نبيٌّ ليس معه أحد!

منذ 2015-05-31

تأمل معي هذه التزكية الرفيعة من هذا الإمام، واستحضر معها كذلك أنه كان ينادي منادي بني أمية: لا يفتي الناس في الحج غير عطاء، ولم يخلف بعده مثله كما قال ميمون بن مهران، ومع ذلك لم يترفع أو يتكاسل أن يتم دروسه ويستمر فيها مع قلة العدد فيها!

بسم الله الرحمن الرحيم

عن الأوزاعي قال: (كان عطاء بن أبي رباح أرضى الناس عند الناس، وما كان يشهد مجلسه، إلا سبعة أو ثمانية)([1]).
تأمل معي هذه التزكية الرفيعة من هذا الإمام، واستحضر معها كذلك أنه كان ينادي منادي بني أمية: لا يفتي الناس في الحج غير عطاء، ولم يخلف بعده مثله كما قال ميمون بن مهران، ومع ذلك لم يترفع أو يتكاسل أن يتم دروسه ويستمر فيها مع قلة العدد فيها!
 
وهذا الإمام أحمد يملي مسنده كاملاً على ثلاثة أشخاص فقط، قَالَ حنبل بْن إِسْحَاق: 
جمعنا أحمد بن حنبل، أنا وصالح وعبد الله، وقرأ علينا المسند ما سمعه غيرنا.
وقال: هذا الكتاب جمعته وانتقيته من أكثر من سبع مائة ألف وخمسين ألفا ([2]).
 
يظل هاجس العدد والكثرة يضرب على وتر القلب، فتجده يخفق بالزيادة ويخفت بنقصان الحضور! وللنفوس في ذلك مشارب تختلف فيها المقاصد والنيات، إلا أن ما يهم ذكره في هذا المقام أن الداعية الصادق لا ينبغي أن يصده عن المضي في دعوته وتعليمه ضعف إقبال الناس عليه، وقلة الحضور في دروسه ومواعظه، وحاديه في ذلك ما قيل لأشرف الرسل عليه الصلاة والسلام: {إِنۡ عَلَيۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ}. 
 
ومن تأمل في حال بعض العلماء وجد لهم بداية في الصبر محرقة، أورثت لهم نهاية من النفع مشرقة، فقد يبتلى في فترة بقلة من يحضر عنده، فإذا صبر وصابر واستمر فتح الله له أبوابا من النفع لم تخطر له على بال.
 
يقول الشيخ عبد الكريم الخضير متحدثا عن تجربته في تفسير القرطبي الذي أمضى في تفسيره 22 سنة: (بدأت دروسي لعدد قليل جداً وكانت متقطعة، وهذا شيء طبيعي في أول التعليم، وكثير من طلبة العلم يتركون التعليم لقلة العدد، والمستفيد الأول هو المعلم، قلت لأحدهم: هذا الشخص الواحد أنت أحوج له من حاجته إليك، ولو تدفع له مالاً.
في سنة 1395 هـ لما وصل ابن باز للرياض جلسنا عنده ما نصل إلى عشرة قطعاً واستمر هذا حتى عام 1400هـ، وهو ابن باز، وابن جبرين عام 1397هــ يجلس له واحد غير سعودي، ثم أقبل عليهم الناس .. لا بد أن يمتحن العالم بقلة العدد، فإن ثبت وعلم الله منه صدق نيته أقبل بالناس عليه)([3]).
 
وهذا الشيخ العلامة ابن عثيمين (كان لا يحضر عنده في بعض الأوقات إلا أربعة أشخاص، وأحياناً يغيب نصفهم، ومرة جاء الشيخ إلى مكان الدرس فلم يجد إلا كتاباً وضعه أحد الطلاب في مكان الحلقة وانصرف لشيء، فلما رأى الشيخ ذلك، توجه إلى المحراب وأخذ مصحفاً وجلس يقرأ فيه، فجاء الطالب ووجد الشيخ يقرأ ولا يوجد إلا كتابه فاستحيا وأخذ الكراس وانصرف)([4]).
 
يقول عبد الرحمن بن مهدي: كنت أجلس يوم الجمـعــة، فإذا كثر الناس فرحت، وإذا قلوا حزنت، فسألت بشر بن منصور فقال: هذا مجلس سوء فلا تعدْ إليه، فما عدت إليه([5]).
 
وأعظم من هذا كله في الصبر على التعليم مع قلة العدد حال الأنبياء عليهم السلام، فهذا خاتمهم يسأله عمرو بن عبسة لما دعاه للإسلام: (من معك على هذا؟ قال "حُرٌّ وعبدٌ" قال: ومعه يومئذٍ أبو بكرٍ وبلالٌ ممَّن آمن به)([6]).
 
ولما دخلت قافلة المدينة قام مَن عنده إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا ومع ذلك ظل قائما يخطب كما وصف الله حاله: {وَتَرَكُوكَ قَآئِماًۚ} ([7])، ولم يقطع خطبته أو يوقفها لنقص عددهم.
 
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب معلقا على حديث «عرضت علي الأمم، فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط، والنبي ليس معه أحد»([8])، قال: (ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة، وعدم الزهد في القلة)([9]).
 
وقد لا تظهر الاستفادة مما تلقيه أو تكتبه عاجلاً، فيبقى راكدا فترة من الزمن ثم يبعث الله له من ينشره ويتم النفع به، وقد ذكر لي الشيخ عبد الله السويلم أنه رُتِّب له محاضرة في الرياض فلما جاء ليلقيها لم يبق من الحضور إلا اثنان، فألقاها كاملة وكان هناك جهاز تسجيل، فلقي شخصاً بعد مدة فأخبره أنه نسَخ منها أربعون ألف شريط ووزعها.
 
وذكر لي أحد طلاب العلم أنه كتب بحثاً وتعب عليه ونشره في النت فبقي مدة طويلة لم يقرأه إلا قلة، فجاءت مناسبة لموضوع البحث فانتشر وبلغ عدد من حمله آلاف الأشخاص.
 
وأختم بلطيفة نفيسة من ابن الجوزي حيث يقول: (ومنهم من يفرح بكثرة الاتباع ، ويلبس عَلَيْهِ إبليس بأن هَذَا الفرح لكثرة طلاب العلم، وإنما مراده كثرة الأصحاب واستطارة الذكر، ومن ذلك العجب بكلماتهم، وينكشف هَذَا التلبيس بأنه لو انقطع بعضهم إِلَى غيره ممن هو أعلم مِنْهُ ثقل ذلك عَلَيْهِ، وما هذه صفة المخلص فِي التعليم، لأن مثل المخلص مثل الأطباء الذين يداوون المرضى لله سبحانه وتعالى، فَإِذَا شفي بعض المرضى عَلَى يد طبيب منهم فرح الآخر)([10]).
 
والثانية لابن عثيمين يقول فيها: 
( العلماء وظيفتهم البلاغ وأما الهداية فبيد الله، ومن المعلوم أن الإنسان المؤمن يحزن إذا لم يستجبِ الناس للحق، لكنَّ الحازنَ إذا لم يقبل الناس الحق على نوعين:
1 ـ نوع يحزن لأنه لم يُقبل.
2 ـ ونوع يحزن لأن الحق لم يُقبل.
والثاني هو الممدوح لأن الأول إذا دعا فإنما يدعو لنفسه، والثاني إذا دعا فإنما يدعو إلى الله عزّ وجل، ولهذا قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ}.
لكن إذا قال الإنسان أنا أحزن؛ لأنه لم يُقبل قولي؛ لأنه الحق ولذلك لو تبين لي الحق على خلاف قولي أخذت به فهل يكون محموداً أو يكونُ غير محمود؟
الجواب: يكون محموداً لكنه ليس كالآخرَ الذي ليس له همٌّ إلاَّ قَبول الحق سَواء جاء من قِبَله أو جاء من قبل غيره)([11]).
 
أسأل الله أن يصلح نياتنا وذرياتنا، وأن يجعلنا مباركين أينما كنا.


([1])  تاريخ أبي زرعة الدمشقي (ص: 449)، تاريخ دمشق لابن عساكر (40/ 391).
([2])  سير أعلام النبلاء ط الرسالة (11/ 329)، وينظر: طبقات الحنابلة (1/143).
([3])  (ذكرها الشيخ في لقائه الذي وضع بمناسبة ختم تفسير القرطبي)
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=326586
([4])  (100 فائدة من العلامة الشيخ ابن عثيمين) للشيخ: محمد المنجد
http://audio.islamweb.net/audio/index.php?page=FullContent&audioid=100373
([5])  سير أعلام النبلاء ط الرسالة (9/ 196). 
([6])  رواه مسلم (ح 832).
([7])  ينظر: صحيح البخاري (ح 4899)، ومسلم (ح 863).
([8])  أخرجه البخاري (ح5705)، ومسلم (ح374).
([9])  فتح المجيد (ص71).
([10])  صيد الخاطر (ص: 428).
([11])  تفسير سورة الكهف على موقعه http://www.ibnothaimeen.com/all/books/printer_17925.shtml

نايف بن محمد اليحيى