يا للذلَّة بعد العزَّة، ما أقساها!
ما أحوج من عزَّ شأنه بين الناس وعلا قدره بينهم إلى الرحمة والعطف بعد أن يفقد مكانه ويذوي سلطانه وتذهب هيبته!
ارحموا عزيز قومٍ ذلَّ!
ما أحوج من عزَّ شأنه بين الناس وعلا قدره بينهم إلى الرحمة والعطف بعد أن يفقد مكانه ويذوي سلطانه وتذهب هيبته!
وبالمثال يتَّضح المقال؛ ففي سنة أربع وثمانين وأربعمائة استولى يوسف بن تاشفين أمير المسلمين على الأندلس وقبض على المعتمد بن عباد وهو من أكبر ملوك الطوائف بالأندلس وأخذ كل شيء يملكه، وترك أولاده فقراء، وحبسه بسجن أغمات، ودخل عليه يوم العيد بناته في السجن وهو مقيَّد بالأغلال ومُكبَّل بالسلاسل، وكُنَّ يغزلن للناس بالأجرة، حتى إن إحداهن غزلت لبنت صاحب الشرطة الذي كان في خدمة أبيها وهو في سلطانه فرآهن في أطمار رثة، وثياب بالية، وحالة سيئة، فصدَّعن قلبه وأحرقن فؤاده، فأنشد يقول:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورًا *** فساءك العيد في أغمات مأسورًا
ترى بناتك في الأطمار جايعة *** يغزلن للناس ما يملكن قطميرًا
برزن نحوك للتسليم خاشعة *** أبصارهن حسيرات مكاسيرًا
يطأن في الطين والأقدام حافية *** كأنها لم تطأ مسكًا وكافورًا
قد كان دهرك أن تأمره ممتثلاً *** فردك الدهر منهيًّا ومأمورًا
من يأت بعدك في ملك يُسَرُّ به *** فإنما بات بالأحلام مغرورًا!
ودخل عليه وهو في تلك الحال ولده أبو هاشم والقيود قد عضَّت بساقيه عضَّ الأسود، والتوت عليه التواء الحيَّات السُّود، وهو لا يريق دمعًا إلا ممتزجًا بدم بعد أن عهد نفسه فوق منبر وسرير، وفي وسط جنة وحرير، تخفق عليه الألوية، وتوضع له الشارات، فلما رآه بكى، وقال:
قيدي أما تعلَمُني مُسلمًا *** أبيتَ أن تشفق أو ترحمًا
دمي شراب لك واللحم قد *** أكلته لا تهشم الأعظمًا
يُبصرنى فيك (أبو هاشم) *** فينثني والقلب قد هُشِّمًا
ارحم طفيلاً طايشًا لُبّه *** لم يخش أن يأتيك مسترحمًا
وارحم أُخيَّات له مثله *** جرَّعتَهن السم والعلقمًا
منهن من يفهم شيئًا فقد *** خفنا عليه للبكاء العمى
والغير لا يفهم شيئًا فما *** يفتح إلا لرضاعٍ فمًا
وعندما رأى طائر قمرية بائحة بشجنها، نائحة بفننها على سكنها، وأمامها وكرٌ فيه طائران يرددان نغمًا، ويغردان ترنمًا، فتذكَّر ابنيه وأحبابه من أهله، فهيَّجت حُزنه، وأثارت ألمه، فقال لها يُناجيها:
بكت أن رأت إلفين ضمهما وكر *** مساء وقد أخنى على إلفها الدهر
وناحت فباحت واستراحت بسرها *** وما نطقت حرفًا يبوح به سر
فما لي لا أبكي أم القلب صخرة *** وكم صخرة في الأرض يجري بها نهر
بكت واحدًا لم يشجها غير فقده *** وأبكي لآلاف عديدهم كثر
بُنيٌّ صغيرٌ أو خليلٌ موافق *** يمزق ذا قفر ويغرق ذا بحر
ونجمان زَيْنٌ للزمان احتواهما *** بقرطبة النكداء أو رندة القبر
غدرت إذن إن ضن جفني بقطرة *** وإن لومت نفسي فصاحبها الصبر
فقل للنجوم الزهر تبكيهما معي *** لمثلهما فلتحزن الأنجم الزهر
ومر عليه وهو في سجن أغمات في موضع اعتقاله سرب من طيور القطا، وهى تمرح في الجو وتسرح في البر، فتنكد بما هو فيه من الوثاق، وما دون أحبته من الرقباء والإغلاق، وما يقاسيه من كبله، ويعانيه من وجده، وفكر في بناته وافتقارهن إلى نعيمٍ عهدنه، وحبورٍ شهدنه، ثم سُلبن منه، فقال:
بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي *** سوارح لا سجن يعوق ولا كبل
ولم تك والله المعيذ حسادةً *** ولكن حنينًا أن شكلي لها شكل
فأسرح لا شملي صديع ولا الحشا *** وجيع ولا عيناي يبكيهما ثكل
هنيئًا لها أن لم يفرَّق جميعها *** ولا ذاق منها البعد عن أهلها أهل
وإذ لم تبت مثلي تطير قلوبها *** إذا اهتز باب السجن أو صلصل القفل
وما ذاك مما يعتريه وإنما *** وصفت التي في جبلة الخلق من قبل
لنفسي إلى لقيا الحمام تشوُّف *** سواي يحب العيش في ساقه كبل
ألا عصم الله القطا في فراخها *** فإن فراخي خانها الماء والظلُّ
فعياذًا بالله من الذلَّة بعد العزَّة، والقلَّة بعد الكثرة، والحور بعد الكور!
(ملحوظة: يراجع كتابي: (قرة العين في دموع الوالدين))
عبد اللطيف بن هاجس الغامدي
مدير فرع لجنة العفو واصلاح ذات البين - بجدة .
- التصنيف: