ذكريات معتقل سابق: كسر العزلة
أغلب عائلات المعتقلين تحملوا وبجلد كثير من المشاكل وناءت أكتافهم بالكثير من الأعباء، ولا يمكن هنا أن نحصر هذا السلوك في أحد أطراف الأسرة، لأن الطرف الذي تحمل العبء في الأسرة اختلف من معتقل لأخر، فأنا سمعت أحد الأخوة يحكي عن دخول أحد أشقائه غرفة العناية المركزة بأحد المستشفيات الكبرى لخطورة حالته الصحية، ثم قال إثر ذلك: "لو مات شقيقي هذا فهنا فقط ستبدأ حبستي -أي إعتقالي-".
المعتقلون السياسيون تم عزلهم عن كل ما هو خارج جدران الزنزانة، لكنهم تمكنوا من كسر هذه العزلة..
أذكر أنني عندما جرى تقديمي إلى محاكمة عسكرية جديدة عام 1999م بعد قضائي في السجن ست سنوات، بعد محاكمتي العسكرية الأولى سنة 1993م كان أبي رحمه الله قد أصر أن يوكل لي محاميًا عسكريًا، وكان بعض المحامين الذين اعتادوا على احتكار الدفاع في قضايا الإسلاميين غاضبين من ذلك، وقاطعوني بسبب ذلك، لا سيما وأن أبي رحمه الله كان قد تعاقد مع هذا المحامي بعد دفع مبلغ مالي كبير نسبيًا، وحينها تدخل الأخ (.....) وكان معي في القضية لإصلاح العلاقة بيني وبين هؤلاء المحامين، وعندما قالوا له وقتها لماذا يدفع كل هذا المبلغ لهذا المحامي الغريب ونحن أحق به، فرد عليهم قائلاً يا رجل أنت عايزه يحكم على أبيه، ده الواحد فينا اليوم لا يستطيع أن يحكم على زوجته أو أبنائه، فكيف يحكم على أبيه؟
كما أذكر أن أحد الأخوة المعتقلين كان قادمًا من سجن الوادي الجديد ولما أقام عدة شهور في مستشفى ليمان طرة بدأ يعمل أعمالاً تجارية بسيطة كانت متاحة حينئذ في هذا السجن فقط، وكان أبرزها نسج الخرز في صور أقلام أو إكسسوارات حريمي أو محافظ أو شنط كلها حريمي، بجانب بيع بعض الأشياء الأخرى البسيطة بناء على ذلك استطاع أن يوفر دخلاً صغيرًا جدًا لكنه مناسب لأسرته الصغيرة التي يعولها وحده، والمكونة من زوجته وأمه، لكن سرعان ما دارت الأيام على غير آماله وهواه فتم ترحيله فجأة إلى سجن الوادي الجديد (الواحات)، ونظرًا لشدة المفاجأة من ناحية ومن ناحية أخرى نظرًا للمشكلات التي يعلم يقينًا أنها ستضغط على أسرته إذا غاب عنهم الدخل البسيط الذي لم يكن يستطع توفيره لهم إلا بالقعود في مستشفى ليمان طرة، ونظرًا لهذا كله فإن المعتقل المذكور أصيب بعد عدة أيام بصدمة عصبية فظل مجنونًا لعدة أيام ثم توفى.
وقد ذكر لى الأخ (......) قصة أخرى وهي قصته شخصيًا، حيث أنه كان معروفًا لي من قبل، وتربطني به صداقة خفيفة سابقًا، وقد اشتهر منذ 1994م أو بعدها بقليل أنه صار متعاونًا مع الأجهزة الأمنية تعاونًا مؤذيًا جدًا لكل زملائه، بل لكل المعتقلين السياسيين من جميع الأطياف الفكرية، فلما قابلته مؤخرًا أخذ في سرد قصته بالتفصيل دون أن أسأله، وبدا لي وكأنه يذكر هذه القصة ليعتذر بها عن موقفه..
فقال لي: "أنا أعرف أخوة كثيرين كانوا معي في تنظيم الجهاد، وهم بالخارج الآن ولم يدخلوا السجن وصاروا من أصحاب الملايين، وكانوا أصدقاءً لي، ومع ذلك طرد صاحب البيت أمي وزوجها المشلول، وأشقائي من أمي وهم صغار، طردهم إلى الشارع ليهدم البيت القديم المتهالك ويبني مكانه برجًا ليبيع شققه تمليك، وكانت أسرتي تنام على الرصيف في العراء، وفي نفس الوقت هؤلاء الزملاء يتعاملون في الأموال بالملايين، ولم يقدموا لأسرتي قرشًا، لذلك لو قابلت أحدهم وقال لي أنت أول من عملت توبة أو عملت بالإرشاد مع الأمن فإني سأضع أصابعي في عينه".
وإذا كان هذا جانبًا من الجوانب الاجتماعية للاتصال بين المعتقل وأسرته فهناك جوانب أخرى سواء ما يتعلق منها بالأسرة أو بوسائل أخرى للاتصال غير الزيارة وذلك ما سنعرض له فيما بعد إن شاء الله.
أما ما يتصل بالأسرة لم تلق بمشاكلها كلها في حجر المعتقل كما قد يبدو من السطور السابقة، بل إن السطور السابقة توضح جانبًا من الموضوع وهو أثر طبيعة الزيارة على مشاكل المعتقل وعلى معرفته بها، فطول انقطاعها يراكم المشاكل لكنه يغيبه عنها بما لذلك من إيجابيات وسلبيات، وانفتاح الزيارة يؤدي لما سبق وذكرناه، ولكن أغلب عائلات المعتقلين تحملوا وبجلد كثير من المشاكل وناءت أكتافهم بالكثير من الأعباء، ولا يمكن هنا أن نحصر هذا السلوك في أحد أطراف الأسرة، لأن الطرف الذي تحمل العبء في الأسرة اختلف من معتقل لأخر، فأنا سمعت أحد الأخوة يحكي عن دخول أحد أشقائه غرفة العناية المركزة بأحد المستشفيات الكبرى لخطورة حالته الصحية، ثم قال إثر ذلك: "لو مات شقيقي هذا فهنا فقط ستبدأ حبستي -أي إعتقالي-".
وسمعت ثانيًا وقد ماتت شقيقته يقول: "لو لم تمت لما شعرت أني محبوس".
وهذا ثالث كانت زوجته تعمل بالحقول كعاملة بأجرة يومًا بيوم لتنفق على نفسها وعلى زوجها وعلى ابنها.
وهذا رابع يقول: "إنه لم يشعر في المعتقل إلا بعد موت أبيه"، وكل هؤلاء لهم زوجات وأشقاء وأبناء، لكن اختلف الفعال من أسرة لأسرة، وفي حالات أخرى رأيت المعتقل له عدة أشقاء كلهم يشاركون في القيام بأعباء أخيهم المالية والاجتماعية.
كما رأيت معتقلاً أخر وهو رجل وحيد ومعه شقيقات عديدات وكلهن يشاركن زوجته في تحمل الأعباء، ويدفعن أبناءهن للمشاركة في تحمل عبء اعتقال خالهم، وهكذا اختلفت وتعددت الأطراف ذات المسئولية من أسرة لأخرى، وقد لاحظت أن هؤلاء الأطراف كانوا مخلصين وأوفياء وذوي إيثار في تحمل الأعباء، حتى إنني رأيت كثيرًا من المعتقلين يعيشون عيشة مريحة كأنهم من ذوي اليسار، وعلمت بعد ذلك أن أسرهم فقيرة لكنها أسر ذات إيثار تخرج القمة من فيها لتقدمها لابنها المعتقل ليس عن طيب خاطر فقط بل بفرح وسعادة أيضًا.
وأذكر أن أحد الأخوة المعتقلين يلبس ملابس فاخرة نسبيًا، وكان بعض الأخوة من قريته يقولون لي أمامه إن أمه تدلله لأنه وحيدها، وظننت حينئذ أن أمه من ذوي اليسار، ثم علمت بالمصادفة بعد ذلك أنها تبيع بعض السلع البسيطة بالسوق كي تستطيع أن تنفق على ابنها الشاب المتعلم المعتقل.
ولم تكن معاناة أهالي المعتقلين منحصرة في الأعباء المالية بل كانت الأعباء البدنية لا تقل عن ذلك، بل تزيد حيث قطع المسافة من البيت إلى سجون لم يكن بينها وبين البيت أقل من مائة كيلو في أحسن الأحوال، وكثيرًا ما كانت تزيد عن ذلك وتصل لأكثر من خمسمائة... إلخ..
وأذكر عام 1999م أثناء محاكمتي عسكريًا أن الجلسات كانت يومية، ونظرًا لأن الزيارة كانت ممنوعة في السجن بما في ذلك دخول أي طعام من أهالينا فقد كانت أسرنا تأتي كل يوم للمحكمة وتعطينا وجبة طعام تكفي ليوم واحد، وكان مقر المحكمة بالهايكستب، ولم تكن المحكمة تسمح لهم بمغادرة القاعة إلا بعد مغادرتنا، وكنا نحضر في السابعة صباحًا ونغادر في العاشرة مساءً، ورأيت أكثر الأسر ينامون وهم جالسون في قاعة المحكمة من الإرهاق وقلة النوم، فهم يغادرون بعد العاشرة مساء للبيت ثم يجهزون الطعام لليوم التالي، ثم ينامون ثلاث ساعات ثم يعودون مع الفجر للسفر إلى مقر المحكمة وهكذا لمدة أسبوع متواصل.. وكما أن لكل قاعدة إستثناءات فقد كان هناك أسر من ذوي اليسار تهمل أبناءها أو حتى تتجاهلهم تمامًا، ولا تزورهم ولا تحضر لهم شيئًا، ولكن هذه كانت حالات محدودة وقليلة..
كيف يتصل المعتقل بخارج السجن وكيف يطلع على العالم ما خارج السجن؟!
ذكرنا من قبل أن الزيارة أحد أهم وأبرز وسائل اتصال المعتقل بخارج السجن، لكن هناك وسائل أخرى للاتصال أقل شأنًا ولكنها مهمة بقدر كبير، وأحيانًا تصبح أهم من الزيارة لسبب أو لأخر.
وعلى سبيل المثال عندما جرى نقلي من سجن الفيوم 9/2002 إلى سجن أبي زعبل الجديد كان أحد المخبرين له علاقة حسنة بالعديد من المعتقلين، فكلمته أن يتصل بأبي رحمة الله ليعرف أسرتي إنني جرى نقلي إلى سجن أبي زعبل لئلا يأتوا لزيارتي بسجن الفيوم ولا يجوني، وفعلاً قام المخبر بالاتصال وأنا موجود على بوابة السجن تمهيدًا لنقلي، وتأكدت بعد ذلك من أسرتي ولم يتقاض هذا المخبر أي مبلغ مالي على هذه الخدمة الخطرة، التي لو انكشف أمرها لتم تنزيل رتبة المخبر إلى الأدنى.
وأحيانًا كنا نتصل بأسرنا بإلقاء ورقة مكتوبة فيها الرسالة التي نريد توصيلها وبجانبها رقم التليفون، ونقوم بإلقاء هذه الورقة من شباك سيارة الترحيلات أمام أحد المارة، وكان عادة ما يتصل وقد فعلتها أنا كثيرًا، واعتاد كل المعتقلين على ممارسة هذا السلوك عند الحاجة، فكلما تم نقل أحد المعتقلين أو حتى مجموعة معتقلين ألقوا بمثل هذه الرسائل ما لم تتسن طريقة أخرى للاتصال بعائلتهم، وبعدما لاحظ المعتقلون ارتفاع أسعار الاتصالات من خلال المعلومات التي تصلهم من عائلاتهم فإن كثيرًا من المعتقلين اعتادوا منذئذ على وضع مبلغ مالي صغير عبارة عن جنيه أو جنيهين داخل الرسالة الملقاة من شباك سيارة الترحيلات كي تكون ثمنًا للاتصال..
ويوجد أسلوب أخر للاتصال حيث يرسل المعتقل رسالة إما شفهية أو مكتوبه مع أسرة معتقل أخر يتلقونها أثناء الزيارة، ثم يوصلونها إما بالتليفون وهذا هو الأكثر، وإما بالمقابلة الشخصية المباشرة وذلك في حالة ما إذا كانت العائلتان على صلة ببعضهم.. ألقيت ورقة من سيارة الترحيلات واغتاظ جدًا، وظل يكرر على مسمعي بأن هناك معتقلين أغبياء ما زالوا يفكرون بالأسلوب القديم ويلقون أوراقًا من سيارة الترحيلات وعليهم أن يمتنعوا عن ذلك.. إلخ.
وعندما رجعت إلى السجن في هذه المرة دخلت من بوابة السجن وكان يمكن للقاعد في الزيارة أن يرى بسهولة الداخل من هذه البوابة دون أن يسمعه، لآن المسافة كانت بعيدة وحاولت جاهدًا دون جدوى أن أقنع ضابط السجن بأن يسمح لي بإبلاغ أحد الأخوة بالزيارة بأني رجعت للسجن لكنه رفض، وكان هذا المعتقل الذي أريد إبلاغه هو الشيخ (سيد الحجار) وكانت علاقة زوجته بزوجتي علاقة وطيدة، ولدى كل منهما تليفون الأخرى وظل الضابط مصرًا على منعي من التوجه إلى الشيخ سيد في الزيارة إلى أن خرجت جميع الأسر الزائرة من بوابة السجن إلى الشارع، وعندما دخلت للعنبر وقابلت الشيخ سيد في الزنزانة سلم علي وقال لي: "خلاص خبر رجوعك للبيت وصل لأهلك"، قلت له رأيتني فأبلغتهم قال: "نعم"، لقد رأيتك من أول ما فتحوا بوابة السجن لتدخل، وأبلغتهم وسيتصلون بأهلك الآن، كانت الاتصالات عبر أسر بعضنا البعض تزيد فرصنا في الاتصال بأهلنا، فبدل أن أعرف أخبارهم ويعرفوا أخباري في موعد زيارتي فقط تتواصل العلاقة والأخبار في مواعيد زيارات الآخرين.
ولم يكن ذلك صعبًا لأن عائلات المعتقلين عادة ما تتوثق علاقاتهم ببعضهم البعض نتيجة أشتراكهم في معاناة واحدة، معاناة اعتقال أقاربهم ومعاناة القيام بزيارتهم أيضًا، وقد أوضحنا أنواع هذه المعاناة في المقال السابق بالتفصيل وقد أدى توثق العلاقات بين أهالي المعتقلين إلى نشوء شبكة قوية نسبيًا من الاتصالات سواء شفهيًا أو بكتابة الرسائل، فأنا مثلاً علمت بوفاة والدي رحمة الله عبر رسالة شفهية وصلتني من زوجتي بعد موته بيومين، بينما لم يكن مقررًا لي زيارة إلا بعد موته بأسبوع.
وبينما كانت علاقات عائلات المعتقلين تيسر عملية الاتصالات فإن هناك علاقات نشأت أصلاً بغرض تيسير الاتصال ثم تواصلت هذه العلاقات بعد ذلك وتطورت إلى علاقات وثيقه وطيبه جدًا، ومثال ذلك أنني عندما جرى نقلي إلى سجن استقبال طرة عام 2004 لم يكن أهلي على صلة بأهل أحد من معتقلي الاستقبال بطرة، لأنني قضيت سنوات طويلة في سجون أخرى وكنت حديث عهد بسجن الاستقبال، وأثناء جلوسي مع الأخ محمد نديم وهو من أصدقائي القلائل بالسجن شكوت له من هذه المشكلة فقال لي لماذا؟!
عندك ياسر عبد السلام موجود بزنزانة رقم كذا وزوجته جارة لزوجتك، ومنه ستعرف من هم جيران زوجتك الأخرين من أهالي المعتقلين، وبالفعل تعرفت على ياسر وعن طريقه عرفت كلاً من عيد ثم مصطفى وكانت زوجة كل منهما تسكن بالقرب من زوجتي، وعن طريق هؤلاء ظللت أرسل الرسائل المكتوبه لزوجتي وأتلقى منها الرد، وكذا ترسل لي معهم أحيانًا الكتب التي كنت أحتاجها بسرعة قبل موعد زيارتي، وبعض الأشياء الخفيفة كالقهوة أو الشاي أو الدواء ونحو ذلك.
كما أننا تمكنا عن طريق هؤلاء المعارف من توفير قدر من المال الذي ندفعه كأجر للسيارة التي تنقل أسرتي من البيت للسجن ذهابًا وعودة، حيث كانت الأسر الأربع يشتركن في سيارة واحدة أحيانًا، ومن ثم يشتركن في دفع الأجرة ولكن هذا لم يكن دائمًا معي، لكن كانت في حالات أخرى مع أسر معتقلين أخرين مسألة وسيلة الانتقال للسجن والعودة منه أمر حتمي وثابت، أن يكون بالاشتراك في أجرة السيارة للتوفير ولأنه أكثر راحة من ركوب المواصلات العادية العامة، في حالات أخرى كانت الزيارة ممنوعة والاتصال بالأهل أو المحامي ممنوع، واستمر ذلك لسنوات طويلة فما كان لحل؟!
لقد كان الحل باستقطاب بعض أمناء الشرطة أو حراس السجن أو الجنود أو الموظفين أو الممرضين بمستشفى السجن، وكان هذا الاستقطاب يبدأ فكريًا بمحاولة استمالة الهدف وكسب تعاطفه مع ظروفنا ثم يتطور لإقناعه بأنه لو ساعدنا في توصيل رسائل شفهية بالتليفون أو كتابية باليد لعائلاتنا فإنه سيكون له أجر وثواب كبير عند الله، وأننا سندفع له تكاليف مثل هذا الاتصال وزيادة، والآن وبعد إتمام الألاف من مثل هذه الاتصالات عبر مئات من الحراس أو الجنود أو غيرهم لا يجدي كثيرًا تحديد ما إذا كان هذا تم بناء على قناعة فكرية بوجوب القيام بمثل هذا العمل الإنساني، أم بناءًا على رغبة في تحقيق مكسب مادي أو بمزيج من الاثنين، لكن على كل حال يمكنني الآن الجزم بأن كل هذه الدوافع كانت حاضرة واختلفت درجات كل منها من شخص لأخر..
ورغم أنني لم أنغمس بشكل واسع في مثل هذه العمليات، وإنما نفذت بعضًا منها لحسابي الخاص فقط لأنني على معرفة شبة كاملة بعمليات واسعة تم تنفيذها لحساب مئات المعتقلين خاصة ما جرى في سجن الوادي الجديد في الفترة من 1998 وحتى نهاية 1999، وكان ثمن الرسالة المكتوبه وقتها سبعين جنيهًا مقابل ذهاب الرسالة باليد للبيت والعودة برد مكتوب عليها بخط معروف للمعتقل، ومسموح بأن يصحب الرد مبالغ مالية، وذلك وفقًا للاتفاق الذي صار مشهورًا وثابتًا، وكان كل شخص من الأشخاص الذين يخرجون بالرسائل يخرج في كل نوباتجيه بأكثر من مائة رسالة مكتوبة ثم يعود في النوباتجية الأخرى بالرد وما معه من مال.
وفي إحدى المرات عاد ممرض بالردود، وكانت أكثر من مائة ودخل المستشفى فنام فلم يستيقظ إلا بعد غلق العنابر، فتركها في ملابسه وفي اليوم التالي عندما أنهى النوباتجية نسي وخرج بها مرة أخرى من السجن، دون أن يحتاط من التفتيش الروتيني الذي يتعرض له كل داخل أو خارج من السجن، ما دام من رتبة دون الضابط، وبالفعل تم ضبط الرسائل وجرى التحقيق معه بالطريقة التي يعرفها الجميع، فجر الخيط وظلت التحقيقات تجر الخيط من حلقة لأخرى، حتى انكشفت شبكة ضخمة نسبيًا تضم معتقلين من جهة وتضم من جهة أخرى ممرضين وموظفين، وحراس وجنود وأمناء شرطة كانوا جميعًا متعاونين في توصيل الرسائل وتلقى ردودها بين جميع معتقلي السجن وعائلاتهم، وقد تم عمل تحقيق رسمي وقضية لعدد من الممرضين والموظفين، وجاء الممرضون ليقضوا اعتقالهم في عنبر مجاور لمستشفى سجن ليمان طرة، التي كنت مقيمًا فيها وقتها وسمعتهم وسمعت ما جرى لهم..
لم يكن الاتصال بخارج السجن قاصرًا على الاتصال بالأهل، بل يحتاج كثير من المعتقلين لمعرفة ومتابعة الأخبار السياسية والاقتصادية المحلية والدولية، وكانت الصحف ممنوعة لسنوات طويلة، وكذا امتلاك المذياع أو التلفاز، وحتى عندما سمحوا بالصحف فإنهم كانوا يمنعون صحف المعارضة والمستقلة والأجنبية، وإزاء ذلك كان يتحتم علينا أن نتصرف فكنا نشتري الصحف من المسجونين الجنائيين، والتي كانوا عادة يسرقونها من مكاتب الضباط أو غيرها، كما كنا ندفع نقودًا للمسئولين عن التفتيش أثناء إدخال الطعام الوارد لنا من عائلاتنا، أو أثناء رجوع بعض المعتقلين من المحكمة، أو النيابة كي يغض هؤلاء المفتشون الطرف عن دخول صحف او مذياع أو اقلام أو كتب..
ولقد حقق المعتقلون كثيرًا من النجاحات في هذا المجال لدرجة أننا كنا نتابع صحفًا بعينها بشكل منتظم، لكن هذا كان يتكلف كثيرًا من المال، حتى إننا كنا نشتري الجريده التي ثمنها جنيهًا واحد بـ15 جنيه وقد أدى ذلك لتوقيع عقوبات كثيرة على حراس وضباط السجن خاصة من كان منهم في مباحث السجن، وكان ذلك يحدث عندما كان يتم ضبط كميات متسلسة الأرقام من الصحف والمجلات في الزنازين، حيث أن ذلك كان يعني أنها تدخل بانتظام وبشكل مستقر..
أما المعركة التي كانت أكثر صعوبة وخطورة وأكثر تكلفة فهي الحصول على مذياع صغير، ووصل الأمر بنا أننا اشترينا من مسجون جنائي ذات مرة مذياعًا بثمانين جنيهًا، بينما ثمنه الأصلي الذي يستحقه لم يكن يزيد على عشرة جنيهات، لكن شدة حاجتنا له دفعتنا لعدم التفكير في حجم المال المدفوع فيه، والمذياع بهذا السعر أوفر وأفضل من شراء جريدة بـ15 أو 20 جنيهًا، ولكن المذياع معرض لأن يعثروا عليه ويصادروه ويعاقبوا الزنزانة التي وجدوه فيها في أي لحظة، فكان شراء مذياع يستلزم إيجاد مكان يصلح لإخفائة من التفتيش الدوري الذي تجريه مباحث السجن، وهذا كان تحديًا أخر يواجهنا، واختلفت طريقة الإخفاء من سجن لأخر بل من زنزانة لأخرى..
وكانت السجون القديمة المبنية بالطوب العادي وأرضيتها من البلاط العادي كانت سهلة، حيث يجري خلع بلاطة والحفر تحت البلاطة المجاورة لها، ودس المذياع الملفوف جيدًا في عدة أكياس بلاستيك لحمايته من أي رطوبة، وكذا كان من السهل عمل مكان سري في الحائط الذي يسهل حفره، لكن مع تطور خبرات الجهاز الأمني ومعرفته بأساليب المعتقلين، جرى بناء جميع السجون الجديدة من الخرسانه المسلحة سواء الحوائط أو الأرضية أو السقف ،كما جرى دهانها بدهان براق يتيح لأي مفتش الاطلاع على أي خدش يطرأ عليه ليفحصه ويدرك ما إذا كان تحته مخبأ أم لا.
ولكن المعتقلين لم يستكينوا لهذا التحدي الجديد، فقاموا بابتداع طرق عديده للإخفاء في هذه الخرسانة، فقاموا بتحديد الأماكن الضعيفة منها، وكذا الأماكن التي يعقبها تجويف ما، ثم حفروا هذه الخرسانة بأدوات بدائية وبطرق مختلفه وعملوا بها تجاويف للمذياع أو الأقلام والأوراق، أو حتى الكتب، واختلف ذلك من سجن لسجن ومن وقت لوقت، وكان دائمًا من المهم لنجاح العملية أن يتم لصق قشرة مماثلة لطلاء الغرفة تمامًا، فوق فوهة التجويف الذي تحتم دائمًا سد حلقها بطريقة تجعلها صماء، بحيث حتى لو نقرها لمفتش بيده أو بأي آله تعطي صوتًا مصمتًا عاديًا لا يشير لوجود أي تجويف في هذا المكان.
واختلفت فلسفات المعتقلين في اختيار المكان الذي يجري عمل المخبأ به فالبعض اختار مكانًا بعيدًا عن العيون مثل أعلى قمة السور الفاصل بين دورة المياه والزنزانة في سجن الوادي الجديد، مثل عتبة الشباك الداخلية في سجون الفيوم علمًا أن الشباك ملتصق بسقف الغرفة، بينما اختار البعض مكانًا ظاهرًا تحت العيون أعتمادًا على أن المفتش عادة ما يبحث في الأماكن البعيدة والخفية، ولم يخطر بباله أن أحدًا سيخفي شيئًا تحت عينه مباشرة، فكان هذا الفريق يعمل المخبأ في وسط الغرفة أو أي مكان ظاهر فيها.
وكان المخبأ يطلقون عليه تأمين، ولكن لا يجري التلفظ بهذه الكلمة بصوت مرتفع أبدًا، بل كان له اسم حركي يجري التلفظ به بشكل عادي، وهذا الاسم هو (أبو أمين) فلو طلب شخص المذياع أو القلم أو الورق فأن الرد لو كان في المخبأ أن يقال أنه عند أبي أمين فيفهم جميع المعتقلين أنه في التأمين، وأن موعد خروجه من التأمين لم يحن بعد.
وكانت بقية الأشياء الممنوعه لها أسماء حركية خشية أن يسترق أحد من الحراس السمع، ويبلغ عن وجود شيء ممنوع بالزنزانة فكان القلم نطق عليه عبد الحميد نسبة إلى عبد الحميد الكاتب، وكان المذياع يطلق عليه ماجد سرحان نسبة للمذيع الراحل في الـ BBC وهكذا كان يطلق على الصحفـة (هيكل) نسبة للصحفي الشهير، وبهذه الأساليب تغلب المعتقلون على عوائق الاتصال والحصول على المعلومات في السابق، ولكن في السنوات الأخيرة تم السماح لأكثر المعتقلين بالحصول على المذياع والتلفاز والصحف الحكومية بشكل رسمي..
كما جرى السماح بشكل غير رسمي بالصحف المستقلة والمعارضة والأجنبية، واهتم كثير من المعتقلين بالصحف المستقلة وعلى رأسها الدستور، وصوت الأمة، والمصري اليوم، بالإضافة لجريدة الأهرام شبة الرسمية التي ما يزال يهتم بها كثير من المعتقلين السياسيين، أما الصحف العربية التي تصدر في الخارج فلم يهتموا إلا بصحيفة الشرق الأوسط وصحيفة الحياة الصادرتان في لندن، وكان فريق كبير يهتم بالحياة من أجل ما بها من مقالات وتحليلات سياسية، بينما كان فريق أكبر يهتم بالشرق الأوسط بسبب متابعتها المميزة بشأن الحركات الإسلامية، ودأب المعتقلون على شراء عدد من الصحف بمال عام مجموع من جميع المعتقلين، أو نحو ذلك بحيث تتاح هذه الصحف للمعتقلين جميعًا مثلها مثل الطعام العام الذي يأكل منه الجميع وهذا تقليد يعمل به المعتقلون بكل السجون غالبًا.
كما أنشأت مجموعات من المعتقلين اتحادات خاصة يدفع أعضاؤها اشتراكًا أسبوعيًا مقابل شراء صحف ومجلات معفية تتاح لجميع أعضاء الاتحاد، وهذا شيء إضافي يضاف ويتكامل مع الجرائد العامة المذكورة من قبل.
وكان قلة من المعتقلين يتابعون صحفًا ومجلات بريطانية وأمريكية، وسبب قلة عددهم أمران الأول غلاء ثمن هذه المجلات، والثاني حاجز اللغة الأجنبية حيث لم يكن متمكنًا منها سوى قلة، وكان عدد أقل يتابع (دير شبيجل الألمانية) لندرة من يعرف هذه اللغة من المعتقلين، وبعد ما أصبح التليفون المحمول متاحًا في مصر بدأ عدد من المعتقلين يهربونه للسجن ويستخدمونه خفية، وكثرت حالات ضبط تليفونات محمولة في السجون في الفترة الاخيرة ولا يتعرض حامله لعقوبات قانونية لعدم وجود قانون يحرم ذلك، لكنه يتعرض لعقوبات إدارية في أغلب الحالات مثل: أن يتم تغريب المعتقل، أي نقله إلى سجن بعيد جدًا، وعادة ما يكون سجن الوادي الجديد حتى صار في سجن الوادي الجديد عنبر أسمه عنبر المحمول، لكن المشكلة جاءت من أنه جرى ضبط أجهزة تليفون محمول في سجن الوادي الجديد نفسه.
تم نشر هذا المقال في المدونة القديمة وفي جريدة (الدستور المصرية) بتاريخ 28 نوفمبر2007م.
وكان هو الحلقة الثانية من 16 حلقة نشرت تباعًا بشكل أسبوعي منذئذ شرحت مشاهداتي للأوضاع الاجتماعية والنفسية والاقتصادية للمعتقلين السياسيين في سجون مبارك طوال فترة اعتقالي التي استمرت من 21 فبراير 1993م وحتى 1 أغسطس 2007م.
عبد المنعم منيب
صحفي و كاتب إسلامي مصري
- التصنيف: