الناعمة، وإنما يسعى أحياناً لإنجاز هدفه مستخدماً طرقاً أشد صلابة وخشونة.

والليبرالية كنموذج فكري تحظى بدرجة عالية من التداول في الأفق الثقافي العربي، ولها بعض التمثلات في البلاد العربية، وقد ازداد زخم هذا الحضور بعد موجة الثورات التي اجتاحت المنطقة العربية، وبالرغم من هذه الحالة من "الرواج الفكري" لمصطلح الليبرالية؛ إلا أن العقل العربي لم يحصل وعياً ناجزاً عن هذا المصطلح بعد، ونود أن نطبق هذا الإطار المنهاجي على الليبرالية كمثال:

المقاربة المعجمية لمصطلح الليبرالية لا تغنى ولا تسمن من جوع؛ فلو نظرنا إلى التعريفات الموجودة عند لالاند وصليبا وفي دائرة المعارف البريطانية والموسوعة الأكاديمية الأمريكية لا نجد سوى كون الليبرالية هي مذهب الحرية، ومن ثم يقع الخلط بين شيئين متغايرين: الأول هو الحرية والتي هي مثال إنساني مطلق لا يمكن حيازته أو تمثله كاملاً وإنما تنزع إليه النفوس في سبيل تحقيق هذه الخصيصة الإنسانية, وبين الليبرالية التي هي مذهب اقتصادي في المقام الأول ثم سياسي ثانياً، فالليبرالية تقليد فكري اتخذ من الحرية آداه لتعزيز أساس فلسفي هو الفردية، وطبق اقتصادياً وسياسياً لخدمة الرأسماليين البرجوازيين على مر التاريخ، أما الحرية فهي المثال المطلق عندهم، هذا الخلل المنهجي أثمر حالة من الخلط بين الحرية والليبرالية استثمرها الليبراليون في الترويج لمذهبهم، وقالوا: من ينقد الليبرالية فهو ضد الحرية، ومؤسس للجور والطغيان!

وحسب منهجنا يلزم ألا نكتفي بالمقاربة المعجمية وإنما نتبع مقاربة سوسيوتاريخية تقف بنا على تخوم الشرط المجتمعي الذي أسس لبلورة الفكر الليبرالي:

بدأت النهضة الأوروبية منذ القرن السادس عشر في ايطاليا، ثم امتدت إلى باقي أوروبا، وفي تلك الحقبة حصل متغيران مجتمعيان سيصيران شرطا لبلورة الفكر الليبرالي:

المتغير الأول وهو تغير على مستوى النظر تمثل في انفتاح الوعي الغربي على ثقافات مغايرة للنسق الثقافي الكنسي المشدود للنص الإنجيلي المقدس الذي لا يمكن تجاوزه بحال في كل ما يقرر من معرفة إيمانية أو علمية مادية، انفتح على الثقافة اليونانية والإسلامية بدرجة أقل, هذا الانفتاح شكل محفزاً نفسياً نحو الحرية حيث الخلوص من الرق الكنسي الفكري، والانفتاح على غيره من الأنساق الفكرية.

أما المتغير الثاني وهو تغير على مستوى العمل يتمثل في تغير النشاط الاقتصادي من التجارة إلى الصناعة هذا التحول يحتاج إلى شيئين الأول هو رأس المال والثاني هو اليد العاملة، أما رأس المال فقد كان متوفراً بيد التجار، وأما اليد العاملة فقد كانت هي موطن المشكلة إذ أنها محبوسة في سياج الإقطاع تعمل في الأرض، ومن ثم كانت هناك حاجة لتحرير العبيد لكي تنتقل إلى المصانع، ومن هنا تم استدعاء مثال الحرية ليتم توظيفه لهذه العملية، وبذلك تكون الليبرالية استغلت الحرية المثال لكي تساعدها في تشغيل آلة المصنع!

هذا هو الشرط المجتمعي الذي أسهم في إنتاج الليبرالية، والوعي بهذا الشرط يمنحنا نجاة من مزلق الخلط بين الليبرالية والحرية، ويضع الليبرالية في السياق الملائم لها كمذهب بشري، ويضع كذلك الحرية في مكانها الأليق بها كمثال وأفق إنساني.

خلاصة:

أثمر حقل العلوم الإنسانية الغربية معارف ومناهج علمية متكيفة مع الأفق الفكري الحاكم للمجتمع الغربي، وعندما تنقل هذه المناهج للفضاء الفكري الإسلامي تنتقل ومعها حمولة من المصطلحات، وخلفها حمولة مفاهيمية تخص الواقع الفكري الغربي، ومثقله بميراثه الثقافي منذ النهضة، وحتى ما بعد الحداثة، ومن ثم استعارة تلكم المناهج وتشغيلها في التراث الإسلامي خطأ منهجي بحد ذاته!

وفي المقابل لا بد من السعي نحو إنتاج / توظيف منهجية علمية منطلقة من الأفق الفكري الإسلامي نتعامل بها مع المذاهب الفكرية الغربية والتطبيقات المجتمعية لها سياسية واقتصادية في سبيل تقديم رؤية نقدية رصينة لتلكم الأفكار تنحت معرفياً في الأسس الفلسفية التي انبنت عليها، وترصد اجتماعياً وتاريخياً الشروط التي دفعت نحو تشكلها وتطورها عبر التاريخ مما يعين على تحقيق وعي ناجز عن مضامين تلكم الأفكار، ومن ثم تتضح صورتها جيداً أمام العقل العربي مما يمنع تسللها لصلب البنية الفكرية المؤسسة للفكر الإسلامي بلا وعي منا، وبذاك تحفظ الهوية المعرفية للأمة في مقابل الهويات المغايرة التي يراد لها أن تعمم.


طارق عثمان