كفالة اللاجئين وخلافة المجاهدين، أم حج النافلة؟
أمة يحسبون أنهم يحسنون صنعا ويتقربون إلي الله بالأعمال الصالحة ويتركون إخوانهم المسلمين مشردين في بقاع الأرض ومقدساتهم تنتهك وأعراضهم تستباح علي يد الصهاينة وعملائهم من حكام ونظم استبدادية فهم الأخسرون أعمالا والله سائلهم يوم القيامة عن هؤلاء.
ذكر الإمام أبو حامد الغزالي في الإحياء: "أن رجلا جاء يودع بشر بن الحارث الحافي؛ وقال: قد عزمت على الحج فتأمرني بشيء؟
فقال له: كم أعددت للنفقة؟ فقال: ألفي درهم.
قال بشر: فأي شيء تبتغي بحجك؟ تزهدا؟ أو اشتياقا إلى البيت؟ أو ابتغاء مرضاة الله؟
قال: ابتغاء مرضاة الله.
قال: فإن أصبت مرضاة الله تعالى وأنت في منزلك وتنفق ألفي درهم وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى؛ أتفعل ذلك؟
قال: نعم.
قال: اذهب فأعطها عشرة أنفس؛ مديون يقضي دينه؛ وفقير يرم شعثه؛ ومعيل يغني عياله؛ ومربي يتيم يفرحه؛ وإن قوي قلبك تعطيها واحدا فافعل؛ فإن إدخالك السرور على قلب المسلم؛ وإغاثة اللهفان؛, وكشف الضر؛ وإعانة الضعيف أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام. قم فأخرجها كما أمرناك وإلا فقل لنا ما في قلبك.
فقال: يا أبا نصر سفري أقوى في قلبي.
فتبسم بشر رحمه الله وأقبل عليه وقال له: المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات اقتضت النفس أن تقضي به وطرا، فأظهرت الأعمال الصالحات وقد آلى الله على نفسه أن لا يقبل إلا عمل المتقين".
كم مليون مسلم يحجُّون كل عام حجة نافلة؟ معظم الحجيج ليست الحجة الأولي لهم.
وكم مليون مسلم لاجئ ألجأته الحروب علي كراسي الحكم إلي التسول والغرق في سواحل أوروبا؟ ولقد رأيتم العائلات من أطفال ونساء وشباب جثثا هامدة علي السواحل.
والمسجد الأقصى الأسير تدنسه الصهيونية الغاشمة وتحارب المرابطين فيه؛ وأهل غزة في محبسهم الكبير يحاصرون حتى من بني دينهم وعروبتهم؛ فملايين اللاجئين وملايين من أسر الشهداء والفقراء والأرامل والمساكين وأطفال الشوارع والمشردين لم تمتد يد العون لهم لتنقذهم من فقرهم ومسكنتهم وحاجتهم؛ بينما المسلمون تلتهب حناجرهم بالتلبية كل عام حول الكعبة ومنهم من أدمن الحج والعمرة في كل عام!
لأنه أوَّل ما يتبادر إلى أذهان البعض أن العمل الصالح هو العمل التعبدي والخيري، كالصلاة والصيام وعمارة بيوت الله والذكر وقراءة القرآن، وكل هذا يدخل في باب العمل الصالح وليس هذا تقليل من شأن الحج فهو فريضة الله وركن الإسلام.
ولو صح الفهم وعرفوا فقه الأولويات؛ لعلموا أن إطعام البطون الجائعة وكسوة الأجساد العارية وإيواء النسمات المشردة وكفالة الأيتام وإيواء اللاجئين وتخفيف آلام المرضى وتعليم الجاهلين وتشغيل العاطلين؛ أرضى لله رب العالمين.
فهناك فارق كبير بين مخترع ومبتكر مسلم أنقذ المرضي وخفف عن الناس وسد حاجة محتاج؛ ومعتمر يذهب إلى بيت الله الحرام كل سنة أو سنتين. {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:19].
وإلى هذا المعنى أشار العالم التابعي الجليل عبد الله بن المبارك حينما بعث إلى الفُضَيْل بن عياض -والملقب بعابد الحرمين- برسالة وهو في ساحة الجهاد يقول فيها:
يَا عَابِدَ الْحَرَمَيْنِ لَوْ أَبْصَرْتَنَا *** لَعَلِمْتَ أَنَّكَ فِي الْعِبَادَةِ تَلْعَبُ
مَنْ كَانَ يَخضِبُ خَدَّهُ بِدُمُوعِهِ *** فَنُحُورُنَا بِدِمَائِنَا تَتَخَضَّبُ
أَوْ كَانَ يُتْعِبُ خيله في باطل *** فخيولنا يَوْمَ الصَّبِيحَةِ تَتْعَبُ
رِيحُ الْعَبِيرِ لَكُمْ وَنَحْنُ عَبِيرُنَا *** وَهَجُ السَّنَابِكِ وَالْغُبَارُ الْأَطْيَبُ
وَلَقَدْ أَتَانَا مِنْ مَقَالِ نَبِيِّنَا *** قَوْلٌ صَحِيحٌ صَادِقٌ لَا يَكْذِبُ
لَا يَسْتَوِي وَغُبَارُ خَيْلِ اللَّهِ فِي *** أَنْفِ امْرِئٍ وَدُخَانِ نَارٍ تَلْهَبُ
هَذَا كِتَابُ اللَّهِ يَنْطِقُ بَيْنَنَا *** لَيْسَ الشَّهِيدُ بِمَيِّتٍ لَا يَكْذِبُ
فَلَمَّا قَرَأَهُا الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ذَرَفَتْ عَيْنَاهُ وَحدَّث: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ دُلَّنِى عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ. قَالَ: « » (رواه البخاري)، قَالَ وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِنَّ فَرَسَ الْمُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ فِى طِوَلِهِ فَيُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٍ. (إحياء علوم الدين).
فأمة يحسبون أنهم يحسنون صنعا ويتقربون إلي الله بالأعمال الصالحة ويتركون إخوانهم المسلمين مشردين في بقاع الأرض ومقدساتهم تنتهك وأعراضهم تستباح علي يد الصهاينة وعملائهم من حكام ونظم استبدادية فهم الأخسرون أعمالا والله سائلهم يوم القيامة عن هؤلاء.
إن واجب الوقت يقتضي علينا نحن المسلمين قبل أن نكون حريصين علي الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة أن نطوف ونسعى في حاجة الأمة والارتقاء بها سياسيا واجتماعيا وعسكريا. ولو وُجِّهت هذه النفقات إلي النهوض بالأمة لأصابت صلاح الدنيا بالدين.
ولذلك قال ابن مسعود في آخر الزمان يكثر الحاج بلا سبب يهون عليهم السفر ويبسط لهم في الزرق ويرجعون محرومين مسلوبين يهوي بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار وجاره مأسور إلى جنبه لا يواسيه.
وفي الإحياء أيضا: "وفرقة أخرى من أرباب الأموال اشتغلوا بها يحفظون الأموال ويمسكونها بحكم البخل ثم يشتغلون بالعبادات البدنية التي لا يحتاج فيها إلى نفقة كصيام النهار وقيام الليل وختم القرآن وهم مغرورون لأن البخل المهلك قد استولى على بواطنهم فهو يحتاج إلى قمعه بإخراج المال فقد اشتغل بطلب فضائل هو مستغن عنها ... ولذلك قيل لبشر إن فلانا الغني كثير الصوم والصلاة فقال المسكين ترك حاله ودخل في حال غيره وإنما حال هذا إطعام الطعام للجياع والإنفاق على المساكين فهذا أفضل له من تجويعه نفسه ومن صلاته لنفسه من جمعه للدنيا ومنعه للفقراء".
روى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِى السَّفَرِ فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ - قَالَ - فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً فِى يَوْمٍ حَارٍّ أَكْثَرُنَا ظِلاًّ صَاحِبُ الْكِسَاءِ وَمِنَّا مَنْ يَتَّقِى الشَّمْسَ بِيَدِهِ - قَالَ - فَسَقَطَ الصُّوَّامُ وَقَامَ الْمُفْطِرُونَ فَضَرَبُوا الأَبْنِيَةَ وَسَقَوُا الرِّكَابَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « » والمراد: أن لهم من الأجر مثل ما للصوام أو أكثر؛ لأنهم بعملهم أعانوا الصوام على صومهم.
روى البخاري ومسلم عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضى الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « ».
_____________
أبو أنس
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف
- التصنيف:
- المصدر: