عِنْدَ الْصَبَاح يَحْمَدُ الْقُوْمُ الْسُّرَى

منذ 2015-06-26

هذه العبارة أصبحت مثلًا يقال، وحكمة تروى لأصحاب الهمم العلية، والنفوس العظيمة الأبية...

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

 

فقد استهلت سنة ثلاث عشرة للهجرة النبوية والصديق عازم على جمع الجنود ليبعثهم إلى الشام وذلك بعد مرجعه من الحج عملًا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:123]، وبقوله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].

واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه جمع المسلمين لغزو الشام وذلك عام تبوك حتى وصلها في حر شديد وجهد فرجع عامه ذلك ثم بعث قبل موته أسامة بن زيد مولاه ليغزو تخوم الشام كما تقدم ولما فرغ الصديق من أمر جزيرة العرب بسط يمينه إلى العراق فبعث إليها خالد بن الوليد ثم أراد أن يبعث إلى الشام كما بعث إلى العراق فشرع في جمع الأمراء في أماكن متفرقة من جزيرة العرب وكان قد استعمل عمرو بن العاص على صدقات قضاعة معه الوليد بن عقبة...

وفي تلك السنة تجهز الروم لحرب المسلمين، فأتوا بخيلهم ورجالهم، وحدهم وحديدهم، وقام هرقل وأمر بخروج الجيوش الرومية بصحبة الأمراء في مقابلة كل أمير من المسلمين بجيش كثيف فبعث إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه أخًا له -أي لهرقل- لأبويه اسمه (تذارق) في تسعين ألفًا من المقاتلة، وبعث (جرجه بن بوذيها) إلى ناحية يزيد بن أبي سفيان فعسكر بآرائه في خمسين ألفًا أو ستين ألفًا، وبعث (الدارقص) إلى شرحبيل بن حسنة، وبعث (اللقيقار) ويقال (القيقلان) في ستين ألفًا إلى أبي عبيدة بن الجراح، وقالت الروم: والله لنشغلن أبا بكر عن أن يورد الخيول إلى أرضنا.

أما عسكر أهل الإسلام فكان عددهم إحدى وعشرين ألفًا سوى الجيش الذي مع عكرمة بن أبي جهل وكان واقفًا في طرف الشام ردءًا للناس في ستة آلاف. وعندها كتب الأمراء إلى أبي بكر وعمر يعلمانهما بما وقع من الأمر العظيم، فكتب إليهم أن اجتمعوا وكونوا جندًا واحدًا وألقوا جنود المشركين فأنتم أنصار الله، والله ينصر من نصره، وخاذل من كفره، ولن يؤتى مثلكم عن قلة، ولكن من تلقاء الذنوب فاحترسوا منها، وليصل كل رجل منكم بأصحابه.

وقال الصديق رضي الله عنه: "والله لأشغلن النصارى عن وساوس الشيطان بخالد بن الوليد"، وبعث إليه وهو بالعراق ليقدم إلى الشام فيكون الأمير على من به، فإذا فرغ عاد إلى عمله بالعراق. ولما بلغ هرقل ما أمر به الصديق أمراءه من الاجتماع بعث إلى أمرائه أن يجتمعوا أيضًا، وأن ينزلوا بالجيش منزلًا واسع العطن، واسع المطرد، ضيق المهرب، وجعل على الناس أخوه بندارق، وعلى المقدمة جرجه، وعلى المجنبتين ماهان، والدارقص، وعلى البحر القيقلان.

وعندما بلغ الكتاب خالد بن الوليد رضي الله عنه استناب المثنى بن الحارثة على العراق وسار خالد مسرعًا في تسعة آلاف وخمسمائة، ودليله رافع بن عميرة الطائي، فأخذ به على السماق حتى انتهى إلى قراقر، وسلك به أراضي لم يسلكها قبله أحد فاجتاب البراري والقفار، وقطع الأودية، وتصعد على الجبال وسار في غير مهيع، وجعل رافع يدلهم في مسيرهم على الطريق وهو في مفاوز معطشة، وعطش النوق وسقاها الماء عدلًا بعد نهل، وقطع مشافرها، وكعمها حتى لا تحتز رحل أدبارها، ويقال بل سقاه الخيل وشربوا ما كانت تحمله من الماء، وأكلوا لحومها، واستاقها معه فلما فقدوا الماء نحرها فشربوا ما في أجوافها من الماء، ووصل ولله الحمد والمنة في خمسة أيام فخرج على الروم من ناحية تدمر فصالح أهل تدمر وأركه، ولما مر بعذراء أباحها، وغنم لغسان أموالًا عظيمة، وخرج من شرقي دمشق، ثم سار حتى وصل إلى قناة بصـرى فوجد الصحابة تحاربها، فصالحه صاحبها وسلمها إليه فكانت أول مدينة فتحت من الشام ولله الحمد والمنة.

 

وبعث خالد بأخماس ما غنم من غسان مع بلال بن الحرث المزني إلى الصديق ثم سار خالد وأبو عبيدة ومرثد وشرحبيل إلى عمرو بن العاص وقد قصده الروم بأرض العربا من المعور، فكانت واقعة أجنادين. وقد كان بعض العرب قال له في هذا المسير إن أنت أصبحت عن الشجرة الفلانية نجوت أنت ومن معك، وان لم تدركها هلكت أنت ومن معك، فسار خالد بمن معه وسروا سروة عظيمة، فأصبحوا عندها فقال خالد: "عِنْدَ الْصَبَاح يَحْمَدُ الْقُوْمُ الْسُّرَى" فأرسلها مثلًا وهو أول من قالها رضي الله عنه [1].

فبعد هذه الرحلة العظيمة من العراق إلى الشام وهذه الرحلة يقطعها الناس في الطريق المعروف في شهر، وخالد قطعها في ثلاثة أيام مع طريق مفازة، وعلى قلة من الماء بل معه جيش جرار فيه الإبل والخيول، وقد سار بهم سيرًا عظيمًا في طريق هو عند العرب مهلكة، وشد بهم المسير حتى سار بهم الليل الطويل، فلما أصبحوا ورأوا إخوانهم قال كلمته المشهورة: "عِنْدَ الْصَبَاح يَحْمَدُ الْقُوْمُ الْسُّرَى".

فهذه العبارة أصبحت مثلًا يقال، وحكمة تروى لأصحاب الهمم العلية، والنفوس العظيمة الأبية...

عند الصَّباح يحمدُ القومُ الْسُّرَى *** وتنجلي عنهم غياياتُ الكرى


عِنْدَ الْصَبَاح يَحْمَدُ الْقُوْمُ الْسُّرَى... للجادين الحازمين، والصابرين المحتسبين، والباذلين الناصحين، جمعوا بين العلم والعمل وآثروهما على ما سواهما، وهجروا الجهل والبطالة...

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "العلم والعمل توأمان، أمهما علو الهمة؛ والجهل والبطالة توأمان، وأمهما إيثار الكسل" [2].

عِنْدَ الْصَبَاح يَحْمَدُ الْقُوْمُ الْسُّـرَى... للقائمين الراكعين، وللساجدين المنيبين في ظلمة الليل، من يراوحون بين أقدامهم من طول القيام، ويستعينون بالركب من طول السجود...

قال الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى: "خرجت حاجًا فدخلت مدينة النبي صلى الله عليه وسلم بليل فأتيت مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بشاب بين القبر والمنبر يتهجد، فلما طلع الفجر استلقى على ظهره، ثم قال: "عِنْدَ الْصَبَاح يَحْمَدُ الْقُوْمُ الْسُّـرَى" [3]. وصدق ورب الكعبة، فيامن يستعظم أحوال القوم! تنقل في المراقي تصل.

عِنْدَ الْصَبَاح يَحْمَدُ الْقُوْمُ الْسُّرَى... يتلذذ بهذه الكلمات من لله عمل، وله ضحى وبذل، فجلد ذاته على عتبة العبودية، وكسر نفسه في محراب الألوهية، واتعب نفسه لله رب البرية؛ قال القاسم بن راشد الشيباني: "كان زمعة نازلًا عندنا بالحصيب، وكان له أهل وبنات، وكان يقوم فيصلي ليلًا طويلًا، فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته يا أيها الركب المعرسون، كل هذا الليل ترقدون؟! ألا تقوم فترحلون، قال: فيتواثبون فتسمع من هاهنا باكيًا، ومن هاهنا داعيًا، ومن هاهنا قارئًا، ومن هاهنا متوضئًا، فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته: عِنْدَ الْصَبَاح يَحْمَدُ الْقُوْمُ الْسُّرَى" [4].

عِنْدَ الْصَبَاح يَحْمَدُ الْقُوْمُ الْسُّرَى...للمستغلين لأوقاتهم، المحافظين على أعمارهم، الطالبين لرضا ربهم، الساهرين لتحصيل العلم، فهجروا الفراش الوثير، والأرائك والنمارق... قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "من نام على فراش الكسل ، أصبح ملقي بوادي الأسف" [5].

عِنْدَ الْصَبَاح يَحْمَدُ الْقُوْمُ الْسُّرَى... لمن عرف قدر الدنيا وحقارتها، واستعد للآخرة وجنتها، حث داعي الفلاح طائفة التقى والصلاح على أن تؤدي فرضها ونفلها، وترتقي بخضوعها بين يدي ربها درجات السعادة التي كانت أحق بها وأهلها... قال أبو كريمة الكلبي وكان من عباد أهل الشام: "ابن آدم ليس لما بقي في الدنيا من عمرك ثمن، وعند الصباح يحمد القوم السرى، وعند الممات يحمد القوم التقى" [6].

عِنْدَ الْصَبَاح يَحْمَدُ الْقُوْمُ الْسُّرَى... للحاملين أرواحهم فوق أكفهم، والباذلين نفوسهم لربهم، باعوا الدنيا، واشتروا الآخرة، أرخصوا لها كل شيء، الأولاد والذرية، والأموال والحرية، والزوجة والدور العلية.

عِنْدَ الْصَبَاح يَحْمَدُ الْقُوْمُ الْسُّرَى... يعرف المجاهدون مقعدهم من ربهم ومولاهم، فيرضون بربهم ويرضى بهم.

وصدق القائل:

لقد يحمد القوم الْسُّرَى في صباحهم *** زمان تلاق عنده الشمل يجمع
وهـــا أنا أسـري في ظلامي وإنني *** أذم صبـــاحي والخلائـق هجع
أقول لصبري أنت ذخري لدى النوى *** وذخر الفتى حقاً شفيع مشفع


وفي الختام أقول لمن يلوم الباذلين والناصحين، والقائمين العابدين، والمجاهدين الصادقين، أقول لهم بكل صوت مسموع ... عِنْدَ الْصَبَاح يَحْمَدُ الْقُوْمُ الْسُّرَى... نعم ... عِنْدَ الْصَبَاح يَحْمَدُ الْقُوْمُ الْسُّرَى...

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- البداية والنهاية [7/4-6].
[2]- بدائع الفوائد [2/238] مكتبة المؤيد.
[3]- شعب الإيمان للبيهقي [3/169].
[4]- التهجد وقيام الليل لابن أبي الدنياص: [170].
[5]- بدائع الفوائد [2/234].
[6]- حلية الأولياء [10/15].

المصدر: موقع د. ظافر بن حسن آل جَبْعَان