فقه الدعوة وبرامج القنوات الفضائية الإسلامية
إن التقويم الموضوعي والعلمي لما تقدمه هذه الفضائيات من برامج يقتضي متابعة علمية لعينة منتقاة بعناية من مجمل هذه البرامج، ثم تحليلها علميًا من حيث الشكل والأسلوب والمضمون، ثم الحكم على نتائج هذا التحليل وفقًا لأحكام فقه الدعوة الإسلامية..
حققت البرامج الدينية التي تبثها القنوات الفضائية الإسلامية نجاحًا ملحوظًا، وتمثل هذا النجاح في انتشارها الواسع والمتزايد، والاهتمام الكبير الذي بات المشاهدون يولونه لها، وإزاء ذلك كله لا بد من وقفة موضوعية مع هذه البرامج وتلك القنوات لمراجعة حصادها العام، بعدما قطعت فترة زمنية تكفي لأن نقف معها وقفة تقويمية منصفة كي ندعم إيجابياتها ونناقش ونصوب سلبياتها، وذلك في إطار الامتثال الواجب لحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تميم الداري قال صلى الله عليه وآله وسلم: « » قُلْنَا لِمَنْ؟ قَالَ: « » (صحيح ابن حبان:4575)، وحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "« »، فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، أنصرُه إذا كان مظلومًا، أفرأيتَ إذا كان ظالمًا كيف أنصرُه؟ قال: « »" (صيح البخاري:6952).
إن التقويم الموضوعي والعلمي لما تقدمه هذه الفضائيات من برامج يقتضي متابعة علمية لعينة منتقاة بعناية من مجمل هذه البرامج، ثم تحليلها علميًا من حيث الشكل والأسلوب والمضمون، ثم الحكم على نتائج هذا التحليل وفقًا لأحكام فقه الدعوة الإسلامية، ونظرًا لأن مثل هذا العمل يحتاج لفريق عمل متخصص ومتكامل كما يحتاج قدرًا من الجهد والوقت لم يتوفر حتى الآن، فإننا نكتفي في هذه العجالة بتقديم انطباعات عامة تشمل الجوانب التالية:
1- أولويات هذه البرامج.
2- إعداد هذه البرامج.
3- مضمون هذه البرامج.
ولنتابع معا بعض التفاصيل الخاصة بكل من هذه المحاور المذكورة.
1- أولويات هذه البرامج:
أول ما نلحظه في هذه النقطة هو الشخصانية في إعداد أغلب هذه البرامج من حيث المضمون أو الأسلوب أو الترتيب، فالأولويات المتبعة في إعداد هذه البرامج بكل جوانبها هي أولويات الشيخ أو الأستاذ المعد بشكل شخصي جدًا ولا يمت للأولويات التي تكلم عنها كبار الكتاب والعلماء الإسلاميين بشأن فقه وأولويات العمل الإسلامي والدعوة الإسلامية، فالفضائيات الإسلامية في هذا الصدد مجرد درس يلقيه شيخ في مسجد، فهو يحدد مضمون وأهداف "الدرس- البرنامج" كما يحلو له وفي إطار نظرته الشخصية لأولويات الدعوة الإسلامية، ولأسباب مختلفة -لسنا بصدد شرحها هنا- فإن الأخوة المعدين لا يرتبطون ولا يهتمون بما كتبه أساطين الكتاب والعلماء الإسلاميين بشأن فقه الدعوة وأولوياتها، وأولويات العمل الإسلامي.
إن أية قناة تلفزيونية فضائية لها تأثير بالغ وخطير فليس من المبالغة أن نلزم أنفسنا بعمل قدر كاف من الدراسات النظرية والميدانية قبل أن نعد برنامجًا إسلاميًا، لا سيما وأن الدعاة والملتزمين عامة حديثو عهد باستخدام هذه الأداة، ومن ثم لزم الاستفادة بكل الدراسات اللازمة لهذا المجال قبل ارتياده، فالأمر لا يخص مائة أو ألفا يسمعون الشيخ في مسجد، بل يخص ملايين يشاهدون الشيخ ويسمعونه في كل وقت، قد ينفر كلام الشيخ أو أسلوبه ملايين منهم، وقد يجتذب ملايين آخرين، كما أن هؤلاء الذين اجتذبهم قد يقودهم إلى سلوك قويم كما قد يقودهم إلى سلوك يكتنفه قدر من السلبيات.
2- إعداد هذه البرامج ومعديها:
بعض المعدين هم ممن يشهد لهم بالعلم وسعة الاطلاع في مجال تخصصهم، لكن بعضًا منهم ليسوا كذلك، لكنهم يصرون على صنع الأفكار، وتبوء مقاعد المفكرين الذين يشخصون أدواء الأمة ويقودونها فكريًا ويوجهونها شرعيَا، رغم أنهم لم يحوزوا من الأدوات الفكرية والعلمية ما يؤهلهم لذلك، كما أنهم لا يتبعون الأساليب العلمية وقواعد الموضوعية في إعداد مادتهم العلمية وصنع أفكارهم التي يوجهونها للأمة، مستغلين اللمعان الذي تضفيه الفضائيات ووسائل الاتصال الحديثة، وكأن هذا اللمعان وهذه الشهرة بديل عن الإجازات العلمية في العلوم الشرعية التي ينبغي أن يحصل عليها الباحث أو الموجه الديني إن جاز التعبير..
وهكذا امتلأت ساحة البرامج الدينية في القنوات التليفزيونية الفضائية بالحابل والنابل من ذوي العلم وغير ذلك، وحل الطلب الجماهيري أو حتى الطلب من مالكي القنوات محل الأهلية العلمية والعقلية اللازمة لتبوء مقاعد الدعاة والمعدين -وإنا لله وإنا اليه راجعون- مما أنتج حالة الفوضى الفقهية والفكرية والدعوية التي نراها صباح مساء.
3- المسموح والممنوع في هذه البرامج:
السياسة أول محاذير هذه البرامج -وما أكثر محاذيرها- ولسنا ممن يطلبون أن تتحول الفضائيات الإسلامية إلى منابر للنضال السياسي الإسلامي، وإن كان لا مانع من ذلك واقعيًا ولا شرعيًا، لكن من قصرت به مؤنته من المعدين والمقدمين عن الهجرة في سبيل الله ليحوز حرية مثل هذا النضال، ومن كان كذلك من مالكي القنوات فلا بأس أن يقوم بدور دعوي هادئ يضمن له الاستمرار ويفوت على الجهات المانعة فرصة منعه، ولكن هذا الدور الهادئ لا يعني ممارسة التضليل السياسي، ولتكن هناك قاعدة محددة وواضحة لا تقبل لا ضغط ولا ابتزاز وهي: "إما نتكلم في السياسة كما نشاء أو لا نتكلم فيها مطلقًا".
أما أن يمنعونا من الكلام في السياسة وفي نفس الوقت نتكلم نحن كلامًا سياسيًا يرضيهم -علمًا أنه لن يرضيهم إلا إذا كان تأييدًا لهم أو على الأقل يصب في مصلحتهم- فهذا هو عين التضليل السياسي الذي لا يرضاه الله، ولا بد أن نستحضر معنا دائمًا ورقة سياسية قوية جدًا ما زلنا نملكها ألا وهي: "إنكم لو كنتم لن تعطونا قدرًا كافيًا من الحرية في هذه الفضائية المقامة تحت نفوذكم وتحت سيطرة حكومتكم فإننا يمكننا أن نلغي الترخيص الممنوح منكم، ونلغي البث المنطلق من مدينتكم، وننتقل لدولة أخرى تكفل لنا ما نشاء من حرية".
وتأتي قوة هذه الورقة وذلك التهديد من أننا لو بثثنا القناة من دولة أخرى فسنتحرر من القيود الموجودة هنا، ويمكننا أن ننطلق في نقد ومعارضة سياسات الدولة هنا، ومن ثم سيحرصون هم على احتواء القناة لمنعها من المعارضة القوية والصريحة، التي قد تمارسها إذا خرجت من تحت سيطرتهم، وهم يدركون هذا جيدًا أفضل من إدراك بعض مشايخنا الكرام، ومن ثم فسيتراجعون عن قدر لا بأس به من ضغوطهم حفاظًا على هذا الاحتواء.
وختامًا: يمكن أن يتداعى الإعلاميون الإسلاميون لعمل ميثاق شرف إسلامي يلزم أعضاءه بالقواعد العلمية والموضوعية في الإعداد والتقديم والفتاوى وغيرها، كما يوجه ويدير عمل الدراسات اللازمة لتطوير العمل الإعلامي الإسلامي شكلاً ومضمونًا وأسلوبًا وأولويات وغير ذلك، وكل ذلك يستلزم مزيد من التعاون والتنسيق بين العاملين للإسلام في هذا المجال تحت مظلة قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران من الآية:103].
نشرته في موقع لواء الشريعة وفي مدونتي القديمة في 12 نوفمبر 2008.
عبد المنعم منيب
صحفي و كاتب إسلامي مصري
- التصنيف: