تعليق على: أسباب الكوارث في الحج

منذ 2015-09-14

تعليق على أسباب الكارثة التي حدثت بعد ظهر يوم 12/12/1426هـ

عندما يقف ساحر القبيلة البدائية على بقعة ما من الأرض، وعليه جبة خضراء، ثم ينزل المطر، وتخضر البقعة بالعشب، تنسب القبيلة اخضرار الأرض ونزول المطر إلى وقوف الساحر على تلك الأرض وعليه جبة خضراء.

هذا مثل تقليدي يتردد في كتب علم الاجتماع يقصد به العلماء تصوير طريقة تفكير البدائي، يكفي مجرد اقتران الظاهر (أ) بالظاهرة (ب) ليعتقد الشخص البدائي أن الظاهرة الأولى سبب للظاهرة الثانية وعندما يتقدم الإنسان في طريق نضج التفكير، وبقدر تقدمه فإنه يتحيز للسببية العقلية، التي موجبها إنه لكي تكون الظاهرة (أ) سببًا للظاهرة (ب) لابد أن يتكرر بالتجربة مرات عديدة تمنع احتمال الصدفة أنه كلما وجدت الظاهرة (أ) وجدت الظاهرة (ب) وكلما تخلفت الظاهرة (أ) تخلفت الظاهرة (ب) مع الأخذ في الاعتبار وجود الموانع، وتعدد الأسباب.

ويعبر أسلافنا رحمهم الله عن هذا المفهوم بقولهم السبب ما يلزم من وجوده الوجود ويلزم من عدمه العدم، وفي أحد التقارير التي حددت أسباب الكارثة التي حدثت بعد ظهر يوم 12/12/1426هـ، بالتأمل يلاحظ لأول وهلة أن:

كل سبب من الأسباب المذكورة في التقرير يوجد دائمًا، بدون أن توجد وفيات الزحام، وتوجد وفيات الزحام مع تخلف السبب المذكور، بل إن الأسباب المذكورة في التقرير توجد مجتمعة ولا توجد كوارث وتتخلف وتوجد الكوارث وفيما يلي مناقشة تفصيلية للأسباب المذكورة في التقرير.

أولاً: فتاوى دعاة الحكومة بعدم الرمي قبل الزوال:

أعطي هذا السبب وزنًا ملحوظًا حتى قيل أنه السبب الرئيسي. كان مقبولاً على الأقل من الناحية النظرية نسبة حدوث مثل هذه الواقعة إلى الفتوى المذكورة في المواسم السابقة  لعام 1419هـ عندما كانت الحكومة تمنع الناس بالقوة من الرمي قبل الزوال  بناء على الفتوى.

أما بعد أن توقفت الإدارة عن منع الناس من الرمي قبل الزوال وصار الحجاج الراغبين في الرمي قبل الزوال أحراراً فيه، فإن من المتوقع أن لا يكون للفتاوى المذكورة كبير أثر إلا إذا افترض ما يأتي:
أ- أن الحجاج في جملتهم لا يرجعون في أدائهم النسك حصراً إلى القادة الدينين الذين يقدمون معهم ويتحملون تكاليف نفقتهم.
ب- أنهم يسمعون هذه الفتاوى، ويفهمون اللغة التي تقدم بها.
ج- أن الصورة النمطية للوهابية ودعاتها الرسميين لدى عوام المسلمين قد تغيرت عن الصورة البالغة التشويه إلى صورة أقرب للواقع وأكثر جاذبية للاستماع لدعاتها.

ولكن هذه الافتراضات غير واردة، وبصفة خاصة فإن الصورة النمطية المشوهة للوهابية بعد أن دخل في المعادلة عامل جديد يتمثل في الدعاية الأمريكية واليهودية بإلحاح الإعلام القوي، وربط الوهابية بالإرهاب الذي تقوم الآن ضده حرب عالمية، لا يحتمل أن تكون تغيرت إلى الأفضل.

أغلب الظن أنه حتى لو لم ينبس الدعاة الرسميون ببنت شفة عن مسألة الرمي قبل الزوال، لما كان ذلك موجبًا للاطمئنان إلى أن سببًا مهمًا لمثل كارثة الثاني عشر من ذي الحجة قد زال.

ثانياً: الافتراش:

لا موجب للظن بأن المفترشين الضاحين تحت الشمس الموجودين طوال يومين سابقين في ظروف أقل ما يقال عنها أنها غير مريحة سوف يكونون أقل حماساً من حجاج الخيام المكيفة للخروج من منى والرمي قبل الزوال، ولا تظهر الأفلام التي صورت الكارثة ما يدل على أن الحجاج من غير حجاج الخيام كانوا عاملاً مؤثرًا في وقوع الكارثة.

وعندما كان الحديث عن الكارثة يتعرض للمفترشين، كان في الغالب يقصد نوعاً أخر من المفترشين: هم الحجاج الذي كانوا يستعدون لحلول وقت الزوال ليرموا بعد الزوال، وبدل بقائهم واقفين جلسوا مفترشين في انتظار اللحظة المقصودة.

المفترشون بالمعنى الذي يجرى على الألسنة هم عدد ضخم يزيد عن ثلثي مجموع الحجاج وهؤلاء لكي يقضوا واجب المبيت في منى، فإن أغلبهم يكتفي بقضاء ساعات من الليل جالسًا  في أي مكان يسعه للجلوس (ولو كان على صندوق الزبالة!) وبمجرد قضائه الحد الأدنى من الوقت الكافي لأداء الواجب يغادر منى، ويرجئ الرمي في الغد إلى وقت مناسب وليس هو بالضرورة لحظة الزوال.

هناك من يرى أن المفترشين في الساحات والطرق يعوقون تدفق المشاة المتجهين إلى الجمرات فيساهمون في تقليل الفرصة لارتفاع كثافة الجماهير المتحركة أي أن هناك من يرى أن وجود المفترشين عامل عكسي لارتفاع كثافة الجمهور المتحرك.

وعلى كل حال فعندما نتخلص من تأثير الرأي الشائع المتكرر على كل لسان والذي يتهم المفترشين (بدون أي دليل علمي) بأنهم سبب الكارثة، فإن القول بأن الافتراش سبب الكارثة يكون له وزن مختلف.

ثالثاً: زيادة أعداد الحجيج.

لسوء الحظ عند تعيين أسباب الوفيات الناتجة عن الزحام لا تجري المقارنة بين جميع حالات كوارث الوفيات بسبب الزحام لمحاولة تبين ما إذا كانت توجد صفات مشتركة بين الحالات سواء من ناحية الزمان أم المكان أم حجم الحجاج.

وقد رجعت إلى إحصاءات الحجاج من الداخل والخارج في مدة 37 عاماَ أي منذ عام 1390 هـ حتى العام المنصرم 1426 هـ وتبين من المقارنة أن وقائع الوفيات بسبب الزحام التي اعتبرت كارثة تتلخص فيما يأتي:
1-في عام 1410 هـ توفي 1400 حاج في نفق المعيصم يوم 10/12.
2-في عام 1414 هـ توفي 470 حاجاً قرب الجمرة الصغرى يوم 10/12.
3-في عام 1417 هـ توفي 24 حاجاً عند مدخل الجسر (شمال شرق) يوم 12/12.
4-في عام 1418 هـ توفي 117 حاجاً عند مدخل الجسر يوم 12/12.
5-في عام 1419 هـ توفي 15 حاجاً في شارع سوق العرب يوم 10/12.
6-في عام 1421 هـ توفي 35 حاجاً عند جمرة العقبة يوم 10/12.
7-في عام 1424 هـ توفي 251 حاجاً عند جمرة العقبة يوم 10/12.
8-في عام 1426 هـ (الكارثة موضوع الحديث).

بمقارنة الحالات فيما عدا الحالتين (4،3): لا تتفق الحالات من حيث الزمان والمكان، وفيما عدا الحالتين (4،3) لا مجال للقول بأن الفتاوى كان لها أثر، وفي الحالتين (6،7) وجد اتفاق من حيث الزمان والمكان ولكنه يختلف عن الحالتين (4،3).

وبالمقارنة لا يظهر صلة بين الحوادث وزيادة أعداد الحجاج بل يكاد الأمر يكون بالعكس ففي عام 1410 هـ، حينما وقعت كارثة نفق المعيصم كان عدد حجاج الخارج 827236 ومجموع الحجاج 294،483،1 وهذا العدد أقل في كلا الرقمين من أرقام اثنتي عشرة سنه سابقة -عدا اثنتين- وأقل من أرقام ثلاث سنوات لاحقة كلها لطف الله بالحجاج فلم تحدث فيها وفيات كارثية بسبب الزحام.

وفي عام 1414 هـ، حينما وقعت كارثة الجمرة الصغرى التي مات فيها 470 حاجاً، كان عدد حجاج الخارج أقل من عددهم في كل السنوات اللاحقة وهكذا من الصعب أن نجد كارثة من كوارث الزحام وقعت في موسم يتميز بأن عدد الحجاج فيه أكثر من غيره.

وبالعكس وجدت مواسم لم تقع فيها وفيات غير عادية بسبب الزحام مع أنها تميزت بزيادة عدد الحجاج بشكل ملحوظ وفي مواسم أخرى وقعت كوارث أخرى لا صلة لها بالزحام في مثل موسم عام 1417 هـ الذي وقع فيه الحريق الكبير في منى يوم 8/12، وفي هذا الموسم لم يكن عدد حجاج أكثر منهم في السنوات الأخرى.

وفي مواسم أخرى اجتمعت كل الظواهر: الزيادة الكبيرة في عدد الحجاج، والافتراش، والفتاوى المنتقدة، بل إضافة إلى ذلك الصغر النسبي للطاقة الاستيعابية للمشاعر دون أن تحدث أي مشاكل ومن أمثلة ذلك موسم 1403 هـ حيث يبلغ مجموع عدد الحجاج قدراً لم يبلغه في أكثر من عشرين سنة لاحقة، وكانت الطاقة الاستيعابية للحرم المكي وقتها 46% من الطاقة الاستيعابية الحالية.

الأسباب المادية الظاهرة لنا، والتي نضعها في حسابنا يكون وراءها أسباب غيبية، هذه الأسباب لا نستطيع أن نضع لها أوزانًا رقمية في حساباتنا، ولسنا مكلفين بذلك، ولكن في مجال مثل مجال الحج يجب حتى وإن لم نستطيع أن نضع لها أوزانًا رقمية أن لا تغيب عن اعتبارنا في تقييمنا للأمور وحكمنا عليها.

فمثلاً:
نعرف من سنن الله أن الإنسان الذي يعرف الله عند ما يتجاوز قدر نفسه باستشعار العجب ورؤية العمل، والإعجاب بحوله وقدراته وإعلان ذلك تمدحاً به وفخراً، فإنه يجرى تذكيره بحاله وحقيقة حوله وقوته، وحدود قدراته وإمكانياته.

وأخشى أن المواسم التي وقعت فيها الكوارث صاحبها نوع مبالغة في الإعجاب بالذات ورؤية العمل.

فكانت هذه الكوارث تذكيراً لنا بأن نستشعر الفقر إليه ونقر بعجزنا وضعف حيلتنا ونعلم أنه لا حول ولا قوة لنا إلا به.

من ناحية أخرى فإن الجزاء الإلهي على مصادمة أوامر الله قد تظهر في صور شتى، والحق أن منع مسلم أي مسلم وصده عن المسجد الحرام بأي صورة وفي غير حالة الضرورة الواقعية -يمكن أن يكون موجباً للقضاء الإلهي- الذي يختار الله فيه بعض عباده شهداء ويذكر به عباده الآخرين بضعف حيلتهم وقصور إدراكهم أن الحكيم الخبير عندما يرغب عباده  في الحج والعمرة ويدعوهم إلى المتابعة بينهما لا يتوقع أن الاستجابة لذلك سوف ترتب استحالة أدائه، أو الحرج في ذلك.

وفي الموسم الماضي فوجئ الحجاج في جنوب أفريقيا وقرقيزيا وربما غيرهما بامتناع السفارة السعودية من منح حجاج البلدين التأشيرات بالعدد الذي اعتاد البلدان أن يحصلا عليه بحجة أنه أعيد حساب (الكوتا) للبلدين فتبين أنها تقل كثيراً عن العدد الذي كان البلدان يحصلان عليه في المواسم الماضية، وكان هذا بعد أن تهيأ الحجاج للحج، ورتبوا أمورهم على السفر بقصده.

وقد وصف لنا الوضع المأساوي للحجاج بخاصة في جنوب أفريقيا حيث كان البكاء والنحيب والصراخ واختلاط مشاعر الحزن والغضب والنقمة على حكومة المملكة العربية السعودية.

وكان هذا نوعاً من الظلم. لم يكن له من داع إلا التزمت والتطرف في التطبيق البيروقراطي لنظام بشري يشك في حكمته.

ونعلم أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب.

مع الأسف يبدو أن الانشغال بالأسباب غير المباشرة كان سبباً في عدم التركيز على الأسباب المباشرة والبحث في كيفية التعامل معها ومعروف أن السبب المباشر لكل كوارث الزحام أحد أمرين: الحركة المتعارضة، وارتفاع كثافة الجمهور المتحرك.

فكان ينبغي أن يكون الاهتمام بالسبب المباشر أكبر من الاهتمام بالأسباب غير المباشرة التي هي بحكم طبيعتها غير قابلة للحصر.

الاقتراح:

بادئ ذي بدء يجب أن نكون على ذكر من موجبات التقوى عند إعادة تنظيم الأمور المتعلقة بالعبادة، ومن أهم هذه الموجبات أن نحاول بقدر الإمكان أن نتفادى مصادمة أوامر الله وما ورد على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من حث وترغيب على الحج والعمرة، والمتابعة بينها.

ولابد أيضاً من الاقتصاد في التمدح بجهودنا وقدراتنا، وإظهار العجب بها، والغفلة عن استشعار الفقر إلى الله، والاستعانة به، وإعلان ذلك.

ثم أن يتم التركيز على معالجة الأسباب المباشرة لحوادث الزحام والاستعانة في ذلك بخبرات المختصين، وقد صار علم الحركة علماً يحضى بالعناية في الجامعات ومراكز البحث العلمي، ونبغ فيه علماء وخبراء، ينبغي الاستفادة منهم.

وبعد هذا فإذا عرف أن التنظيم لأي مشروع يجب أن يتم بمراعاة أهدافه ومقاصده، لأن وظيفة التنظيم هي وظيفة الوسيلة إلى الهدف وليست هي الهدف فلابد من التعرف على مقاصد الحج ومراعاتها وأولى من ذلك تجنب الإخلال بها ومن مقاصد الحج التي علمت بالنص أو بالاستنباط من أحكام الحج والعمرة ما يأتي:

(أ) مرور المسلم بتجربة ترك ما اعتاد عليه من الترفه، وليونة الحياة، وعندما فرض الحج لأول مرة كانت المرأة التي اعتادت المحافظة على نضارة وجهها ونعومة كفيها بلبس النقاب والقفازين تؤمر بترك ذلك وأن تسير ضاحية للشمس معرضة للريح والغبار في مسافة سفر عشرة أيام من ذي الحليفه إلى أن تقضي نسكها في مكة، ووُصف الحجاج في الحديث القدسي بأنهم يأتون شعثًا غبراً ضاحين.

(ب) رياضة النفس على التواضع وكسر النفس وقد جاء في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم أنه حج على رحل رث وقطيفة تساوى أربعة دراهم.

(ج) الوعي بالمساواة بين البشر وإدراك زيف الفروق المصطنعة بينهم، بما يوجب إلف المسلم للمسلم وأنسه به، وبناء علاقته به وفق ذلك.

(د) المساعدة على إدراك حقائق الحياة، ورؤيتها كما هي حيث يرى الإنسان الأشياء كما سيراها عند الموت، عندما يرى الأشياء التي كان يعتقد أنها مهمة وثمينة ولا يستغني عنها يراها على حقيقتها ليست مهمة ولا ثمينة ويمكن الاستغناء عنها.

 بالطبع لا يقترح أن يكون كل تنظيم للحج وافيًا بهذه المقاصد محققاً لها لأن ذلك في الغالب مما لا تحتمله عقول الناس وإنما ينبغي محاولة أن يكون التنظيم أقرب إلى هذا المثال وأن يتفادى بقدر الإمكان الإخلال به.

وبالله التوفيق

المصدر: موقع رواق

صالح بن عبد الرحمن الحصين

الرئيس العام لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوي (سابقا)، عضو هيئة كبار العلماء، وعضو المجلس الرئاسي لمركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني بالمملكة العربية السعودية.