قبسات من أدب الدكتور راشد المبارك
"عن الشِّعر الذي يُشكِّل الشطرَ الأعظم من أدب الدكتور راشد المبارك، والذي ضَمَّهُ ديوانه (رسالة إلى ولادة) بجزأيه: الأول والثاني؛ لأقتبسَ منه بعضَ القبسات، أُمهِّدُ لها بالحديث عن مِفتاح شخصيَّة الشاعر التي تُعِينُنا على فهْم شِعره".
الأدب ما تأخُذُ به نفسَك من محمود الخِصال، وكريمِ الفِعال، وهو -كذلك- فنُّ القَوْلِ الجميل، شِعرًا كان أو نثرًا، فالأدب -بهذا النَّظَرِ- أدَبان، ومن كلَيْهما أخَذ الدكتور راشد المبارك حظًّا وافرًا.
أمَّا أدب النَّفس فلا يعرفُه في أديبنا إلا مَن عاشَرَه عن قُرْبٍ وطالَتْ عِشرتُه له، وأنا واحدٌ من هؤلاء؛ إذ جاوَزَتْ صُحبَتي له ثلاثين سنةً رأيتُه فيها في غضَبِه ورِضاه، وصحَّته وسقمه، ومنشطه ومكرهه، فوجدت فيه مجموعةً من المَزايا هو فيها نسيج وحدِه؛ ولا يملكُ مَن عرَفَه حقَّ المعرفة إلا أنْ يحلَّه من نفسه مكانةً خاصَّة، سواء وافَقَه الرأيَ أم خالَفَه.
لقد زرَع أبو بسام في قلب كلِّ شخص عرَفَه شُجَيرةَ وردٍ؛ سقاها تعهُّدًا وودًّا، وتفقُّدًا ورفدًا.
هذه لمحةٌ عن أدب النفس الذي عَزَّ في هذه الأيَّام وفي سواها، والذي وجدتُ من حقِّ الوفاء عليَّ أنْ أُقدِّمَ به بين يدي حديثي عن أدب القول.
أمَّا أدب القول الذي هو شعرٌ ونثرٌ فقد تألَّقَ بساحتيه شاعرُنا، حتى لَيَصدُقُ فيه قولُ أخينا الشاعر المبدع الدكتور عبدالكريم المشهداني في قصيدته (اليراع المزهر):
تَدَفَّقْ كَمَا شِئْتَ يَا شَاعِرُ *** فَفِيكَ اسْتَوَى النَّاظِمُ النَّاثِرُ
وَلِمْ لا يُذَلُّ عَصِيُّ الكَلامِ *** وَأَنْتَ بِهِ اللاَّعِبُ المَاهِرُ
وَتَسْتَلِمُ الشُّرَّدُ النَّافِرَاتُ *** كَمَا قَادَ مَأْسُورَهُ الآسِرُ
فَإِمَّا نَظَمْتَ وَإِمَّا نَثَرْتَ *** فَأَنْتَ مُرَوِّضُهَا السَّاحِرُ
نثرُ الدكتور راشد المبارك نوعان: أدبي وعلمي؛ أمَّا الأدبي فأضربُ عليه مثالين مُوجزين -وحسبُك من القِلادة ما أحاطَ بالعنُق- وهما ما كتبه على البديهة إهداءً لي على كتابه (قراءة في دفاتر مجهولة) وديوانه الأول (رسالة إلى ولادة).
قال في الأول: أخي أبا عمر، هذه الصفحات صَدًى استبَقَ -هذه المرَّةَ- الصوت الذي بعَثَه، وهو صوتُ قلَّةٍ من الرائين أنت واحدٌ منهم، مع الودِّ والتحيَّة.
وقال في الثاني: الأخ الكريم أبا عمر، خَفقات جناح، إذا قُدِّرَ لها أنْ تُلامِسَ بعض أوتارك فقد وصَلتْ إليك!
وأمَّا ما سمَّيته -تجاوزًا- النثر العلمي فهو سائر كتاباته التي تقرؤها في كتبه: هذا الكون ماذا نعرف عنه؟ وفلسفة الكراهية، وشِعر نزار بين احتباسين، وقراءة في دفاتر مهجورة، وهو الذي قال في تقديمه شيخنا الكبير محمد الغزالي رحمه الله ما نصُّه:
"عرفت الدكتور (راشد المبارك) من سِنين، ومنذ عرفتُه حرصت على صُحبته ومجالسته وقِراءته؛ فهو عقلٌ كبير، وخُلُقٌ رحبٌ، والطريف أنَّه أستاذٌ في علوم الكون والحياة، ولكنَّه مَكِين في الأدب العربي، خبيرٌ بشِعره ونَثره، ويظهَرُ ذلك في أسلوبه الذي يتضمَّن عباراتٍ فنيَّة من مصطلحات الفيزياء والكيمياء، ولعلَّه يظهر قبل ذلك في مَنطِقه العقلي حين يُعالج قضايا مختلفة بين الدِّين والحضارة والتاريخ...".
وقد صدَق الشيخ الغزالي رحمه الله فالمنطقُ العقليُّ لأيِّ كاتب يظهرُ في أسلوبه؛ ذلك أنَّ الجُمَل الموجزة البسيطة غيرُ الجُمَل الطويلة المركَّبة، والأفكار الواضحة اليسيرة غير الأفكار الغامضة العسيرة على فهْم القُرَّاء العاديين... وأُعطِي مثالًا واحدًا على الجُمَلِ الطويلة المركَّبة؛ هو السطور التي قدَّم بها أديبُنا لمقاله (دعوةٌ إلى قراءةٍ في دفاترَ مهجورةٍ)، قال: "إذا بَدَا لفردٍ أو أفرادٍ أنَّ في هذا الفصل نبرةً حادَّة، أو تصوُّرًا يصدمُ ما أَلِفت أنفسُنا، من دَعَةِ فكرٍ صنَعَها الإلفُ الطويل لنَمَطٍ واحدٍ من التعليل والتحليل يتكرَّر في ديمومةٍ وإلحاحٍ فيما يُقرَأ ويُشاهَدُ ويُذاع، فليست الحدَّةُ ولا الإيلامُ مقصدًا من مقاصد هذا الفصل، ولا غايةً من غاياته، ولكنَّها دعوةٌ للنفس وللآخَرين إلى محاولةٍ لفهم بَواعِث ما يُعانِيهِ العالَم الإسلامي والوطَن العربي، وتشخيصٍ لسببِ ما هو عليه من حالٍ ليس مظهرًا من مظاهر الصحَّة، ولكنَّه عَرَضٌ من أعراض مرضٍ لم تجدْ قواميس الطب له تعريفًا".
أنتقلُ الآن للحديث عن الشِّعر الذي يُشكِّل الشطرَ الأعظم من أدب الدكتور راشد المبارك، والذي ضَمَّهُ ديوانه (رسالة إلى والدة) بجزأيه: الأول والثاني؛ لأقتبسَ منه بعضَ القبسات، أُمهِّدُ لها بالحديث عن مِفتاح شخصيَّة الشاعر التي تُعِينُنا على فهْم شِعره.
كان من عادة الأستاذ عباس محمود العقاد رحمه الله عندما كتب (العبقريات) أنْ يعقدَ في الحديث عن كلِّ عظيمٍ فصلًا بعنوان (مفتاح شخصيَّته)، وكان ممَّا قالَه وهو يتحدَّثُ عن عظمة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تعريف هذا المفتاح (مفتاح الشخصيَّة): "هو الأداة الصغيرة التي تفتحُ لنا أبوابَها، وتنفذُ بنا وَراء أسوارِها وجُدرانها، وهو كمفتاح البيت في كثيرٍ من المشابه والأغراض، فيكون البيت كالحِصن المغلق ما لم تكن معك هذه الأداة، فإذا عالَجتَه بها فلا حِصْنَ ولا أغلاق!".
وأستدركُ على العقاد رحمه الله فأقول: إنَّ النَّفس البشريَّة أغنَى وأوسعُ من أنْ يفتح أغلاقَها مِفتاحٌ واحد، بل البيت الصغير لا يفتحُ أبواب غُرَفِه المتعدِّدةِ مفتاحٌ واحد، ناهيكَ عن خَزائنه وأدراجه، وأسراره وأستاره، فكيف بالإنسان؟!
لكنَّ هذا الاستدراكَ لا يمنعُني من الاستِفادة من الفكرة الذكيَّة للعقاد في حديثنا عن الدكتور راشد المبارك.
إنَّ من أهمِّ مفاتيح شخصيَّة الدكتور راشد المبارك التي تفتحُ لك أبوابها، وتُلقِي الضوءَ على شِعره: حبَّ الجمال في كلِّ وُجوهِه: في المرأة، والزهرة، واللون، وفي التعبير البارع، والتصوير الدَّقيق.
ومفتاحٌ آخَر لا يقلُّ أهميَّةً عن الأوَّل هو (الإحساس المرهف) بآلام الآخَرين ومُعاناتهم إحساسًا يكدرُ عليه صفوَه، ويشعرُه بالذَّنب كأنَّه المسؤول عن مُعاناتهم وآلامِهم.
إنَّ استحضارَ هذين المعنيَيْن يعينُنا على الغوصِ في أعماق شِعره، غوصًا لا يقدرُ عليه إلا الخبراءُ في صَيْدِ اللآلئ؛ فشِعرُه ليس للخاصَّة دائمًا، بل هو لخاصَّة الخاصَّة أحيانًا، عندما يمعنُ في الغَوْصِ أو التحليق.
القبسة الأولى: العطَش:
إنَّ الطبيعة تجنحُ إلى الارتِواء، لكنَّك عندما تقرأ "العطش" في شِعر أبي بسام تحنُّ إليه، آمِلًا أنْ تنطفئ نار ظمَئِك بالسبب الذي أورى نارَ عطشِه، وهذا ليس استِنتاجًا يتعبُ القارئ في الوصول إليه، بل هو التعريف الذي اختارَه الشاعر لدِيوانه عندما قال عنه: هذه الصفحات هي:
خَفَقَاتٌ مِنْ جَنَاحٍ عَاشِقٍ *** أَيْكَةٌ تَخْضَلُ فِي بَوْحٍ كَنَارْ
قَطَعَ العُمْرَ حَنِينًا ظَامِئًا *** لِنَدًى، وَرْدٌ إِلَى ذَوْبِ نَضَارْ
بَاحِثًا فِي عَطَشٍ، فِي لَهْفَةٍ *** عَنْ يَنَابِيعَ، وَعَنْ ضَوْءِ نَهَارْ
يَا حَنِينَ الضَّوْءِ أَظْمَأْتَ الظَّمَا *** فِي حَشَاشَاتِي، وَأَبْعَدْتَ المَدَارْ
ومع أنَّ الإبحارَ في هذا التيَّار كثيرُ الأخطار، فإنِّي أجدُ أن لا بُدَّ لي من الإشارة إلى قصيدة (مفاتن) التي يخاطبُ الشاعر صاحبتَها بقوله:
دُنْيَا مِنَ الشَّهَوَاتِ الحُمْرِ صَاخِبَةٌ *** تَجْتَاحُ جِسْمَكِ تَغْلِي فِي الشَّرَايِينِ
ومطلعها:
عَيْنَاكِ تَسْلُبُ لُبِّي، تَسْتَثِيرُ دَمِي *** تُفَجِّرُ الرَّغْبَةَ الخَرْسَاءَ، تُغْرِينِي
تُغْوِي ابْتِهَالاتُ قَلْبِي، تَسْتَبِدُّ بِهَا *** بِعَاصِفٍ مِنْ فُتُونِ الحُسْنِ مَجْنُونِ
وتأتي قصيدة (عطش نهر) ظمًا مختلفًا عن ظمأ (فتون)، يغلبُ فيها ظمأ النَّفس على ظمَأ الحس، تأتي في أربعة عشر بيتًا، ختامها هذا التوسُّل:
صُبِّي بَهَاكِ بِقَلْبٍ لا ارْتِوَاءَ لَهُ *** وَأَطْفِئِي فِيهِ مَا لاقَى مِنَ الحَرَقِ
القبسة الثانية، الحس المرهف:
قلنا: إنَّ من مفاتيح شخصيَّة الدكتور راشد المبارك: إحساسَه بآلام الضُّعَفاء والمظلومين، وهذه صفةٌ يَراها بالعين المجرَّدة كلُّ مَن رأى صاحبَها، ويَراها بعين الذوق كلُّ مَن قرأ شعره.. أليس هو القائل:
أَنَا نَشِيجُ الأَسَى فِي صَدْرِ مَنْ ظُلِمُوا *** أَنَا أَنِينُ الشَّجَى فِي قَلْبِ مَنْ نُكِبُوا
والقائل عن نفسه في وصيَّته: إنَّه كان:
يَكْتَوِي بِالدَّمْعِ فِي عَيْنِ يَتِيمْ *** لَمْ يُدَاعِبْهُ حَنَانٌ مِنْ حَمِيمْ
فَقَدَ الأُمَّ الَّتِي تَحْنُو عَلَيْهِ *** وَالأَبَ السَّمْحَ الَّذِي يَرْنُو إِلَيْهِ
وإنَّه كان:
يَكْتَوِي بِالهَمِّ فِي قَلْبٍ سَجِينْ
غَابَ عَنْ أُمٍّ وَعَنْ طِفْلٍ سِنِينْ
نَسِيَ الشَّمْسَ فَدُنْيَاهُ ظَلامْ
عَصَرَتْهُ عَضَّةُ القَيْدِ وَقَبْرُ
وَسِيَاطٌ تَأْكُلُ الجِسْمَ وَأَسْرُ
ذَنْبُه: أَنْ لَمْ يَكُنْ مُغْتَبِطًا
بِسِيَاطِ الظُّلْمِ مِنْ حَاكِمِهِ
بِفَتَاوَى الجَوْرِ مِنْ صَاحِبِ فَتْوَى
يَبْسُطُ الكَفَّ لِتَقْبِيلِ مُرِيدْ
يَخْفِضُ الرَّأْسَ لِحِفْنَاتِ السَّلا
طِينِ ومن خَوْفٍ وَعِيدْ!
وإذا كان هذا الإحساس كاويًا من أجل طفلٍ أو سجين، فهو من أجل الأمَّة: حرقٌ، وتفجُّع، وألم وغضب.
جاء في قصيدة (أرض الهوان) التي نُظِمت بعدَ قصفِ الطائرات اليهوديَّة مواقع عربيَّة دمَّرت فيها البيوت وقتلَتْ ساكنيها:
تَوَزَّعَتْنَا الأَعَادِي شِلْوَ مَعْرَكَةٍ *** شَلَّ الخَنَا فِي وَغَاهَا السَّيْفَ وَالقَلَمَا
قَدْ أَخْمَدَ الجَوْرُ فِينَا كُلَّ نَخْوَتِنَا *** وَقَدْ طَوَى الذُّلُّ فِينَا العِزَّ وَالعلمَا
لَوْ كَانَ لِلذُّلِّ يَوْمًا مَنْ يُعَلِّمُهُ *** لَوَرَّثَتْنَا اللَّيَالِي رَايَةً وَسَمَا
لكنَّ هذا الهجاء المرَّ المظلم لا يثبت أنْ يتحوَّل إلى رجاءٍ حلو مشرق:
لَنْ تَسْتَقِيمَ عَلَى ذُلٍّ جَوَانِحُنَا *** لِلَيْلِنَا أَلْفُ صُبْحٍ يَهْزِمُ الظلَمَا
إِنَّا وَإِيَّاكَ، وَالأَيَّامُ شَاهِدَةٌ *** لِيَعْلَمَ الدَّهْرُ أَنَّا مِنْ أَعَزِّ حِمَى
رَحِم الله أبا ريشة؛ إذ التاريخ يعيدُ نفسَه، والشاعر بالشاعر يُذكَر، والجرحُ بالجرحِ يُذكَر، رَحِمَ الله أبا ريشة، القائل عام 1945م في قصيدته التي أُلقيت في ذكرى المولد النبوي الأغر، في الأسبوع الذي أعلَنَ فيه الرئيس روزفلت أنَّ الميثاق الأطلسي كفيل الحريَّات الأربع، لا أثرَ له في الوجود:
وَيَا نَجِيعًا عَلَى التَّذْكَارِ مُنْسَرِبًا *** هَلْ مِنْ ضِمَادٍ يَرُدُّ الجُرْحَ مُلْتَئِمَا
تِلْكَ الرُّبُوعُ الَّتِي نَامَ الفَخَارُ بِهَا *** لَمْ تَلْقَ مِنْ حَوْلِهَا إِلاَّ الَّذِي هَدَمَا
وَلِلْعُلُوجِ عَلَى أَنْقَاضِهَا سُرُرٌ *** لَوِ اسْتَطَاعَتْ لأَهْوَتْ فَوْقَهُمْ رُجُمَا
وَمَا المَوَاثِيقُ إِنْ فَاهَ القَوِيُّ بِهَا *** وَنَصَّبَ الخَتْلَ فِي أَقْدَاسِهَا حِكَمَا؟!
مَا كَانَ أَغْنَاهُ عَنْ تَزْوِيرِ غَايَتِهِ *** مَنْ يَحْمِلُ السَّيْفَ لا يَبْرِي بِهِ قَلَمَا!
القبسة الثالثة: براعة التصوير وبراعة التعبير:
إذا كان للشعر العالي رُكنان لا ثالثَ لهما، فإنَّ براعةَ التعبير وبراعةَ التصوير هما في يقيني هذان الركنان!
أمَّا المقصود ببَراعة التصوير فواضحٌ، وأمَّا بَراعة التعبير فأعني بها: جمال التركيب، وسَلاسة اللغة، وعُذوبة الأسلوب، "التي أسهَمتْ جميعها في صِناعة عبقريَّة البحتري الشعريَّة حتى قِيلَ عن شِعره: إنَّه كسلاسل الذَّهب، وأراد أنْ يُشعِرَ فغنَّى!".
وقبل تجلية هذه القبسة بأمثلةٍ أستحسنُ أنْ أُورِدَ ما قالَه صديقنا الشاعر اليمني المبدع الأستاذ قاسم بن علي الوزير في تقدمتِه للجزء الأول من (رسالة إلى ولادة)، وهو يتحدَّثُ عن التصوير في شعر الدكتور راشد المبارك.
"والصورة فيه واضحةٌ في عُمق، عميقةٌ في وُضوح؛ يحولُ وضوحُها دُون تحوُّلها إلى ألغاز، ويمنع عُمقها السطحيَّة من الاقتراب منه، أو تسلل التقريريَّة إليه.
"ظِلالها نديَّة موحية، وحَرارتها لاذعة ملهمة، وهي تجيءُ وتروحُ مع المعاني مانحةً إياها أبعادًا أعمق، مُرتادة بها آفاقًا أعلى، فما تزالُ الدهشة تهزُّك متجدِّدة مع كلِّ قراءةٍ، تكشفُ خَبايا مَذخورة من متع "السمع والبصر"، وهزَّة الاكتشاف لأفانين شتَّى من معاني العاطفة الصادقة التي ما تنفكُّ تتوالد".
ولله درُّ قاسم الوزير في قوله: "من متع السمع والبصر" كيف اختزَلَ صفحتين في كلمتين؟! فمُتَع السمع هي: دِيباجةُ الشعر، ولغته، وتركيبه، وموسيقاه، ومُتَع البصر هي الصُّوَرُ التي تتجلَّى لعين البصيرة النافذة والذائقة المدرَّبة، ولله -كذلك- دَرُّ مَن وصَف تصويرَه وتعبيرَه بهذين الوصفين فكانا حقًّا وصدقًا.
إنَّ أرقى وصفٍ لحمالِ حسناء بارعة الجمال لا يَرقَى إلى التملِّي من النظَر إليها، وكذلك الثَّناء على الشِّعر الجميل لا يعدو أنْ يكون حاجزًا بينك وبينه، فلنتأمَّل بعضَ صور شاعرنا المبدع تأمُّلًا تسمحُ به ثواني القِراءة المستأنية، ولا تُوفِّيه حقَّه إلى إدامة النظَرِ مَثنى وثُلاث ورُباع:
أَفْدِي العُيُونَ الَّتِي يَلْهُو بِهَا السَّهَرُ *** وَيَغْتَلِي الشَّوْقُ فِيهَا، يَطْفَحُ الضَّجَرُ
تَحَجَّرَ الدَّمْعُ فِي آمَاقِهَا فَرَقًا *** مِنْ أَنْ يَبُوحَ بِمَا فِي صَدْرِهَا النَّظَرُ
يَا لُؤْلُؤَ الحُسْنِ دَفْقُ الضَّوْءِ رَنَّقَهُ *** قَبْلَ المَغِيبِ انْسِكَابُ اللَّوْنِ فِي الشَّفَقِ
وَيَا نَضَارَةَ زَهْرٍ مَاجَ فِي مَرَحٍ *** وَعَوْدَةَ الرَّفَّةِ الجَذْلَى إِلَى الحِدَقِ
نَلُمُّ كُلَّ لَذَاذَاتِ الحَيَاةِ عَلَى *** شِفَاهِنَا، تَلْتَقِي شَوْقًا وَتَعْتَذِرُ
يُحَاصِرُ الشَّوْقُ رُوْحَيْنَا فَيَمْزُجُهَا *** حَتَّى لَيَتَّحِدُ المَنْظُورُ وَالنَّظَرُ
إِذَا مَا التَقَيْنَا صَارَ لِلصَّمْتِ ضَجَّةٌ *** تَصِيحُ لِهَمْسِ الهُدْبِ قَدْ عَانَقَ الهُدْبَا
يَشِبُّ هَوَاهَا وَالجَوَى فِي مَفَاصِلِي *** لَقَدْ زَرَعَتْ فِي كُلِّ عُضْوٍ لَهَا قَلْبَا!
إنَّ شعرَ الدكتور راشد المبارك غنيٌّ بالصُّور، وهي صُوَرٌ مُتفرِّدة مرسومة بريشةٍ خاصَّة وأصباغٍ خاصَّة؛ فهو حين يرسمُ قصائدَه يغمسُ ريشتَه بالمداد والعِطر، وبسلافٍ من العواطف والعواصف، وربما يمزجُها ببعضِ الدم فيخرج ذلك اللون العنيد، (كما يقول الأخ الشاعر عصام الغزالي في قصيدته: النزف على الأزرق):
سَأَغْمِسُ رِيشَتِي بِدَمٍ وَلَوْنٍ *** فَيَخْرُجُ مِنْهُمَا اللَّوْنُ العَنِيدُ
هذه لمحةٌ مُوجَزة عن بَراعة التَّصوير أُتبِعُها بأخرى عن براعة التعبير:
يعلمُ كلُّ مَن عرَف الدكتور راشد المبارك إعجابَه بالشاعرين الكبيرين بدوي الجبل، وسليمان العيسى، وبمدرسة الرحابنة، وصوت فيروز، وطبيعة لبنان، إعجابًا خاصًّا مضافًا إلى إعجابه بكلِّ شعرٍ جميل وأدبٍ وسيم يحفظُه، ويتملاه، وينشده... وليس بمستغربٍ أنْ تظهر ملامح ذلك الإعجاب في شِعره، فإذا أردت أنْ تضعَ شاعرنا في إحدى قائمتين اثنتين أولاهما تضمُّ: المتنبي، وأبا تمام، والبارودي مثلًا، والأخرى تضمُّ: سليمان العيسى، وبدوي الجبل، والأخطل الصغير... فأنت -لا شكَّ- ستضعُه في القائمة الثانية لأسبابٍ يَكفِينا منها في هذا المقام: سلاسة التعبير، وأناقة الألفاظ، وعُذوبة اللغة.
استَمِعْ إليه مخاطبًا الشاعر المهجري الراحل زكي قنصل، وتمتَّعْ بعُذوبة اللغة، وانسِياب اللحن، وحلاوة القافية:
تَبَرَّجَ الرَّوْضُ وَافْتَرَّتْ مَرَاشِفُهُ *** عَنْ قُبْلَةٍ عَتَّقَتْ فِيهَا حُمَيَّاهُ
مَا قِيمَةُ النَّغَمَاتِ البِيضِ تُطْلِقُهَا *** قَيْثَارَةُ الوَجْدِ أَضْنَاهُ وَأَشْجَاهُ
إِنْ لَمْ يَصُغْهَا بَيَانُ الشِّعْرِ قَافِيَةً *** بِهَا مِنَ الأَلَقِ القُدْسِيِّ أَسْنَاهُ
ثم اقرأ بدوي الجبل:
لَيْتَ الَّذِين وَهَبْنَاهُمْ سَرَائِرَنَا *** فِي زَحْمَةِ الخَطْبِ أَغْلَوْا مَا وَهَبْنَاهُ
وَلا وَفَاءٌ لِقَلْبٍ حِينَ نُؤْثِرُهُ *** حَتَّى تَكُونَ رَزَايَانَا رَزَايَاهُ
قَدْ هَانَ حَتَّى سَمَتْ عَنْهُ ضَغِينَتُنَا *** فَمَا حَقَدْنَا عَلَيْهِ، بَلْ رَحِمْنَاهُ
واقرأ راشد المبارك:
مُوجِعٌ أَنْ يُعَالِجَ الجُرْحَ جُرْحٌ *** وَغَلِيلٌ يُطْفِي لَظَاكَ غَلِيلُ
جُرْحُ قَلْبِي القَدِيمُ مَا زَالَ مُخْضَرْ *** رًا بِأَوْجَاعِهِ الَّتِي لا تَزُولُ
فِي الثَّرَى مِنْ حَشَاشَةِ القَلْبِ أَمْشَا *** جٌ وَفِي القَلْبِ دَهْرُ حُزْنٍ طَوِيلُ
ثم اقرأ بدوي الجبل:
لا تَسَلْهَا فَلَنْ تُجِيبَ الطُّلُولُ *** الْمَغَاوِيرُ مُثْخَنٌ أَوْ قَتِيلُ
مُوحِشَاتٌ يَطُوفُ فِي صَمْتِهَا الدَّهْ *** رُ فَلِلدَّهْرِ وَحْشَةٌ وَذُهُولُ
غَابَ عِنْدَ الثَّرَى أَحِبَّاءُ قَلْبِي *** فَالثَّرَى وَحْدَهُ الحَبِيبُ الخَلِيلُ
وَسَقَوْنِي عَلَى الفِرَاقِ دُمُوعِي *** كَيْفَ يُرْوَى مِنَ الجَحِيمِ الغَلِيلُ؟!
وبعدُ، فهذه ثلاث "قبسات" من أدب الدكتور راشد المبارك، ليست دراسةً له، ولا محاولةً لتحليلِه والإحاطةِ بخصائصِه، إنَّها مجرَّدُ قبسات تُقرَأ.
ولسائلٍ أنْ يسأَلَ: أين تضعُ الدكتور راشد المبارك بين الشُّعَراء؟
وأقول: الجواب موجودٌ في آخِر الجزء الثاني من الديوان الذي يضمُّ ثلاث رسائل شعريَّة من أبي بسام إلى الشاعر العملاق سليمان العيسى، وجوابين من أبي معنٍ عليها، اقرأ الرسالة والردَّ وتساءل معي: أليس الشاعران في هذه القبسات فرسَيْ رهان؟
قال أحدهما:
يَا بْنَ الصَّهِيلِ المُسْتَرِيحِ عَلَى الشَّذَا *** زَمَنِي بِدَارِكَ جَنَّةٌ وَعَبِيرُ
قَطَّرْتُمُ أَغْلَى الرَّحِيقِ شَمَائِلًا *** وَشَرِبْتَ حَتَّى اخْضَوْضَرَ التَّعْبِيرُ
وقال الآخَرُ:
خَمْرَةٌ تِلْكَ الَّتِي رَقْرَقْتُهَا *** أَمْ سَنًا رَقَّ هَوًى فَانْبَثَقَا
كُلَّمَا حَدَّقْتَ فِي لأْلائِهَا *** خَطَفَتْ عَيْنِي وَصَارَتْ حِدَقَا
إنْ لم تعرف مَن قال ماذا، وقلت: نعم، هما فرَسَا رهان، فقد أجبتُك عمَّا تريد.
المصدر: مجلة الأدب الإسلامي - العدد [73] - ص: [58-63].
أحمد البراء الأميري
دكتوراة في الدراسات الإسلامية من جامعة الإمام محمد بن سعود.
- التصنيف:
- المصدر: