حوار مع الشيخ زكريا أبو مسلم حفظه الله تعالى.
منذ 2008-11-14
ويؤسفني أن أقول أنّنا لم نجنّد كلّ طاقاتنا للتّصدّي للتّنصير، وأغلب مجهوداتنا تظهر كردود أفعال، وليست لنا وتيرة ثابتة في ذلك....
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،يسر مجلة شبكة أنا المسلم أن يكون ضيفها في هذا الحوار أحد كتاب الشبكة المحترمين ذو القلم الهادف الذي يهدف إلى البناء والنصح، وهو فضيلة الشيخ زكريا أبو مسلم حفظه الله تعالى.
وفي بداية اللقاء أتوجه بالشكر لفضيلته لقبول دعوة المجلة لإجراء الحوار معه، ونسأل الله العلي القدير أن يكون لهذا الحوار إفادة للجميع.
1-في البداية نحب أن نتعرف على الشيخ زكريا أبو مسلم، نرجو إلقاء تعريف بسيط لحضرتك؟
الحمد للّه ربّ العالمين وصلّى اللّه وسلّم وبارك على محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، أحبّ أن أشكر الإخوة القائمين على مجلّة أنا المسلم الطّيّبة على استضافتها لي، وما ذلك إلا لحسن ظنّهم بي وأنا -واللّه- أقلّ من ذلك، وأسأل اللّه تعالى أن يبارك في جهودهم ويوّفقهم لما يحبّه ويرضاه.
أمّا التّعريف بنفسي، فإنّي زكريا نور الدّين بلخمزة، حاصل على إجازة في علوم الشّريعة من معهد الإصلاح بالجزائر، وبكالوريوس في الاقتصاد من الجامعة الإسلاميّة العالميّة بكوالالمبور ماليزيا، وبكالوريوس آخر في علوم الإدارة من جامعة ريرفهارد الأستراليّة، وماجستير في التّجارة الإلكترونيّة من جامعة ماليزيا صباح، ومُسجّل حاليَّا في موضوع الدّكتوراه في نفس الجامعة، عملتُ مدرّسًا لمدّة خمس سنوات في المعهد المحمّدي للكتاب والسنّة بكوتابارو بولاية كلانتان، ثمّ بمعهد تانة ميرة بنفس الولاية، وحاليًّا أعمل مدرّسًا بمعهد إيلماكراس العالميّ بولاية صباح، وكذا أعمل باحثًا في كلّية التّجارة والاقتصاد بجامعة ماليزيا صباح، إضافة إلى نشاطاتي الدّعوية، كما أنّني عضو استشاري في الغرفة الإسلامية للتّجارة والصّناعة، وعضو في اللّجنة الاستشاريّة للاتّحاد التّجاري الإسلامي التّايلندي.
2-شيخنا زكريا ما أكثر الأحداث على الساحة العالمية أو الإسلامية التي تستحوذ على تفكيركم؟
ليس هناك شيء يستحوذ على المسلم أكثر من حال أمّته، فما نراه الآن في الأمّة الإسلاميّة وما آل إليه حالها أمر محزن، أمّا مآسي المسلمين فليس بجديد، لكنّ الجديد هو إضافة إلى الضّعف الذي نعيشه هو ما نراه من تفرّق في الصّف الإسلامي، ومحاولات وأد كلّ المساعي التي تلمّ الشّمل وتدعو إلى الوحدة، بعض أصول العمل الإسلامي أصبحت مغيّبة عند الكثير منّا، فاللّه تعالى مثلاً يقول: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [سورة آل عمران: 103]، هذا أصل في كتاب اللّه تعالى، لكنّ هذا الأصل كثيرًا ما يختفي ويتلاشى أمام صيحات بعض المسلمين تحت اعتبارات عديدة، فيضيع ما كان من المفروض أن يكون مكسبًا ومغنمًا، هذا مثال واحد، وإلاّ فالأمثلة كثيرة والواقع جليّ.
وإذا أمكن أن نخلص إلى أسباب ضعف الأمّة الإسلاميّة، فإنّي أجعلها في أمرين:
الأمر الأوّل:
قلّة الاهتمام بأصول الشّريعة ومقاصدها هذا الأمر أراه في نظري القاصر سبب رئيس في ما يحدث في الأمّة الإسلاميّة، لا أعني الاهتمام بأصول الفقه في المجال النّظري حفظ متونه والاهتمام بشرح مسائله ودقائقه والتّأليف في ذلك، فإنّ ذلك ممّا أشبع بحثًا وتدريسًا، إنّما المقصود أن ينعكس ذلك على طرائق تفكيرنا ونظرتنا للأمور ومن ثمّ على واقعنا وتطبيقاتنا، بعض الغربيّين يسمّون أصول الفقه إبستمولوجيا الإسلام، ولا يزال هذا العلم مُبعَدًا عن واقع تطبيقاتنا، وانظر كم من النّاس مثلاً من يهتمّ بكتب المقاصد الشّرعيّة التي هي من أصول الشّريعة، وهذا قد ترك هذا فراغًا كبيرًا في مجال التّطبيق والعمل، وربّما أُخذت بعض الجزئيّات على أنّها من الكّليّات، أو ربّما صارت قواعد أصوليّة يجري التّأصيل عليها، يقول الإمام القرافي رحمه اللّه: "ومن ضبط الفقه بقواعده، استغنى عن حفظ أكثر الجزئيّات لاندراجها في الكليّات!"، وهذا ما وسّع عجزنا في تحويل انتقالنا من عالم الأفكار إلى عالم القرار.
الأمر الثّاني:
انعدام المرجعيّة في الأمّة الإسلاميّة، وهذا أيضًا مقرّر في أصول الشّريعة وهو من الضّروريّات التي تحفظ للأمّة كيانها، لكنّ الكثير منّا لم يفقه ضرورة هذا الأمر، بل وربّما استقرّ في أذهاننا أنّها مرادفة للإمامة عند الأمّة الرّافضيّة، أو البابويّة عند الأمّة الكاثوليكيّة، فصرنا نعمد إلى هدم ورفض كلّ مساعي إنشاء هذه المرجعيّة وعودتها إلى الأمّة الإسلاميّة، وصار هذا مدخلاً إلى ذهاب ريح الأمّة والفشل والوهن، وصار ذلك ذريعة إلى التّطاول على أهل العلم وإسقاط جميع محاولات لـمّ الشّمل والوحدة، بل إنّ البعض منّا مهما كان توجّهه من إذا سمع كلمة وحدة أو اتّحاد أو جمع الشّمل ذهب فكره مباشرة إلى الوحدة مع السّلفيّة أو الأشاعرة، أو الصّوفيّة أو الأزهريّة أو الميزابيّة أو الزّيديّة، لكن لم يفكّر أن تكون كلّيات الوحدة ومفهوم الأمّة أعلى شأنًا أو أعظم شأوًا من هذه المذهبيّات، وأن لا يُفهم من حفظ كيان الأمّة ووحدتها هو الاتّفاق مع كلّ صاحب مذهب أو نحلة.
3-فضيلة الشيخ زكريا ما أكثر ما يصيبك بالضيق حينما تطالع موقع أو منتدى إسلامي؟
المنتديات الإسلاميّة أراها-كما يقول الكثيرون- نموذجًا مصغّرًا، أو عيّنة حقيقيّة للواقع الذي نعيشه، فالجوّ السّائد في المنتديات الإسلاميّة -خصوصًا- هي المجسّدة حقًّا للواقع الذي نعيشه. هذا على المستوى الكلّي الجماعي، أمّا على المستوى الفردي، فالمشكل أكبر من مجرّد إظهار حالة، لأنّ التّحكّم في تصرّفات الأفراد يكاد يستحيل، والأثر كبير قد يؤثّر على مجرى أحداث، فنكون نحن أمام أثر كبير قويّ جارف لا نستطيع أن نتحكّم فيه ولا أن نتتبّع منابعه، وهذا من نتائج العالم الإفتراضي وما جرّه من سلبيّات على واقع المسلمين. وما يحزني فيها هو كثرة الجهل بين الأفراد، أعني الجهل الذي يصحبه السّب والشّتم والفجور في الخصومة، والتّطاول على العلماء، وعدم احترام المخالف، والتّعصّب للآراء والأشخاص، وثقافة الإقصاء، وعدم المصداقيّة في النّشر وعدم التّثبّت. هذه كلّها نضمّها إلى مآسينا واللّه المستعان.
ما يحزنني أكثر هو أنّ كثيرًا من المواقع غير الإسلاميّة استطاعت أن تطوّر نوعًا من الثّقافة بين أعضائها في الاحترام المتبادل والكلام الطّيّب وحسن الرّدود، ولو كان هذا مُصطنَعًا مُتَكلَّفًا بين الأعضاء، وهو ما نراه غائبًا للأسف الشّديد في جلّ المنتديات الإسلاميّة، اللّهم إلاّ ما كان يكتب فيها النّخبة كطلبة العلم والباحثين.
4 -الشيخ زكريا أعرف أن لحضرتك اهتمام بقضية التنصير، هلا بسطت لنا بعض الشيء عن قضية التنصير وخطورتها؟
التّنصير ليس وليد اليوم، وخطورته ليست بالجديدة، إلاّ أنّ وسائل التّنصير والمنصّرين تطوّرت بتطوّر حضاراتهم وعلومهم، ومقاومتنا لها ضعفت بضعفنا، فتوسّعهم في التّنصير كان على حساب انكماش دعوتنا ومحدوديّة وسائلنا. فالمشكلة تكمن أنّنا أمام مهمّتين، مهمّة التّصدّي للتّنصير، ومهمّة الدّعوة إلى اللّه، وهما مهمّتان لا تنفكّان عن بعضهما البعض.
ويؤسفني أن أقول أنّنا لم نجنّد كلّ طاقاتنا للتّصدّي للتّنصير، وأغلب مجهوداتنا تظهر كردود أفعال، وليست لنا وتيرة ثابتة في ذلك.
فالتّنصير كما لا يخفى على أحد لم يعد على نفَس الطّريقة التّقليديّة من نشر الأناجيل وبعث القساوسة والمبشّرين إلى الدّول النّائية وبلدان المسلمين، فقد وصل التنصير -فيما أرى- إلى أوجّ مراحله في تجنيد الوسائل، لا أقول الفضائيّات والمجلاّت والإنترنت والإغراءات الماليّة، بل إنّ التّبشير صار له دول ومؤسّسات كبرى تدعمه، وصار يروَّج له باستعمال أحدث الوسائل العلميّة.
وهناك إشكاليّتان قلّ ما ننتبه لها نحن المسلمين، وهو أنّ النّصارى:
أوّلاً: ليس لهم عوائق سياسيّة، بل إنّ المؤسّسات التّبشيريّة تجد كلّ التّسهيلات المطلوبة وهو ما لا نجده نحن تحت اعتبارات عديدة، فتهمة التّشدّد والإرهاب والتّطرّف قد تنال أي داعية أو مؤسّسة دعويّة.
ثانيًا: أن النّصارى بجميع طوائفهم رغم الاختلافات العقديّة المتجذّرة بيهم، إلاّ أنّه لا تجد بينهم إسقاطًا لأيّ دعوة من دعوات التّنصير فيما بينهم، فكلّهم يدًا واحدًا ضدّ شبح الإسلام القادم، فالكاثوليكيّ إذا رأى بروتيستانيًّا يعمل للدّعوة إلى النّصرانيّة شدّ على يده ونصره، ولم أجد أبدًا نصرانيًّا خذل نصرانيًّا في موقف يستحقّ النّصرة، بل كلّ ما رأيته هو مطلق النّصرة والتّأييد، وهذا ما جعل كلمتهم واحدة، وصاروا في موقف القويّ، والأمثلة في هذا كثيرة.
أمّا نحن فهذه التي لا نحلم بها، حيث صار الإسقاط والتّخذيل هو الأصل في تعاملاتنا تحت أيّ مبرّر، شرعيّ أم غير شرعيّ، فكلّما قام عامل من العاملين لهذا الدّين بعمل صرتَ ترى المسقِطين له أكثر من الشّادّين على يديه، والمخذّلين له أكثر من النّاصرين، فكيف نريد إذًا أن تكون أعمالنا لصدّ التّنصير والدّعوة إلى اللّه ذات فائدة وجدوى؟ كلام التّنظير حول الوحدة والعمل لدين اللّه يملأ أدبيّاتنا، لكنّه مازال لدينا إشكاليّة في التّطبيق، وهذا أراه أهمّ عائق لنجاح دعواتنا لصدّ النّصارى.
5-النصارى الآن يكثرون من شبهاتهم حول القرآن وحول الرسول صلى الله عليه وسلم، والسؤال لحضرتك ما هو السبيل لفضح الشبهات هل هو تفنيدها والرد عليها أم تجاهلها؟
شبهات النّصارى حول القرآن وحول نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم ليست جديدة، والشّبهات التي يطرحونها أكثرها قد فُنّدت ورُدّ عليها في أزمنة سابقة، وعلماؤنا السّابقون قد كفونا، لكنّ المشكلة فينا هو أنّنا لا نقرأ ولا نحسن طرح بضاعتنا لغيرنا، أوّل خطوة في الاتّجاه الصّحيح هو طلب العلم الشّرعيّ من قرآن وسنّة ومبادئ العلوم، فالمتصدّر للردّ على شبهات النّصارى يجب أن يكون هو نفسُه متحصّنًا، أمّا التّجاهل فيجب أن لا يكون، والرّدّ فيجب أن يكون في مستوى الشّبهة حتّى يكون مفحمًا مقحمًا.
6-بعض الشباب يتساءلون هل على الجميع أن يعمل على صد الهجمة الصليبية، وهل على كل الشيوخ أن يقوموا بذلك ،وسؤالي هو هل قام أهل العلم بالحد الكفائي لصد هذه الهجمة؟
الهجمة الصّليبيّة على الإسلام صارت عالميّة، ويجب أن نكون نحنُ على قدر هذه المعركة، الشّيوخ والعلماء وطلاّب العلم جزاهم اللّه خيرًا يبذلون جهودًا ممتازة في هذا الميدان لصدّ الهجمات والدّعوة إلى اللّه، كلّ في ميدانه وكلّ بحسب مقدوره، لكنّ هناك شئ مهمّ وهو هل يُنتفع بهذه الجهود على أكمل وجه لتؤتي أكلها؟، هل يصل الخطاب الدّعوي إلى من قصدناهم بالخطاب؟، هذا عائق مهمّ يجب أن يُدرس دراسة مستفيضة.
مثال بسيط لذلك: وهو أنّنا بعدُ لم نستطع أن نخرج من الخطاب العربي إلى الخطاب العالميّ، لم نستطع بعدُ أن ننشئ خطابًا اسلاميًّا شرعيًّا يخاطب الأمم جميعها بلغات العالم، أو قل بلغة العالم المنتشرة، هذا جانب مهمّ، أعطيك مثلاً عمليًّا، لو أنّ نصرانيًّا كتب كتابًا باللّغة الانجليزيّة وحشاه بالشّبهات والمغالطات والهجوم على الإسلام، لو أنّ عندنا من عندنا في العلم والتّمكّن، لو لم يستطعوا الرّدّ على الكتاب باللّغة التي كُتب بها، ووجّهوه إلى القوم الذين وُجّه لهم كتاب النّصرانيّ لم يكن في جميع جهودهم ثمارًا ذات نفع كبير، اللّهمّ إلاّ بعد زمن طويل، وهذا تقصير ولا شكّ، ولذلك لا زلتُ عاكفًا على مشروع تأصيل التّرجمة الشّرعيّة كعلم شرعيّ يستطيع أن يضع أسس الخطاب الإسلاميّ بما يتلائم مع معطيات العالميّة ، ولو أنّ اللّه وفّقني في هذا المشروع لكان سدًّا لثغرة من ثغرات العمل لهذا الدّين باذن اللّه.
7-السخرية من رسول الإسلام ليست حديثة بل هي قديمة وقد ذكر الأستاذ باسم خفاجي نتفاً من ذلك في كتابه "لماذا يكرهونه" ،هلا ذكرتم لنا استقصاء لهذه الرسومات؟ وما الواجب من شباب الإسلام حيال هذه الاستفزازات؟
الرّسومات التي تسخر من الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم جزء من المنظومة الكلّيّة لأعداء الإسلام، وهي حلقة من سلسلة متتابعة نعيش نحن إحدى حلقاتها، لم يتوانى أعداء اللّه ورسوله من النّصارى من الاستهانة بالإسلام ورسوله على مرّ التّاريخ، حتّى لمّا كانت أوروبا تعيش عصر الإنحطاط والظّلام الدّيني الذي غشيها والصّراعات الكنسية المختلفة، وتذكر بعض المصادر أنّ أوّل صورة مسيئة للرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم كانت ملحقة في أوّل ترجمة لاتينية للقرآن في بداية القرن الثّاني عشر الميلادي لا داعي لوصف الصّورة المشينة، وهي موجودة في متحف أرسنال بباريس، أعاد نشرها حديثًا روبرت لوبيز في كتابه(صحوة أوروبا) والذي طبع سنة 1962 مقتبسًا إياها من ترجمة القرآن المذكورة.
واستهزأ به أيضًا الفنّان جيوفاني دي مودينا في القرن الرّابع عشر في صورة تحتوي على شخص يعذّب في النّار مكتوب عليها محمّد، هذه الصّورة الخبيثة الشّهيرة موجودة حاليًا في كنيسة بولونيا بسان بترونيو بإيطاليا، الجدير بالذّكر أنّه في سنة 2002 حاول أحد الشّباب الأبطال اسمه حمزة اللّيبي اقتحام الكنيسة وحرق هذه الصّورة، لكن قدّر اللّه أن تكتشف الشّرطة الإيطالية أمره وتحبط أمره، ثم اعتقل الأخ بعد ذلك بشهرين حينما فرّ بين هولندا وبريطانيا.
وفي كتاب تصويري اسمه (أخبار نومبورغ) طبع سنة 1493م، توجد صورة لرجل يقف في محاكمة أمام قاض وحاجب حول رأسه ماسكًا سيفًا يوجّهه نحو عنقه، عُلّق على الصّورة بأنّها محاكمة محمّد.
إلى غير ذلك من الصّور المسيئة للرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم.
المسألة الآن هو كيفيّة تعاملنا مع مثل هذه الإساءات؟ هل تبقى تصرّفاتنا ردود أفعال فقط دون أن تتعدّاه؟
المفروض أن تتّجه الرّدود في أقطاب العالم الإسلامي إلى استغلال مثل هذه الأحداث استغلالاً نوعيَّا من حيث إبراز حقائق الإسلام وشخصيّة محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم، وأقصد بالنّوعيّة أن لا تكون في ردودنا بلورة الغضب الجماهيري من دون استفادة متينة منه من إظهار لمكنونات الأمّة الحقيقيّة الرّاكدة، وتطوّر خطابات الرّدود إلى خطابات عميقة تعكس قوّة الفكر الإسلامي، وليست مجرّد بيانات تسوغها الأقلام الصّحفيّة وتحكمها الدّبلوماسيّة والبروتوكولات السّياسيّة، والنّاظر لغياب مثل هذا العمق في تيّار الرّدود عبر العالم الإسلاميّ يدرك الضّعف الذي تعانيه أمّتنا، فالرّادّ مثلاً بقصيدة حماسيّة ضدّ تصريحات البابا حول الإسلام محمود، لكن الأحمد منه أن تكون هذه القصيدة صدرًا لعمل إسلاميّ يؤدّي رسالة إلى الغرب توضّح أنّ تلك الحماسة ليست ناجمةً عن فراغ، وإنّما هي ترجمة لرصيد إسلاميّ متين، فحينما كانت قصائد حسّان تدافع عن رسول اللّه، كانت دعوات جعفر بن أبي طالب وربعيّ بن عامر رضي اللّه عنهم تؤصّل وتمتّن لدعوة محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم بعمق فكريّ متين.
ولا أحد ينكر الآن أنّ المكنون الثّقافي للغرب لا يحتاج إلى خطاب بسيط، وإنّما يحتاج إلى خطاب يماثل مستوى مكنونهم الحضاريّ ليكون في مستوى الإعداد الملائم، نحتاج إلى تطوّر في الخطاب الذي يترجم عن واقع الحضارة الاسلاميّة والمنهج الرّبّاني، لكنّ الذي ألاحظه أنّ التّطوّر الحاصل إنّما هو في الاستعداد الفكري للتّعايش مع "الآخر" في إطار الحوار بين الحضارات!!
هذا الاستعداد الفكري محمود إن توفّر فيه شرط الإدراك لكيفية استعمال الفكر الرّبّاني أوّلاَ، وانعدام تركيبة الضّعف والهزيمة النّفسيّة، فإنّ انعدام هذين الشّرطين يجعل هذا الحوار بين الحضارات استسلامًا بكل معانيه، في حين المفروض أن يكون المترجم عن قمّة العزّة التي يتمتّع بها أصحاب الفكر الرّبّاني!!
8-نخرج قليلاً من جو التنصير... كيف نواجه العلمنة في العالم الإسلامي الخطاب العلماني الآن أصبح في منتهى الوقاحة ولا يستتر، ودعاة الحق أما مغيبون أو لا يستطيعون الكلام والبعض لا تعنيه القضية؟
العلمانيّة واللّيبراليّة نتيجة من نتاج الاستعمار الغربيّ على البلدان الإسلاميّة، وقد زاد من انتشارها ضعف الأمّة الإسلاميّة، وضعف بعض أنظمتنا الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تجعلنا مضطرّين إلى نوع من التّبعيّة نحو الغرب، والذين يقودون هذه المؤامرات من بني جلدتنا ويتكلّمون بلغتنا، ولعلّ ما يجدر التّنويه هنا أنّ العلمانيّة لو شُنّ عليها الحرب وانبرى لها من يفضح زيفها وأفكارها بطريقة شموليّة سننيّة لأمكن القضاء عليها من مجتمعاتنا الإسلاميّة، رغم التّحدّيات الكثيرة التي نواجهها كآثار العولمة ووسائل الإعلام والفضائيّة، ولو سمحتَ لي أن أذكر هنا ملاحظتين من باب تصحيح المسار وترشيده والتّناصح على البرّ والتّقوى؟
تفضل يا شيخ بارك الله فيك:-
أوّلها أنّ جهود العاملين في فضح العلمانيّة - وهم كثر بحمد اللّه تعالى - حبّذا لو تخرج من منطلق مناقشة الفرعيّات والجزئيّات إلى التّركيز على الكلّيّات والشّموليّات، ورسم معالم حدود الشّريعة الكبرى وحمايتها والذّود عنها، فإنّ هذا أجدر أن يؤتي أكله، وثانيها أن لا يُركّز على الأشخاص باعتبارهم أبواب العلمانيّة في العالم الإسلامي، وإنّما تُتوجّه الجهود إلى نقض أفكار أولئك الأشخاص وأقوالهم، وفيها هذا نجاة من مسألة الإسقاط التي نرفضها، فقد يكون في الرّجل ما يُحمَد ويُؤخَذ، فإذا جُعِل رمزًا للعلمانيّة -وقد لا يكون كذلك- رُفض ما عنده من الخير جملةً وتفصيلاً، اللّهمّ إلاّ إذا كان ممّن رفعوا شعار العلمانيّة واللّيبراليّة جهارًا نهارًا، وصرّحوا بحرب الإسلام والمسلمين، أو ممّن يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
9-ما زالت الحزبية البغيضة تشمل شباب الإسلام، فبدلاً من التعاضد والتآلف للعمل للإسلام وصد الهجمات على ثوابت الدين ومحكماته، ما زال البعض يفخر بشيخه أو بمنهجه أو... إلى آخره ما نصيحتكم للخروج من هذه الإشكالية؟ وكيف يمكن القضاء على الخلاف بين فصائل العمل الإسلامي؟
الحزبيّة آفة مدمّرة للعمل الإسلامي، وعثرة في طريق التّمكين، واللّه عزّ وجلّ يقول: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [سورة الأنفال: 46]، فليست الحزبيّة إلاّ التّنازع الذي يؤدّي إلى الفشل.
البعض منّا يرفض قاعدة الإمام محمّد رشيد رضا رحمه اللّه: "نتعاون فيما اتّفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه"، يرفضها جملةً وتفصيلاً، ولعلّ من رفضها حين رفضها كان في ذهنه إسقاطًا خاصًّا عامًّا على فئة خاصّة، فلم لا نجعل أصل هذه القاعدة بداية الانطلاقة نحو العمل الجماعيّ المنشود عوض أن نرفضها رفضًا مطلقًا؟، والتّعامل مع هذه القاعدة يذكّرني بمقولة الإمام الغزالي رحمه اللّه: "ليس في الإمكان أبدع ممّا كان"، فقد جاء من أوّلها تأويلاً خاطئًا، وكفّره بها من كفّره، غير أنّ الحافظ السّيوطيّ دافع عن الغزالي حينما علم حقّ مراده منها وكتب في ذلك رسالة سمّاها: (تشييد الأركان في أنّه ليس في الإمكان أبعد ممّا كان).
10-المهتدي إلى طريق الله قد يصعب عليه أن يجد المؤسسة الدعوية التي تتعهده بالتزكية والتعليم المطلوبين، وإن وجدها فهو يتحير في تعددها وتحزبها... فما الذي عليه حتى ينجو بدينه؟
هذا من المشاكل المعقّدة التي نعانيه نحن مع من يأتي من بلاد العجم أو الكفر أو في توجيه المسلمين الجدد أو الذين يريدون الإسلام، وهو من نتاج الاختلاف الحاصل في الأمّة، يأتي إلينا بعض الكافرين الذي يريدون الإسلام متأثّرين بطائفة معيّنة التقوا بها أو حصل لهم احتكاك مع بعض أفرادها، أنا شخصيًّا أتعامل مع هذا المشكل بمبدأ وضعتُه لنفسي، وهو أن أنصح الذي يريد الهداية إن جاء بخلفيّة عن طائفة منحرفة منسوبة للإسلام كرفض أن أعلّمه أنّه إن كان يريد الإسلام الحقّ فليس هذا المنشود، والتّركيز على الأصول العامّة في ذلك على كتاب اللّه وسنّة رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، وعدم الدّخول في خلاف الفروع، وهذا كثيرًا ما يقع فيه الدّعاة، فإنّهم يركّزون على الفروع والتّعصّب للأشخاص حتّى إنّ بعض من يُسلم يأتي ليسأل كيف أزكّي على قول جماعة فلان، لتوافق ذلك في دينهم القديم من وجود الطّائفيّة والفرق الكثيرة التي تحكم لأفرادها بنظام معيّن وطريقة عبادة خاصّة، فيظنّ أنّ الإسلام مثل ذلك، ويُغيّب له المبادئ الأساسيّة للإسلام، فالمؤسّسات الدّعويّة يجب أن تجعل الدّعوة إلى اللّه قبل كلّ شيئ، والدّعوة إلى التّوحيد الخالص فوق كلّ دعوة إلى جماعة أو طائفة أو مذهب، والتّركيز على قواعد الإسلام.
11-مصطلح السلفية نسبة إلى السلف كثر استخدامه، فهل هو قصر على فئة انتسبت إليه، أم هو منهج لا يسع أحداً الخروج عنه؟ ما هو ورأيكم؟
رأيي في مصطلح السّلفيّة، باعتباره منهجًا فهو المنهج الذي لا ينبغي العدول عنه واتّباع منهج القرون الأولى هو طريق الفلاح والسّداد الذي هو اتّباع كتاب اللّه وسنّة نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ودعوة النّاس إليه، أمّا باعتبار المصطلح حكرًا على جماعة أو طائفة، فهذا يطال المصطلح ما يطال غيره من دعاة التحزّب، حتّى لو أنكروا التّحزّب نفسه، وهو نفسه دليل على فرق الأمّة وضعفها، فالمسلم في هذا الزّمان يجب أن يكون أعلى من هذا، ونبذ العصبيّات والتّفرقة وكلّ ما يفرّق الشّمل هو العلاج الوحيد لأزمات المسلمين، علمنا هذا أم جهلناه، طال الزّمان أم قصر.
12- التقلب والاضطراب في المواقف والمبادئ آفة يزداد ظهورها في الأزمات والشدائد؛ فما السبيل للثبات على الحق والصبر على الأذى فيه؟
المبادئ إن كانت مبنيّة على الثّابت من كتاب اللّه تعالى وسنّة نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فإنّ في التّنازل عنها والتّقلّب عنها آفة من الآفات، والعاصم من التّبديل هو الصّدق مع النّفس ومع اللّه، فمن صدق مع اللّه لم يبدّل ولم يغيّر ،والثّوابت لا تتغيّر عند من عرفها وعاش لأجلها وعمل بها ولو أدّى ذلك إلى هلاكه، وأحفظ عن شيخنا الطّيب حفظه اللّه أنّه كان يذكر أربعة أسباب محوريّة تجعل المسلم ثابتًا على المبادئ، صفاء النّيّة وخلوصها للّه، وحماسة القلب للإسلام والاندفاع لخدمته، ودقّة الفهم وشموليّه وعمقه، وسلامة العمل الجامع بين كفاءة الوسيلة وفعاليّة الأسلوب وشرعيّتهما معًا، فما تأخّر له في شيء من ذلك أثّر في ثباته بقدر ما تأخّر.
أمّا التّغيّر في المواقف فيُحاكم بما أٌسّس فيه، فقد يكون الحال يقتضي أن يغيّر الإنسان في موقفه بما ظهر له من أمر ملزِم بعد أن كان خافيًا، أو علم من أمر بعد أن كان به جاهلاً، فهذا من الأمر المحمود لأنّه مبنيّ على مبادئ ثابتة راسخة، ومقاصد شرعيّة معلومة، ويكون مذمومًا لو كانت تحكمه الأهواء والزّيع، والشّبه والشّهوات.
غير أنّ الإسقاط في هذا يجب أن لا يُتسرّع فيه، فيقال فلان بدّل وغيّر، أو ضيّع مبادئه أو انحرف، فقد يكون مبنيًّا على سوء الظّنّ واتّهام نيّات النّاس، بل وقبل هذا على الجهل ونقص العلم، فالأسلم أن نسبّق حسن النّيّة ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وأن نلتمس الأعذار إلى بعضنا بعضًا، ونسأل اللّه تعالى أن يصلح أحوالنا وأن يختم بالصّالحات أعمالنا، وأن يثبّتنا على مبادئنا إلى أن نلقاه.
وأخيرا
13-كيف تكون الاستفادة القصوى من النت؟، نريد نصيحة لجميع الأخوة للاستفادة من النت؟
النّصيحة التي أسديها إلى إخواني هو ما أعمل به وألزم به نفسي، وهو أن يصرف المسلم جهوده على الواقع ابتداءًا، ويجعل الانترنت والكتابة في المنتديات تبعًا لذلك، فإنّ الإنسان لا يعرف حقيقته إلاّ أمام واقعه، ولا يقدِّر جهوده ولا تُقدَّر إلاّ أمامه، فليبن الإنسان جهوده الدّعويّة على أرض الواقع، ولتكن شخصيّته منبثقة من الواقع، والجهود المبذولة في الإنترنت من كتابة في المنتديات وغيرها إنّما تكون تبعًا لذلك لا العكس، فإنّ في الإنترنت كثيرًا من العوامل التي لا تستقيم للمسلم، وربّما بنى شخصيّته كذبًا وزورًا، وهي في الواقع ليس بشيء، فتكون له شخصيّة افتراضيّة تتقلّب بتقلّب الافتراضيّات، وتتغيّر بتغيّر الأسماء والمعرّفات، فليحرص المسلم على أن يعرف نفسه أحسن المعرفة وإن جهله النّاس، وأن يُخلص لنفسه ولا يكذب عليها، فذلك أحرى أن يزيد من إخلاصه للّه تعالى، وحسن مراقبته له، وهذا له أصل في الشّريعة، احفظ اللّه في السّرّ يحفظك في العلانيّة، وأسأل اللّه تعالى أن يوفّقنا جميعًا لما يحبّه ويرضاه، وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.
وفي نهاية حوارنا مع الشيخ الفاضل زكريا نتوجه له بالشكر على المعلومات القيّمة التى أفادنا بها، وكذلك على إتاحة وقته لنا لإجراء هذا الحوار، فنشكر فضيلة الشيخ زكريا حفظه الله وندعو الله أن يبارك له في علمه وعمله ورزقه وذريته.
المصدر: مجلة المسلم
محمد المصري
معلم وباحث إسلامي مهتم بالقضايا التربوية والاجتماعية ،وله عديد من الدراسات في مجال الشريعة والعقيدة والتربية الإسلامية.
- التصنيف: