غثائية الأمة: الأسباب والعلاج

منذ 2015-07-28

يعيش المسلمون هذه الأيامَ ألوانًا من الهَوَان، وفنونًا من الاستذلال؛ حيث صِرْنا نستفيق كلَّ يومٍ على أعداء الإسلام يطعنون في دِيننا، ويسفِّهون مُقدَّساتنا، ويُمْعِنون في إذلالنا والتمنُّن علينا.

الخطبة الأولى

يعيش المسلمون هذه الأيامَ ألوانًا من الهَوَان، وفنونًا من الاستذلال؛ حيث صِرْنا نستفيق كلَّ يومٍ على أعداء الإسلام يطعنون في دِيننا، ويسفِّهون مُقدَّساتنا، ويُمْعِنون في إذلالنا والتمنُّن علينا.

وما كان لهؤلاء أن يتجرَّؤوا علينا لولا ضَعفُ تديُّننا، وبُعدنا عن مصادر تشريعنا، وترْكُ التمكين لأخلاقنا، والاعتزاز بمبادئنا.

فما حقيقة واقع المسلمين؟ وما أسباب تخلُّفهم، وهجوم أعدائهم عليهم؟

عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يُوشك الأُمم أن تَدَاعى عليكم مِن كلِّ أُفق كما تَدَاعى الأَكَلة إلى قَصْعتها»، فقال قائل: ومِن قلَّة نحن يومئذٍ؟ قال: «بل أنتم يومئذٍ كثير؛ ولكنَّكم غُثاء كغثاء السيل، ولينْزِعَنَّ الله من صدور عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقْذِفَنَّ الله في قلوبكم الوَهَن - الضَّعف -»، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهَن؟ قال: «حُبُّ الدنيا، وكراهية الموت»؛ صحيح سُنن أبي داود، يُجعل الوهنُ في قلوبكم، ويُنزع الرُّعبُ من قلوب عدوِّكم؛ لحبِّكم الدنيا، وكراهيتكم الموتَ.

إنَّ هذا الحديث الشريف يُظهر بوضوحٍ أنَّ أسبابَ تراجُع المسلمين أسبابٌ ذاتيَّة، نابعة منهم بالدرجة الأولى؛ فقد كان سلفُنا يعتقدون أنَّهم خُلِقوا لحماية الدِّين والدفاع عنه؛ حتى أُثِر عن بعضهم قوله: "ما مِن مسلمٍ إلاَّ وهو على ثَغر من ثغور الإسلام، فلا يُؤتَيَنَّ الإسلام مِن قِبَلك".

بينما كثير منَّا يمشي في الظلِّ، يأكلُ ويشرب وينام، ويعتقدُ أنَّ ذلك مَبْلغه من وجوده؛ كما قال القائل: "نأكلُ القوت، وننتظر الموت".

قال ابن القَيِّم - رحمه الله -:

وَتَعَرَّ مِنْ ثَوْبَيْنِ مَنْ يَلْبَسْهُمَا *** يَلْقَ الرَّدَى بِمَذَلَّةٍ وَهَوَانِ
ثَوْبٍ مِنَ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ فَوْقَهُ *** ثَوْبُ التَّعَصُّبِ بِئْسَتِ الثَّوْبَانِ

إنَّ المسلمين يقاربون المليار والنصف، ولكنَّها كثرة لا غَناء فيها، ما لم يصحبْها التديُّنُ المبني على كتاب الله وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ألم يكنِ المسلمون في غزوة "بدر" أقلَّ من ثُلُث الأعداء، ومع ذلك انتصروا؟ ألم يتحزَّب الأحزاب من المشركين واليهود ضدَّ المسلمين في غزوة "الخندق"؛ حتى اعتقدوا أنَّهم منتصرون لا محالة، ثم خذَلَهم الله - تعالى - ونصَرَ جُنْدَه عليهم؟

وقد أُثِر عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنَّه كتَبَ إلى سعد بن أبي وقَّاص، فقال: "إنَّما يَغلب المسلمون عدوَّهم بتقواهم لله ومعصيةِ عدوِّهم له، فإذا استويْنَا نحن وهم في المعصية، كان لهم الفضْلُ علينا في القوَّة".

إنه الخَبَثُ الذي استشرى في الأُمَّة، والتطبيع مع المنْكَر الذي عزَّ وسادَ؛ حتى صار بعضُ مَن يُسمَّى بالمسلمين ينادي بفصْل الدِّين عن الدولة، وإبعادِه عن الحياة العمليَّة للمسلمين، ويدعو إلى ما يعتقده احترامًا للحريَّة الشخصيَّة في شُرْب الخمور، وارتياد أماكن الفجور، وممارسة الشذوذ، ولقد سألتْ أُمُّ المؤمنين زينب بنت جحش - رضي الله تعالى عنها - رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قائلة: "أنَهْلِكُ وفينا الصالحون؟ "، قال: «نعم؛ إذا كَثُر الخَبَثُ» (مُتفق عليه).

وقال - تعالى -: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25].

إنَّ الغُثاء هو ما ارتفعَ على وجْه الماء، وحمَلَه السيلُ مِن الأوساخ المستقذرة، والأعواد المتلاشية، والأعشاب المهترئة، وكذلك واقعُ المسلمين اليومَ في أغلبهم؛ انشغالٌ بالذوات، وانهماك في الملذَّات والشهوات؛ حتى هانوا على أعدائهم، فسقطوا من أَعْيُنهم.

ومن خصائص الغُثاء أنَّه تابعٌ للسيل، يسيرُ باتِّجاهه، ويأْتَمِرُ بأوامره.

وطبيعة السيل أنَّه مندفعٌ جارف، ولا خيار للغُثاء في الطريق الذي يسلكُه مع السيل، فليس له إلاَّ السمعُ والطاعة، والانقيادُ والاستسلام، وكذلك واقعُ المسلمين اليوم في أغلبهم، إحساسٌ بالضَّعف والخوف، والانبهار أحيانًا، تولَّدَ عنه تبعيْةٌ مُخْزِية، وذِلَّة مستخذيَة، واستسلامٌ مهين، وانقياد شائن.

ثم وضَّح الرسول - صلى الله عليه وسلم - كيف سينقلبُ الحال بالمسلمين الذين سيهُونون على أعدائهم، فلا يُقيمون لهم وزنًا، ولا يَحْسبون لهم حسابًا، وكأنَّهم خَدَمٌ لهم، يستهلكون ما يصنعونه لهم، ويأكلون ما يزرعونه لهم، وكأنَّهم هَمَجٌ رعاع، لا قِيمةَ لهم، كما وصَفَ أحدُ المؤرِّخين حالَ المسلمين في الأندلس قبل غزْوها من طرف الصليبيين بقوله: "إنَّما هِمَّة أحدِهم كأسٌ يشربُها، وقينة يسمعُها، ولَهْوٌ يقطعُ به أيامه".

وكما وصَفَ ابن العربي المالكي حالَ المسلمين في أواسط القرن السادس الهجري قائلاً: "فغلبتِ الذنوبُ، وشقيتْ بالمعاصي القلوبُ، وصارَ كلُّ أحدٍ من الناس ثَعْلبًا يأْوِي إلى جُحْره، وإنْ رأى المكيدة بجاره؛ فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون! ".

وكذلك صارَ الإسلامُ عند كثيرٍ مِن أبناء هذا الزمان شعارًا مُحدِّدًا للهُويَّة فقط؛ تمييزًا بين المسلم وغيره، ولم يَعُدْ له من حقيقته إلاَّ اسمُه، ولا مِن مقاصد نزوله إلا رَسمُه، فانتُهكتِ الحُرُمات وهم ينظرون، وسُبيتِ النساء وهم لا يشعرون، وهُتِكتِ الأعراض وهم في غَفْلة سامدون.

ظَفِرَتْ بِنَا الأَعْدَاءُ يَوْمَ وَدَاعِكُمْ *** فَدِمَاؤُنَا فَوْقَ الدِّمَاءِ تُرَاقُ
هُتِكَ السِّتَارُ وَقُطِّعَتْ أَوْصَالُنَا *** وَنِسَاؤُنَا نَحْوَ الْهَوَانِ تُسَاقُ
أَوَ هَكَذَا يَنْسَى الْحَبِيبُ حَبِيبَهُ *** بِحُطَامِ دُنْيِا مَا لَهَا مِيثَاقُ

إنَّها قصعة المسلمين تتعاورُها يدُ اللِّئام بالازْدِراد والاسْتِراط.

• بالأمس أعْلَنَ الجيشُ الإسرائيلي عن إقفال صارمٍ للضفة الغربيَّة طوال 48 ساعة؛ بمناسبة يوم الغُفران، ثم أخذتْهم الرحمة فاستثنوا الأشخاصَ الذين يحتاجون إلى عناية طِبيَّة، أمَّا حصارُ "غزة" منذ 2007 فصارَ شيئًا شِبه مألوفٍ.

• ومع نهاية شهر رمضان الأخير؛ حيث تُرْجَى ليلة القَدْر التي أُنزل فيها القرآنُ الكريم، يخرجُ علينا أحدُ القساوسة النصارى المتعصِّبين - الذي لم يكن الحاضرون في كَنيسته يزيدون عن الأربعين، والذي وصفتْه ابنتُه بالمعتوه - بفكرة الانتقام من المسلمين بحرْق 200 مصحف؛ كما أحْرَقَه المغولُ مِن قَبْلُ.

• وقبل أيَّام صدَرَ قانون في إحدى الدول الغربيَّة يمنع المرأة المسلمة من ارتداء ما اقتنعتْ به مِن لباسٍ ساترٍ في الأماكن العامَّة، وفرضوا على كلِّ مَن خرجتْ إلى الشارع بهذا اللِّباس غَرَامة ماليَّة، كأنَّها مُخالفة جنائيَّة يستحقُّ صاحبُها العقوبةَ.

• وقبل ذلك تجرَّأ رسَّامُ "كاريكاتوري" على رسْم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأُمَّهات المؤمنين رسوماتٍ استهزائيَّة تهكُّميَّة؛ إمعانًا في احتقار المسلمين، ونِكاية بهم وبدِينهم، انتهى به المطاف أن يصيرَ موضعَ ثناءٍ وإعجاب، ونَيْلٍ للأوْسِمة والجوائز من طرف المؤسَّسات والزُّعماء الغربيين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

لَمَّا تَرَكْنَا الْهُدَى حَلَّتْ بِنَا مِحَنٌ *** وَهَاجَ لِلظُّلْمِ وَالإِفْسَادِ طُغْيَانُ

الخطبة الثانية

إذا كانَ هذا واقعَ المسلمين في عمومه، فما السببُ في ذلك؟

يُجيبنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «حُبُّ الدنيا، وكراهية الموت».

بعَثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا عُبيدة بن الجرَّاح إلى البحرين؛ يأتي بجِزْيَتها، فقَدِمَ بمالٍ منها، فسمعتِ الأنصار بقُدومه، فوافتْ صلاة الفجر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلمَّا انصرفَ تعرَّضوا له، فتبسَّم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآهم، ثم قال: «أظنُّكم سمعتُم أنَّ أبا عبيدة قَدِمَ بشيءٍ؟»، قالوا: أجَلْ يا رسول الله، قال: «فأبشروا وأمِّلوا ما يَسُّركم، فو الله ما الفقرَ أخْشَى عليكم، ولكنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عليكم الدنيا كما بُسِطَتْ على مَن كان مِن قبلكم، فتنافَسوها كما تنافَسوها، وتُهْلكَكم كما أهلكتْهم» (مُتفق عليه).

إنَّه حبُّ الدنيا الذي ملأ القلوب، فحجَبَها عن الغضب لانْتهاك حُرمات الله، وأعْمَى الأبصار، فمنَعَها من الغَيرة لدين الله، وإنَّها كراهيةُ الموت التي ميَّزتْ سلفَنا عنَّا.

لَمَّا وصَلَ خالد بن الوليد بالجيوش الإسلاميَّة إلى مدينة "الأُبُلَّة" التي كانتْ بوَّابة الفُرس في العراق - التي أصابَها اليومَ من الوَهَن ما أصابها - أرسلَ برسالة لقائدها الفارسي "هرمز" - وكان رجلاً شِرِّيرًا متكبِّرًا، شديدَ البُغض للإسلام والمسلمين - يقول له فيها: "أمَّا بعد، فأسْلِمْ تَسْلَمْ، أو اعتقدْ لنفسِك ولقومك الذِّمَّة، وأقْرِرْ بالجِزْية، وإلاَّ فلا تلومَنَّ إلاَّ نفسَك، فلقد جِئْتُك بقومٍ يحبون الموتَ كما تحبون الحياة".

وذَكَر ابنُ إسحاق أن كفَّار قريش خرجوا بالصحابي الجليل زيد بن الدَّثِنة؛ ليقتلوه بعد أن وقَعَ أسيرًا عندهم، فقال أبو سفيان لزيد: "أنشدُك الله يا زيد، أتحبُّ أنَّ محمدًا عندنا الآن في مكانك نضربُ عُنقَه، وأنَّك في أهْلك؟ قال: والله ما أحبُّ أنَّ محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبُه شوكة تُؤْذيه، وأنا جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيتُ من الناس أحدًا يحبُّ أحدًا كحبِّ أصحابِ محمدٍ محمدًا".

إنَّه لن يَصلُحَ آخرُ هذه الأُمة، إلاَّ بما صَلح به أوَّلُها، فلنعَضَّ على السَّنَن، ولنَسْتمسكْ بالجَدَد، والله وَلِيُّ المتَّقين.

 

محمد ويلالي