تجربة (أردوغان) إسلامية أم علمانية؟ وما علاقتها بـ(الإخوان)؟ (2)
وكانت دعوات بوش لتطبيق الديمقراطية في العالم الإسلامي والعربي ولو بالقوة على أشدها في ذلك الوقت، وانبرى صحفيون وكُتاب أمريكيون وأوروبيون وقتها للدفاع عن موقف أردوغان، مستنكرين أن يغضب الغرب من نتيجة الديمقراطية إذا خالفت هوى الغرب.
قبل أن نتابع معًا ما فعله أردوغان عبر تجربته في تركيا، فإننا محتاجون لتذكر السياسة الخارجية لنجم الدين أربكان كزعيم سياسي إسلامي، وخاصة أثناء توليه الحكم عندما كان رئيسًا للوزراء، في منتصف التسعينات قبل إطاحة الجيش به في انقلاب 1997 كان أربكان غير مهتم، بل ربما رافضًا لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وكان يسعى ليبتعد بتركيا عن الولايات المتحدة وإسرائيل، كما سعى لتوثيق علاقة تركيا بالعالم الإسلامي، وأقام منظمة (الدول الإسلامية السبع الكبرى) لتضم أكبر سبع دول إسلامية من حيث عدد السكان، بهدف تكوين تكتل اقتصادي إسلامي قوي يواجه تكتل الدول السبع الكبرى الذي تقوده الولايات المتحدة، ويضم أكبر سبع اقتصاديات في العالم، وكلها أوروبية بجانب الولايات المتحدة واليابان وكندا، بالطبع منظمة أربكان هذه تدهورت بعد تركه الحكم، فسموها أولًا مجموعة الدول السبع، فحذفوا إسلامية وكبرى لئلا يغضبوا الغرب، وبعدها لم يعودوا يجتمعون أو يتعاونون لأن حكام هذه الدول هم بالطبع أذناب للغرب.
وعندما أسس أردوغان حزبه أعلن أنه حزب تركي، وابتعد به قليلًا عن القوالب التي اتسمت بها كل أحزاب أربكان التي كان مصيرها جميعًا الحل، وقال أن الالتزام الإسلامي لحزبه لا يعني مخالفة التقاليد العلمانية للدولة التركية، كما أعلن أن تركيا دولة أوروبية، ومستقبلها أوروبي، ويجب أن تنضم للاتحاد الأوروبي كدولة كاملة العضوية، وأكد أن هذا الهدف سيكون أولويته الخارجية الأولى، والأهم لو فاز حزبه في الانتخابات بجانب هدفه الداخلي؛ وهو النهوض بالاقتصاد التركي الذي كان وصل عشية انتخابات نوفمبر 2002 إلى حالة تردي خطيرة؛ إذ بلغت نسبة التضخم 65% كما بلغ الدين الخارجي 23.5 مليار دولار.
عندما فاز حزب أردوغان بالانتخابات (38%) شكل الحكومة برئاسة عبد الله جول لحين إصدار البرلمان قانون يتيح إسقاط عقوبة أردوغان، ليتمكن من خوض الانتخابات التكميلية ليتولى رئاسة الوزراء و قد كان، و تولى رئاسة الوزراء، بينما تولى جول فيما بعد رئاسة الجمهورية.
بجانب اهتمام أردوغان بالاقتصاد (وسنرى بعد سطور نتيجة هذا الاهتمام) فإنه كثف مباحثاته مع القادة الأوروبيين كي تنضم تركيا للاتحاد الأوروبي، وبالطبع أوروبا لم ولن تكون في يوم من الأيام راغبة في ضم 100 مليون مسلم تركي إلى الاتحاد الأوروبي، وفي الوقت الذي تسارعت وتيرة ضم دول أوروبا الشرقية للاتحاد فإن محاولات أردوغان للانضمام باءت بالفشل، فشن عليهم حربًا دبلوماسية بأنكم بهذا الرفض تعلنون أن الاتحاد الأوروبي هو نادي مسيحي، إلخ، كما أعطى أردوغان إشارات خلف الكواليس إلى الولايات المتحدة حليفة تركيا الكبرى بأن تركيا لو انضمت إلى الاتحاد الأوروبي فإنها ستكون رجل أمريكا في الاتحاد.
