همة تاء التأنيث!
حين تكون نون النسوة نونًا فاعلة غير مفعول بها، فإن الحياة تكون مثمرة بعيدة عن العبث، فتُقبل مع الجنس اللطيف كل اللطائف الكونية، وترتقي واو الجماعة بتفكيرها العبثي في هذا الكائن، بل تقف له بشموخ وتنحي له بإكبار، مقرّة بتفوقه وبراعته، قابلة للتعلم على يديه دون الشعور بأدنى حرج.
كثيرًا ما اقترن ذكر النساء بالبراعة في فنون الطبخ والمهارة في تدبير شؤون المنزل، حتى غدا ذلك درسَ الحياة الأول الذي على كل فتاة أن تتقنه لتكون جديرة بلقب (الزوجة) أو (ربّة البيت) فتراها منذ صباها، في لهوها ومرحها تغازل الدمية وتُهدهدها كطفلها الرضيع، تتمرّس على فنّ الأمومة في اعتقاد قاصرٍ أنها لا تتعدى حدود الأعمال اليدوية.
فتألف الفتاة الدُّمى بدل أن تألف الكتب، وتصاحب فنون الطهي عوض مصاحبة فنون العلم والأدب، فلا تعجب إن وجدت كثيرًا من أمهات عصرنا (فارغات رؤوسهن شوامخ)، همهن مطعم وملبس ومأوى، يأنفن من العلم أو يعتبرنه مجرد مطيةٍ لمناصب وألقاب.
بيْد أنّ النساء لسْن سواء وما كلهن على سجّية واحدة، فعلَى مرّ التاريخ الإسلامي كانت هناك شموسٌ مشرقة خرقت هذا القانون، وأنارت بعلمها وفقهها دروب الحياة فكانت نبراسًا يُحتذى به.
وكم تأسرني سيرتهن، وأعشق السياحة في بحور علمهن أتفيأ تلك الظلال الورافة التي استظل بظلها الرجال والنساء معًا، هؤلاء من أعتبرهن نساء يفخر التاريخ بهن، لأنهن رفضن الخضوع والانصياع للجهل والغطرسة الذكورية، وسعين بكل جرأة لطلب العلم متلفعات بالحياء مستمسكات بعروة ربهن الوثقى.
وما يثير الانتباه في بعض سيرهن، أن نبوغهن كان بتحفيز من آبائهن وذويهن، عكس ما شاع في عصور الانحطاط من منع النساء من ولوج بوابة التعليم، فكانت النتيجة أجيال كسيحة عاجزة عن تدبير شأنها الخاص فأحرى تدبير شأن أمتها.
وإليكم ذكر السيدة الفاضلة فاطمة ابنة الحافظ القاسم البِرزالي، التي رغم حداثة سنها ووفاتها في سن مبكرة (24 عامًا)، إلا أنها نهلت من العلم الشيء الكثير، وأعطت مثالًا راقيًا في علو الهمّة عن تاء التأنيث، فقد ذكر صاحب كتاب (المشوق إلى القراءة وطلب العلم) أن فاطمة أسمعها أبوها من مائة وخمسة وثمانين شيخًا، ونقل ابن الجزري عن والدها أنه قال: "سمعت صحيح البخاري على ستّ الوزراء بنت المنجّا، وحفظت من الكتاب العزيز، وتعلمت الخطّ وكتبتْ رَبعة ظريفة، ونسخت كتاب الأحكام لابن تيمية (الجد)، وصحيح البخاري، وكمّلته قبل موتها بأيام يسيرة، قال الصفدي: ونُسختها هذه بدمشق من النسخ التي يعتمد عليها وينقل منها".
ومن بديع السير المثيرة للفخر والإعجاب سيرة العالمة الفاضلة الشيخة الصالحة أم زينب فاطمة بنت عيّاش بن أبي الفتح بن محمد البغدادية (714 هـ)، فقد قال عنها الحافظ ابن حجر في (الدررالكامنة): "فاطمة بنت عيَّاش بن أبي الفتْح البغدادية أم زَيْنَب الواعظة، كانت تدْري الفقه جيدًاَ، وكان ابن تيمية يثني عليها ويتعجب من حرصها وذكائها، وانتفع بها نساء أهل دمشق لصدقها في وعظها وقناعتها، ثم تحولت إلى القاهرة فحصل بها النّفْع وارتفع قدرها، وبَعُدَ صيتها وكانت قد تفقهت عند المقادسة بالشيخ ابن أبي عمر وغيره، وقل من أنجب من النساء مثلها، ماتت ليلة عرفة سنة (714 هـ)".
كما أثنى عليها ابن كثير رحمه الله في (البداية والنهاية) حيث قال: "كانت من العالمات، الفاضلات، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقوم على الأحمدية في مؤاخاتهم النساء والمردان، وتنكر أحوالهم وأحوال أهل البدع وغيرهم، وتفعل من ذلك ما لا يقدر عليه الرجال، وقد كانت تحضر مجلس الشيخ تقي الدين ابن تيمية فاستفادت منه، وقد سمعتُ الشيخ تقي الدين يثني عليها ويصفها بالفضيلة والعلم، ويذكر أنها كانت تستحضر كثيرًا من المغني أو أكثره، وأنه كان يستعد لها من كثرة مسائلها وحسن سؤالاتها وسرعة فهمها".
وفي كتاب (الأعلام) (الجزء الثاني: 264) تحدث الزركلي عن حفصة بنت الحاجّ الركونية الأندلسية، وذكر أنها كانت شاعرة، انفردت في عصرها بالتفوق في الأدب والظرف والحسن وسرعة الخاطر بالشعر، وهي من أهل غرناطة، نعتها ابن بشكوال بأستاذة وقتها، وكانت تعلم النساء في دار المنصور".
وقياسًا على هذه النماذج الراقية، فاح في سلف الأمة أريج نساء عالمات وفقيهات ومحدثات، تتلمذ على أيديهن مشايخ وعلماء ذاع صيتهم، كابن عساكر الذي قيل أنه حمل الحديث عن أكثر من مئتي محدثة، والإمام أحمد بن حنبل كانت له أربعة من الشيخات أخذ عنهن، بل منهن من كانت همتها في التحصيل العلمي عالية حتى رمقها الأخير، كزينب بنت يحيى بن الشيخ عز الدين بن عبد السلام السلمِيّ التي قال عنها الإمام الذهبي: "كان فيها خير وعبادة وحب للرواية بحيث أنه قرئ عليها يوم موتها عدة أجزاء".
وتطيب الذكرى مع المفكرة والأديبة الباحثة العالمة عائشة عبد الرحمن المعروفة ببنت الشاطئ، والتي كانت أول امرأة تحاضر بالأزهر، ومن أوائل من عملن بالصحافة في مصر، بدأ نشاطها الفكري في سن مبكرة (18 سنة) وكان ذلك بمجلة النهضة النسائية، وبعدها بجريدة الأهرام كثاني أديبة بعد مي زيادة، وكان لها مقال أسبوعي مطول.
تدرجت في المناصب الأكاديمية إلى أن أصبحت أستاذًا للتفسير والدراسات العليا بكلية الشريعة بجامعة القرويين بالمغرب، فساهمت في تخريج أجيال من العلماء والمفكرين من تسع دول عربية قامت بالتدريس بها، وكانت لها مواقف فكرية بارزة وحاسمة؛ أبرزها مناهضتها للتفسير العصري للقرآن الكريم دفاعًا عن التراث، و كذا مناهصتها للبهائية، ودعمها لتعليم المرأة وضرورة احترام إنسانيتها وفكرها، وقد خلفت إرثًا علميًا وأدبيًا مهمًا، قارب الأربعين كتابًا في الدراسات الفقهية والإسلامية والأدبية والتاريخية.
وهاؤم نموذجًا آخر لسيدة كريمة اعتُبرت أحد دعامات العمل الإسلامي النسائي بالوطن العربي وهي زينب الغزالي، فسيرتها العطرة تسر خاطر كل أنثى لبيبة، جمعت بين التحصيل العلمي، والعمل النضالي دون أن تنساق خلف الجمعيات الحقوقية النسائية الحديثة، مزجت في دراستها بين التعليم الأكاديمي الحديث، وبين التعليم التقليدي القائم على الأخذ المباشر من الشيوخ، كانت خطيبة مفوهة تلقت الخطابة والإلقاء عن والدها.
اعتقلت بسبب مواقفها مدة ستة أشهر، شهدت فيها ألوانًا من الاضطهاد سجلتها في كتابها (أيام من حياتي)، كانت تتوق لتأليف أول تفسير نسائي للقرآن الكريم، فكان لها ذلك، فظهر مجلدها الأول الذي لقي صدى طيبًا وإقبالًا حسنًا، وكتبت عنه الكثير من الصحف والمجلات.
ولشغفها بالعلم فقد كانت مكتبتها كما قيل من أضخم المكتبات التي يحتويها بيت عالم وفقيه، فحوت كتبًا في التفسير والفقه وعلوم الحديث إلى جانب الكتب الدعوية والحركية، بل ذكر أن بها كتبًا يزيد عمرها على المائة سنة.
ولأن الأدب يليّن الطباع ويفرس في المرء كل قيم الجمال، فقد كانت السيدة زينب الغزالي حريصة بحسها الأنثوي الأدبي على حضور الجمال في محيطها وبيتها، كما يذكر ذلك سكرتيرها بدر محمد بدر: "الحاجة زينب الغزالي كانت تحرص على الجمال في بيتها، فتجد الورود والعطور والمكان الذي يريح النفس، فكانت تعتبر أن الداعية يجب أن يكون جميلًا وما حوله يساعده على أداء هذا الدور، وبالتالي كان الصحفيون والصحفيات الغربيون الذين كانوا يذهبون إليها يدهشون من جمال بيتها وجمال الفرش الموجود مع البساطة الواضحة فيه".
حين تكون نون النسوة نونًا فاعلة غير مفعول بها، فإن الحياة تكون مثمرة بعيدة عن العبث، فتُقبل مع الجنس اللطيف كل اللطائف الكونية، وترتقي واو الجماعة بتفكيرها العبثي في هذا الكائن، بل تقف له بشموخ وتنحي له بإكبار، مقرّة بتفوقه وبراعته، قابلة للتعلم على يديه دون الشعور بأدنى حرج.
هكذا نريد نون النسوة اليوم، بعيدات عن سفاسف الأمور، مقبلات على التحصيل العلمي الجاد الذي يرقى بعقولهن وأخلاقهن وطموحاتهن، صحيح أن الإحصائيات اليوم تؤكد أن الإناث يتفوقن على الذكور في كثير من المستويات التعليمية، بما فيها مجالات كانت حكرًا على الذكور، لكن للأسف طموح كثير من النساء يبلغ منتهاه بمجرد الظفر بتلك الشهادة الجامعية، أو الالتحاق بمؤسسة الزواج، فتقع القطيعة الذميمة بينها وبين التحصيل العلمي، ويغدو العلم مجرد ذكرى جميلة، أو همّا طويت صفحته.
لطيفة أسير
باحثة إسلامية مغربية
- التصنيف: