آيةٌ.. تَرُجُّ كيانَه طولَ الليل!

منذ 2015-04-28

إذا مررتم بآيات الجنة، فسلوا الله نُزُلًا في فِرْدَوسِهِ الأعلى.. حيث السقفُ عرشُ الرحمنِ، والصحبةُ نبيون وصديقون وشهداء وحملةُ القرآن.. والنعيم مقيم.. والمِزاجُ تسنيم.. والحقد منزوع من الصدور.. فلا غِلٌّ هناك ولا غولٌ ولا تأثيم..

هل تعرفون من هو؟
إنه أحدُ رهبان الليل الذين تُطِلُّ علينا سيرتهم الندية من القرون الأولى.. قام الليلَ بآيةٍ واحدةٍ تَرُجُّ كيانه.. آيةُ {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الملك من الآية:27].

أُزِيدُكُم منهم فارسًا آخرَ ممّن خَلَوا بالرحمنِ ليلًا فألبسهم نورَه؟
إنه أحدهم الآخر ممن قام خمسَ ليالٍ متواليةً بآية واحدة لا يَملّ من ترديدها ولا يقضي منها نَهْمَتَه!
وكيف يشبع وهي تسكُبُ في أركانِ روحِه كلَّ يومٍ معنىً جديدًا.. وتحقن قلبه بحياةٍ جديدة وعَبَراتٍ تستنبِتُ نبتة الحياة من جديد في المَوات..!

وهذا أحدهم تستمع الملائكة لتلاوته.. وذاك قد أُغشيَ عليه من آيات العذاب..!
ما هذا الحال مع القرآن في القيام!

تُرى هؤلاء لو كانوا معنا في زماننا الحالي، كيف كانوا لَيُسْدُون إلينا النُّصحَ لنتعلم كيف نصلُ إلى ما وصلوا إليه؟
لعل في كلماتي التالية بعض الإجابة لعلنا نقتفي أثرهم.. فأغلب الظن أنها تعكس ومضات من حالهم في القيام اقتداءً بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.. فتَتَبَّعوا قَصَصِهم وعِبَرِهم في تاريخ السلف.. فهم ينهلون من معينٍ نبويٍّ لا ينطفئُ نورَه.. فهكذا قيامُ النبيِّ..

ألا نزاحمُهم على رسولِ الله ليعلمَ صلى الله عليه وسلم أنّا على أثرهِ ما بَدَّلْنا ولا فَرَّطْنا؟

{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا}؟ [الحديد من الآية:16].
فلنجتهد في صلاة القيام والتهجد..
ولنحرص على استحضارِ القلبِ بين طَيّات السَّوَر..
واستجلابِ التدبّر بين ثنايا كلام الله..

فلا تنسوا..
إذا مررتم بآيات الجنة، أن تسألوا الله نُزُلًا في فِرْدَوسِهِ الأعلى..
حيث السقفُ عرشُ الرحمنِ، والصحبةُ نبيون وصديقون وشهداء وحملةُ القرآن.. والنعيم مقيم.. والمِزاجُ تسنيم.. والحقد منزوع من الصدور.. فلا غِلٌّ هناك ولا غولٌ ولا تأثيم..

وسَلُوا الله ظِلالهَا التى يسير الراكب فيها مئاتِ الأعوام.. وأنهارَها المتدفقة.. وعسلَها المصفى.. ولؤلؤَها.. وحريرَها.. ومتَّكَأَتها الوثيرة.. وجَنَى طَعامٍ دانٍ لا مقطوعٍ ولا ممنوعٍ.. وخمرَها مكتملَ اللذةِ منعدم اللَّذْع.. ورحيقَها المختومَ بمسكٍ.. وقطوفها الدانية في غرفٍ عالية..

وَاغْتَرِفِوا من نعيمِ جنةٍ تَزْدَانُ لطلَّابِها بِشَتَّى صنوف اللذة والنعيمِ..
وَانْهَلوا من فضلِ ربٍّ كريمٍ لا تنفدُ خزائن جُودِه ولا تَخْلَقُ كنوزُ نعيمِه..
وإذا مررتم بآيات العذاب.. وغَلْيِ الحَميمِ وسَواءِ الجَحيمِ.. ولَظَى نَزَّاعَةً للشَّوَى تدعو من فُتِنَ بهواه فَاتَّخَذَهُ إِلَهًا..

تذكَّروا كيف أنَّا لا نَقْوَى على حَرِّ دُنيا أَلَمُ لسْعِهَا جزءٌ من سبعين مِن لَسْعِ جهنمِ، فما أصبرَ قومٍ على نارِ بُرِّزَتْ لهم.. تَذَكَّروا ذلك وتعوَّذُوا بالحفيظ المغيث من دَرَكِ الشقاءِ كلِّه، ومن جحيمٍ تميَّزُ من الغيظ، ومن سَقَر شديدةِ الحرِّ لا تَذَر، ومن حُطَمَةٍ تَهْشِمُ وتَكْسِرُ فلا تُبقِي من أثَر، ومن هاويةٍ يَهوِي فيها من شَقَتْ رُوحُه حتى يَقِرَّ في أسفلَ سافلين، ومن ثيابٍ من نارٍ تنضِجُ منه الجلودُ، وماءٍ يغلي في البطون ويَجِزُّ الأمعاء..
واستجيروا من ذلك كله بربٍ رحيمٍ، وتبتلوا إليه تبتيلًا..

وإذا مررتم بآيات التسبيح والثناء، فعظموا قيومَ السماوات.. حَسَنَ التجاوز..
واسعَ المغفرة شديدَ العقاب.. ذا الطولِ.. مخرجَ الحيّ من الميت.. ذا اللطائف والمنة والكمال والجبروت.. مُنتَهَى كلِّ بثٍّ مكلومٍ وبَوْحٍ مختنقٍ.. من يجيرُ ولا يجارُ عليه.. من يُدرِكُ الأبصار ولا تُدرِكُه.. رب العالمين..

وأثنُوا عليه كما أثنَى هو على نفسه، إذ كيف بالله نُحصِي نحنُ ثناءً عليه!
وإذا مررتم بآياتِ العصاةِ والمسرفين، بل والمجرمين، فسلُوا التوابَ الحليمَ أن ينتشلَنا من بينهم بتوبةٍ تائبةٍ من توبِها الماكرِ.. توبةٍ مخبتةٍ.. آمرةٍ ناهيةٍ..

وألِحُّوا على المَلِكِ أن يتوبَ علينا لنتوب.. وابكُوا على الخطيئة.. وكونوا من الأواهين كأبيكم إبراهيم..
وإذا مررتم بخواتيم سورة آل عمران فتدبروا الآيات بقلب حيّ، فقد قال النبي صلى الله عليهم وسلم عن آياتٍ منها وهو يبكي ليلةَ أُنزِلَتْ عليه: قرأها ولم يتدبرها.. (**)

وإذا مررتم بآياتِ الصالحين المخلصين المتقين، فَسَلُوا الله أن تُحشَرُوا معهم بحبِّكُم لهم، وإن لم تكونوا منهم.. أو سَلُوا اللهَ أن يرزقَكُم حبَّهم إن كنتم من ذوي القلوبِ المحرومةِ من أوثقِ عُرَى الإيمان، فالأخلاءُ يومئذٍ أعداءٌ إلا المتقين..

وإذا مررتم بآيات الموتِ ويوم الفزعِ الأكبرِ، وطي السماء كطَيّ السجلِّ للكتابِ، وقرعِ الآذانِ بالراجفةِ تتبعُها الرادفةُ، وتطايرِ الصحفِ وإفشاءِ السوءاتِ والفضائح، وإقامةِ الميزان بمثقالِ الذرِّ، فسلوا الأحدَ الصمدَ جِوارًا وملجأً.. فلا ملجأ منه إلا إليه.. ولا عاصم إلا الله.. وتوسلوا إليه أن يَسْتَنْبِتَ لكم في صدوركم قلوبًا حيَّةَ من جديد، تفرُّ إليه بصدقٍ من يومٍ عبوسٍ قمطرير.. قبلَ غرغرةِ سكراتِ لا تُمْهِلُ، وضمةِ قبرٍ لا ترحمُ، وسؤالِ ملكين لا يلتفتان عنكَ، ونفخةِ صورٍ صاعقة..

وإذا مررتم بآيات مصارع الظالمين المفسدين، الجبارين المتكبرين المنازعينَ اللهَ في مُلْكِهِ، وحين تَقْرَؤُونَ أخذَ عزيزٍ مقتدرٍ لا يُفْلِتُ، فتذكروا كلَّ من جاوزَ المَدى، وظنَّ أن لن يقدرَ عليه أحدٌ وأنْ لمْ يرَهُ أحدٌ، وأنْ لن يوثَقَ وَثَاقثهَ إلى الأبد، وادعوا عليه -إن لمْ يَرْعَوِي- بعذابِ من لا يعذبُ عذابَه أحدٌ..

وإذا مررتم بآيات مَعبَرِ المسلمين الأخير إلى الجَنَّةِ، فضعوه بين أعينكم.. وتخيلوا:
صراطٌ كحد السيف نُصِبَ على مَتْنِ جهنم، يمر عليه كلُّ منا معشر المسلمين، صالحُهم وعاصيهم ومنافقُهم، جِسْرٌ على جنباته حسك وخطاطيف، تخدش الأقدامَ لغيبةٍ أو نميمةٍ أو نظرةٍ حرام ربما.. وتخطفُ من شاءَ الملكُ القهارُ له الفتنةَ والشقاءَ في قعرِ السعيرِ..

صراطٌ ظلماتُه بعضُها فوق بعضٍ، لا يَكَادُ يرى أحدُنا طريقَه فيها إلا بقدر ما أُوتِيَ من نورٍ، وكل يؤتى النورَ بقدرِ عملِه، ومن لمْ يجعلِ اللهُ له نورًا فمَا له من نورٍ..

تذكروا ثم سلوا الله نورًا كالجبال يملأ مد البصر إذْ نَمُرّ، وتعوذوا به عز وجل من نورٍ على الإبهام، يضيئُ تارةً فنمشي مشفقين، ثم ينطفئُ تارةً فنقِفُ برهةً شاخصة أبصارُنا منخلعةً أفئدتنا من هول العتمة..

فبيْنَ ساقِطٍ في الجحيمِ قد أَسْرَفَ وأعرَضَ فكان مع الساقطين، ولا تكتفي من أشباهِهِ جهنمُ فتقولُ هل من مزيد..

وبين ناجٍ مخدوشٍ بلفحِها وحسكِها..
وبين ناجٍ مُسَلَّمٍ من كُلِّ سوءٍ، يعبرُ فيجدُ الرسولَ في استقباله على بابِ دارِ السلامِ جنةِ ربِّ العالمين..
فتخيلوا.. وتذكروا "إِنْ مِنكُمْ إلَّا وَاردُها" -أي مارٌ فوقَها على هذا الصراط، وسلوا الله العبورَ كالريح.. بل كالبرق.. بل كطرفةِ العين..

وإذا مررتم بآيات النبي الرحمة المهداة..
طبِّ قلوبِنا، وحُبِّ عيونِنا، ومِسْكِ أيامِنا، وتِبْرِ عتْمَتِنا، وأسمى أسوةٍ نَصِلُ بها إلى بارِينَا، فصلُّوا عليه وسَلِّموا تسليمًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(**) الآيات: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ. رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ. رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:190-194]

الحديث: قام -أي رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- ليلةً من الليالي فقال: «يا عائشةُ ذَريني أتعبَّدُ لربي» قالت: قلتُ: واللهِ إني لَأُحبُّ قُربَك وأحبُّ أن يُسرَّك، قالت: «فقام فتطهَّر ثم قام يصلي فلم يزلْ يبكي حتى بلَّ حِجرَه ثم بكى فلم يزلْ يبكي حتى بلَّ الأرضَ» وجاء بلالٌ يُؤذِنه بالصلاةِ فلما رآه يبكي قال: يا رسولَ اللهِ تبكي وقد غفر اللهُ لك ما تقدَّم من ذنبِك وما تأخَّر قال: «أفلا أكونُ عبدًا شكورًا؟ لقد نزلتْ عليَّ الليلةَ آياتٌ ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكَّرْ فيها {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}» الآية.. (الألباني السلسلة الصحيحة). 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

أسماء محمد لبيب

كاتبة مصرية