صحيح أن بريطانيا هي ذيل أمريكا في قلب الاتحاد، لكن أمريكا التي تخشى أن يتطور الاتحاد، ويصبح منافسًا دوليًا لها تحتاج مزيدًا من الأوراق لتقييد هذا الاتحاد، ووضعه تحت سيطرتها، ومن هنا جاءت ضغوطها المعلنة والسرية على الاتحاد لقبول تركيا، اضطر الاتحاد للتذرع بأن تركيا لا يمكن ضمها لأنها لا تتوفر فيها شروط الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان بحسب المعايير الأوروبية، وبدأ الاتحاد منذئذ تكتيكًا جديدًا للرفض؛ وهو: يجب على تركيا أن تتحول للنمط الأوروبي في الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهذا ما كان يريده أردوغان.
أعلن أردوغان أنه سيفعل أي شئ لضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وتوجه لإجراء التعديلات الدستورية التي تحول تركيا للنمط الأوروبي في الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكان أول وأصعب شيء في ذلك هو تقليص الدور السياسي للجيش في الدستور، عبر عدة تعديلات دستورية متتالية، بحجة تحويل تركيا إلى النمط الديمقراطي الأوروبي كي يقبل الاتحاد ضمها له، وبهذه التعديلات قلص دور مجلس الأمن القومي التركي (الذي كان يهيمن عليه العسكريون) ويسيطر على كل شيء في السياسة والإدارة التركية حتى صار دوره مجرد مستشار للحكومة يشير عليها، ويأتمر بأمرها.
كما جعل أمين المجلس شخصًا مدنيًا لأول مرة، وجعل عدد العسكريين فيه أقل من نصف المدنيين، وحرم على العسكريين التحدث للإعلام إلا في القضايا العسكرية والأمنية، على أن يكون ذلك تحت إشراف القيادة المدنية، ومنع محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وبسط الرقابة المحاسبية على العسكريين، بحيث يمكن محاسبتهم ومحاكمتهم على أي سلوك من سلوكيات الفساد المالي بعد أن كانوا لا يخضعون لأي رقابة مدنية.
وفي نفس الوقت أجرى عدة محاكمات لعدد من قيادات الجيش، ومنهم رئيس أركان سابق ونائب قائد الجيش وقادة جيوش وفرق والعديد من الجنرالات، بجانب قادة سياسيين حزبيين وإعلاميين، بتهمة محاولة قلب نظام الحكم، وتم ذلك في أوقات مختلفة منذ 2003، وحتى 2013 وكان ذلك في عدة قضايا أشهرها القضية المعروفة بـ (أرغينيكون)، وكذلك قضية عرفت بـ(المطرقة) وغيرهما، وعند بداية هذه المسيرة تحدثت تقارير عدة؛ أن قائد الجيش يفكر في القيام بانقلاب لمنع التعديلات الدستورية، إلا أنه سافر لواشنطن لأخذ الإذن بالانقلاب، وردت عليه واشنطن بأنه يجب عليه دعم أردوغان كي ينجح في ضم تركيا للاتحاد الأوروبي.
وبالطبع تمت التعديلات، وتعززت سيطرة أردوغان وحزبه على الحكم في مواجهة الجيش، الذي قلمت أظافره، بينما لم تنضم تركيا للاتحاد الأوروبي لأن أوروبا لا تريد تركيا.
أما في المجال الاقتصادي فقد رفع أردوغان الدخل الوطني لتركيا من 230 مليار دولار عشية حكمه إلى 820 هذا العام بينما رفع إجمالي الصادرات من 36 مليار إلى 153، وخفض فائدة الدين من 63 في المئة إلى 9.3 فقط، كما سدد الدين الخارجي بالكامل، والذي كان 23.5 مليار دولار عشية توليه الحكم، كما ارتفع احتياطي البنك المركزي التركي من العملة الصعبة من 27.5 مليار دولار في 2002 إلى 136 مليار دولار الآن، وارتفع متوسط دخل الفرد التركي من 3.492 دولار إلى أكثر من 10.744 دولار سنويًا، وتم إنشاء 17 ألف كيلو متر من الطرق، كما ارتفع عدد المطارات في عموم البلاد خلال هذه الفترة من 26 إلى 52 مطارًا، وبذلك كله وغيره انتقل الاقتصاد التركي من المرتبة 26 إلى المرتبة 16 عالميًا، كما احتلت تركيا المرتبة السادسة على المستوى الأوروبي في المجال الاقتصادي.
وبجانب الإنجازات الاقتصادية لأردوغان فقد قام بعدة انجازات سياسية لعل أبرزها حله لجزء كبير من المشكلة الكردية التي تؤرق تركيا منذ عشرات السنين، فضلًا عن إنجازاته السياسية التي حققها في مجال العلاقات الخارجية، خاصة فيما يتعلق بالدول الإسلامية، والعربية، ولكن مما يهمنا جدًا في تجربته هو ممارسته السياسية باحترافية عالية، وقصدنا بمفهوم الاحترافية في السياسة كتبنا عنه سابقًا، لكن لدينا مثالين عن تطبيق أردوغان لهذا المفهوم:
- المثال الأول: في الغزو الأمريكي على العراق عام 2004 حيث طلبت الولايات المتحدة من أردوغان أن يسمح للقوات الأمريكية لاستخدام قاعدة أمريكية ضخمة موجودة في تركيا (تابعة للناتو) لتكون منطلقًا لغزو شمال العراق، وذكرت أمريكا أردوغان بأن ذلك من مقتضيات التحالف التركي الأمريكي، ومن مقتضيات عضوية وشراكة تركيا في حلف الناتو، لكن أردوغان رد قائلًا: "نحن دولة ديمقراطية، ولدينا برلمان، ولا يمكنني اتخاذ هذا القرار قبل عرضه على البرلمان لأخذ موافقته"، وعرض الأمر على البرلمان التركي، الذي يتمتع فيه حزب العدالة والتنمية بالأكثرية، ولكن البرلمان التركي اتخذ قرارًا برفض استخدام الأراضي التركية لغزو العراق، وقد كان، وعندما عبرت أمريكا عن غضبها رد أردوغان: "ألم تطالبونا بالديمقراطية؟ هذه هي الديمقراطية! ممثلو الشعب التركي رفضوا طلبكم!".
وكانت دعوات بوش لتطبيق الديمقراطية في العالم الإسلامي والعربي ولو بالقوة على أشدها في ذلك الوقت، وانبرى صحفيون وكُتاب أمريكيون وأوروبيون وقتها للدفاع عن موقف أردوغان، مستنكرين أن يغضب الغرب من نتيجة الديمقراطية إذا خالفت هوى الغرب.
وبذا لم ينطلق غزو العراق من أراضي تركيا بينما انطلق من أراضي وأجواء عربية وإيرانية ودول إسلامية في أسيا الوسطى.
- المثال الثاني: إبان حرب غزة عام 2008 كان أردوغان يشارك في مؤتمر دافوس في مناظرة مع شيمون بيريز الزعيم الإسرائيلي ووجه أردوغان نقدًا لاذعًا لإسرائيل، وبيريز ثم افتعل مشكلة معه على الهواء معتبرًا أنه يهين تركيا (باعتبار أردوغان يمثل تركيا) ومتهمًا مدير المناظرة أنه منحاز لبيريز، وقام منسحبًا من المناظرة قائلًا لن أحضر دافوس مرة أخرى، وروجت وسائل الإعلام الموالية لأردوغان أنه إنما فعل ذلك حفاظًا على كرامة تركيا والشعب التركي، ورجع أردوغان ليجد آلاف الأتراك ينتظرونه في المطار يحيونه على موقفه، وخطب فيهم قائلًا: أنا لن أسمح أبدًا أن تهان تركيا أو الشعب التركي ولذلك انسحبت، فهتفت الجماهير له.
وهنا نجده أذل إسرائيل وبيريز على مرأى من العالم كله، وانتصر لغزة والفلسطينيين، وفي نفس الوقت صور الأمر للشعب التركي على أنه انتصار للقومية التركية وكرامتها.
هذا التحليل لا يهدف لسرد تفاصيل تجربة أردوغان السياسية والاقتصادية، وإلا لاحتجنا لكتاب وليس مقالًا، وإنما يهدف هذا التحليل لفهم الخطوط العامة المهمة لهذه التجربة فالتحليل يهتم بما وراء ما حدث لا بتفاصيل ما حدث ومن شاء التفاصيل فيمكنه البحث عنها على الويب وسيجدها.
ولنعد معًا ما سبق ببطء، ونفهم معًا أبعاده.
لقد تأمل أردوغان واقعه السياسي فوجد أن خصمه هم العلمانيون ووجد أن قوتهم في أمور هي:
1- الشريحة الشعبية الكبيرة: التي تؤيدهم لأنها تلوثت فكريًا أو سلوكيا (أو كلاهما) بالعلمانية، أو ارتبطت مصالحها بها، وبمؤسساتها، وهؤلاء تترجم قدراتهم إلى أصوات في الانتخابات، وهؤلاء واجههم بالعمل الجماهيري الناجح، وتحقيق الانجازات الاقتصادية لكسب أعداد أكبر من الشعب التركي لصفه وصف حزبه.
2- مؤسسات القضاء والإعلام وأساتذة الجامعات، وهؤلاء وجد أنهم لا يمكنهم فعل شيء إلا في إطار الظهير الشعبي المذكور في (1)، كما أدراك أن رأس حربتهم، وأداتهم في التنفيذ هي الجيش، لكنه مع ذلك عالج المؤسسة القضائية بالعديد من الإصلاحات الدستورية كي تستقيم بدرجة ما، وإلا لما استطاع القبض على العديد من قادة الجيش، ومحاكمتهم، وإحباط العديد من مؤامرات الانقلاب العسكري.
3- مؤسسة الجيش: وهذه لم يكن يمكنه مواجهتها بالتعديلات الدستورية فقط، و إلا لانقلبت عليه ومنعته من إتمام التعديلات، ولألغت البرلمان والحزب نفسه بمساندة القوى المذكورة في (1-2)، لكنه ألزمها تقبل التغيير عبر عمل سياسي مهم، وهو حيلة الانضمام للاتحاد الأوروبي، ووعد أمريكا بأن يكون حصان طروادة بالنسبة لأمريكا في الاتحاد، ومن ثم ضغطت أمريكا على الجيش ليتقبل التغيرات الديمقراطية واستمرار الحياة الديمقراطية في تركيا.
هناك عوامل مساعدة كثيرة ساعدت أردوغان، منها: ارتفاع الأصوات التي دعت الغرب بالسماح بإسلام معتدل ليحكم ليكون بديلًا لإسلام طالبان والقاعدة عشية هجمات 11 سبتمبر، وكذلك ذيوع القول بخطأ اعتماد الأمريكان على ديكتاتوريات الشرق الوسط على حساب الديمقراطية، مما أفرز الإرهاب والتشدد ونحو ذلك من دعوات مراكز الأبحاث الغربية، وفي الواقع فإن أردوغان استفاد من ذلك وكله واستغله حتى إذا مالت التوجهات الغربية لشيء من التغير بفعل انقلاب السيسي، وتوجه التحالف العربي المساند للسيسي (الذي اتخذ من السيسي رأس حربة له لضرب عصفوري الربيع العربي والحركة الإسلامية في المنطقة)، فإن أردوغان كان قد وصل لأرض صلبة يرتكز عليها ليصير أقل تأثرًا بالتقلبات الإقليمية والدولية، حيث استقرت الأوضاع الدستورية في حالة أقل خطرًا على وجود حزبه، كما أن انجازاته الاقتصادية الضخمة لا تسانده اقتصاديًا فقط، ولكنها حققت له تمكنًا سياسيًا، فبينما فاز الحزب عام 2002 بـ 38% فإن الحزب منذ شهرين فاز في المحليات بـ42%، ثم فاز أردوغان منذ أسبوع بـ56% من أول جولة، وهكذا تشير الأرقام لتصاعد في شعبية الحزب بشكل منتظم.
هذا ما فعله أردوغان في تجربته، وأنا أرى أن ما فعله هذا حتى الآن تنطبق عليه مقولة كيسنجر: "ما هو الشخص الثوري؟
إذا كان الجواب عن هذا السؤال ليس غامضًا لما كان الثوريون الناجحون قلة، لأن الثوريين دائمًا ما يبدءون من موقف أدنى، وينتصرون لأن النظام القائم لا يكون في مقدوره أن يدرك مدى وهنه، ويصبح هذا بصفة خاصة عندما يظهر التحدي الثوري ليس بمسيرة على الباستيل، بل مرتديًا زى المحافظين، إن قلة من المؤسسات هي التي تستطيع أن تدافع عن نفسها ضد أولئك الذين يدعون أنهم سيحافظون على تلك المؤسسات" (الدبلوماسية جـ/1، ص/ 133، ط/ روز اليوسف، القاهرة 2001م).
وإذا كان هذا هو ما فعله أردوغان سياسيًا، فما هو حكمه الشرعي في فقه السياسة الشرعية في الإسلام؟ وإجابة هذا السؤال هي موضوع الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
عبد المنعم منيب
صحفي و كاتب إسلامي مصري
- التصنيف: