الكيفية التي هيأ الله تعالى بها سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتلقي الوحي
كان صلى الله عليه وآله وسلم قد مر بالعديد من التجارب الإنسانية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، هيئته بتقدير الله تعالى لتحمل أعباء الدعوة، وقد تعرضنا لذلك تفصيلاً في الأسبوع الماضي، ويأتي الآن الدور لعرض التهيئة الروحية والأخلاقية التي قدر الله تعالى لنبيه أن يمر بها قبل البعثة وأثر ذلك بعد البعثة.
لم ينزل الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعد تهيئة من قدر الله تعالى، فعلى المستوى العام كان العالم محتاجًا للنبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، كي ينقذه من الهاوية التي سقط فيها، وعلى مستوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم قد مر بالعديد من التجارب الإنسانية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، هيئته بتقدير الله تعالى لتحمل أعباء الدعوة، وقد تعرضنا لذلك تفصيلاً في الأسبوع الماضي، ويأتي الآن الدور لعرض التهيئة الروحية والأخلاقية التي قدر الله تعالى لنبيه أن يمر بها قبل البعثة وأثر ذلك بعد البعثة.
ولا شك أن البعد الأخلاقي في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبرز واضحًا نقيًا في انسلاخه الحاسم عن كل ممارسات الجاهليين غير الأخلاقية، التي كانت تعج بها الحياة العربية في المدن والصحراء، شربًا للخمر واستمراءً للزنا، ولعبا للميسر، وتصعيدًا للربا وتهافتًا على مال اليتيم ووأدًا للبنات وظلمًا للذين لا يقدرون على رد الظلم واستعبادًا محزنًا للذين لا يعرفون طعم الحرية..
ممارسات شتى لا يحصيها العد، كانت تجري على مسرح الجزيرة العربية ومدينتها الكبرى (مكة) ليل نهار، ونظرًا لتعاقبها وتكرراها فقد صارت كل هذه الأخلاق الذميمة عادات راسخة وتقاليد مستقرة، ثم تجاوزت هذا لكي تصبح مفاخر ومكرمات يتبارى العرب في الإتيان بالمزيد منها، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم بعيدٌ عن هذا كله منسلخ منه..
ولقد منحه موقفه النبيل هذا نظافة وطهرًا لم يعرفهما إنسان قط، وعلمه في الوقت نفسه كيف يكون الرفض والتمرد على الوضع الديني، الوضع غير الإنساني مهما حمل هذا الوضع من تبريرات انتقلت به من كونه فسقًا وإثمًا وفجورًا إلى مرتبة العادات والقيم والمفاخر والمعتقدات الراسخة.
ويري عماد الدين خليل محقا أن البعد الروحي هو أشد الأبعاد ثقلاً وخطرًا في حياة الإنسان، والروايات القليلة التي تحدثنا عن عزلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعيدًا عن صخب مكة وضجيجها حينًا بعد حين، وعن انقطاعه إلى الصحراء وحيدًا متأملاً باحثًا منقبًا مقلبًا وجهه في آفاق السموات والأرض، هذه الروايات تكفي لالتقاط الإشارة الأخيرة الحاسمة المتممة للصورة التي علينا أن نعرفها عن حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قبل مبعثه..
فكما علمه الانشقاق الأخلاقي عن الوضع المكي القدرة على الرفض والتمرد، فقد جاء تغربه وعزلته وانقطاعه امتدادًا نفسيًا باتجاه آخر لكنه متمم، وبدونه لا يمكن لإنسان ما أن يلعب دوره الحاسم الكبير.. غنه امتداد باتجاه التهيؤ للاندماج والاتصال بالوحي، ومواجهة رفض الجاهلية والتمرد على قيادتها واعرافها وسلطانها مع اندماج بالكون على انفساحه داعيًا البشرية لهجرة مواضعها المنحرفة الخاطئة، التي ساقتها إليها زعامات ظالمة وسلطات مستبدة والوهيات زائفة، وأعراف وبيئات مليئة بالدنس والوحل والخطيئة، إنه تمهيد للاتصال بالسلطة الواحدة التي تشرف على الكون وتحرك الإنسان والخلائق في ساحاته.. سلطة السماء.
وفي نفس الإطار -وإن بأسلوب مختلف- تأتي حادثة شق الصدر، فقد بقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند مرضعته حليمة في بني سعد حتى بلغ الرابعة أو الخامسة من عمره، وعندئذ حدثت واقعة شق الصدر، إذ «صحيح مسلم:162)، بينما كان الغلمان قد سعوا إلى حليمة فقالوا إن محمدًا قد قتل، فلما جاءته وجدته صلى الله عليه وآله وسلم ممتقع اللون..
» (وهذه الحادثة هي بلا ريب من المعجزات التي تعجز عقولنا وعلمنا البشري عن إدراك حقيقتها في ميداني النفس والتشريح لأنها -كأي تجربة أو حدث روحي- لا تخضع لمقاييس العقل والحس المحدود، يكفينا أن نلتقط منها رمزًا أو دلالة تغطي مساحة ما في صورة الأربعين سنة من حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم..
يقول محمد الغزالي: "شيء واحد هو الذي نستطيع استنتاجه من هذه الأثار، أن بشرًا ممتازًا كمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لا تدعه العناية عرضًا للوساوس الصغيرة التي تتناوش غيره من سائر الناس، فإذا كانت هناك موجات تملأ الأفاق، وكانت هناك قلوب تسرع إلى التقاطها والتأثر بها، فقلوب النبين بتولي الله لها لا تستقبل هذه التيارات الخبيثة ولا تهتز لها، وبذلك يكون جهد المرسلين في متابعة الترقي لا في مقاومة التدني، وفي تطهير العامة من المنكر لا في التطهر منه، فقد عافاهم الله من لوثاته".
وما دمنا بصدد تحليل المؤثرات البيئية والوراثية والغيبية في تكوين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتهيئته للرسالة، فإن حادثة شق الصدر تقف في القمة من المؤثرات جميعًا، صياغة روحية مادية لشخصية النبي الإنسان، وتهيئته من لدن العليم بأسرار النفوس الخبير بتعقيدات الشخصية البشرية، لكي يكون محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالذات ووفق تكوينه الموجه قادرًا على التقاط إشارة السماء ومقابلة الوحي وتحمل المسؤولية رسولاً للناس جميعًا؛ ليصعد بهم إلى القمم الشامخة التي تنقطع دونها أنفاس الرجال.
ومن هنا أجمع جميع المؤرخين على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان متميزًا بحسن الخلق كصدق الحديث والأمانة حتى سموه بالصادق الأمين، وكانوا يودعون عنده ودائعهم وأماناتهم، كما كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يشرب الخمر ولا يأكل ما مما ذبح على النصب، ولا يحضر للأوثان عيدًا ولا احتفالاً بل كان من بداية نشأته نافرًا من هذه المعبودات الباطلة.
كما كان صلى الله عليه وآله وسلم يأكل من نتيجة عمله لأن أباه لم يترك له ثروة، وكانت التجارة هي عمله حين شب، ولما تزوج خديجة كان يعمل بمالها ويشاركها في الربح، وكان يشارك غيرها أحيانًا، ورغم ذلك كله فعندما بعث الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمره أن ينذر قومه ويدعوهم للإسلام ونزل قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى صعد الصفا، فهتف بهم فاجتمعوا له، فقال: « »، قالوا: ما جربنا عليك كذبًا، قال: « »، فقال أبو لهب: تبًا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ ثم انصرف وتبعه القوم، فنزلت سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]" (صحيح البخاري:4971).
وهكذا نجد أن الكفار لم تجد معهم أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي اشتهر بها بينهم من الصدق والأمانة وحسن الخلق، بل كذبوه وعاندوه إلا قليلاً ممن كتب الله لهم نعمة الإسلام، واشتدت قريش في عدائها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، أما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد لاقى من إيذائهم أنواعًا كثيرة، من ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: "بينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله".
كما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "بينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساجد وحوله ناس من قريش جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يرفع رأسه فجاءت فاطمة رضي الله عنها فأخذته من على ظهره ودعت على من صنع ذلك"، ومنه ما كانوا يواجهونه به من فنون الاستهزاء والسخرية والغمز واللمز كلما مشي بينهم أو مر بهم في طرقاتهم أو نواديهم، ومن ذلك ماورد من أن بعضهم عمد إلى قبضة من تراب فنثرها على رأسه وهو يسير في بعض طرق مكة، وعاد إلى بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه التراب وهي تبكي ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لها: «الألباني مرسل في دفاع عن الحديث:19).
» (قالوأما أصحابه رضوان الله عليهم فقد تجرع كل منهم ألوانا من العذاب حتى مات منهم من مات تحت العذاب وعمي من عمي، ولم يثنهم ذلك عن دين الله شيئا ولا تتسع المساحة لسرد الوان العذاب التي لاقاها كل منهم وما قصص تعذيب بلال بن رباح وآل ياسر وغيرهم عنا ببعيد.
وقد يكفينا ما ذكره الخباب بن الأرت رضي الله عنه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو متوسد ببردة وهو في ظل الكعبة، ولقد لقينا من المشركين شدة فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمر الوجه، فقال: «صحيح البخاري:3612).
»" (وبالإضافة لحسن خلقه صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان حليمًا صبورًا فصبر على أذى قومه له في سبيل دعوته، ولم يتعجل بالدعاء بهلاك قومه مثلاً، ومن ذلك ما ذكرته عائشة رضي الله عنها من أنها قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: "هل أتي عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: « -أي الجبلين المحيطين بمكة- »" (صحيح مسلم:1795).
وعائشة رضي الله عنها هي نفسها التي قالت: "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئًا قط بيده ولا امرأة ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيئًا قط فينتقم من صاحبه إلا أن يُنْتَهَكَ شيء من محارم الله تعالى، فينتقم لله تعالى".
كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذا حلم وصبر واسع، بل لا نهاية له في تعامله مع جهلة المسلمين، ومن أمثلة ذلك ما ذكره أنس رضي الله عنه عندما قال: "كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه بردائه جذبة شديدة فنظرت إلى صفحة عنق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد أثرت فيها حاشية البردة من شدة الجذبة ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء".
ولعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقصد نفسه في ما ذكره ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: "كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحكي نبيًا من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه ضربه قومه فأدموه، ويمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
ومع ذلك فقد ظل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتمتع بالعديد من الصفات والسمات السلوكية المتميزة بعد البعثة، وظل يسير بها بين الناس، فمنها حسن خلقه صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "لقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشر سنين فما قال لي قط: أف، ولا قال لشيء فعلته لِمَ فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله ألا فعلت كذا".
وعن الصعب بن جثامة رضي الله عنه قال: "أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حمارًا وحشيًا فرده علي، فلما رأى ما في وجهي قال: «
» (صحيح البخاري:2573)، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "لم يكن رسول الله فاحشًا ومتفحشًا، وكان يقول: « »" (صحيح البخاري:3559).عبد المنعم منيب
صحفي و كاتب إسلامي مصري
- التصنيف: