التوحيد والأنبياء عند العقاد

منذ 2009-03-17

والنبوة عند العقَّاد بدأت بإبراهيم عليه السلام، فهو أبو الأنبياء جميعهم عنده، بمعنى أنه كان أولهم، ولا أنبياء عنده إلا عدداً قليلاً من ذرية إبراهيم ـ عليه السلام ـ يعدون على أصابع اليد الواحدة هم من كانوا في (مدن القوافل)....

بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

في كتاب (الله) ـ جل جلال ربنا وتقدس ـ يبحث العقاد عن (نشأة العقيدة الإلهية، منذ اتخذ الإنسان رباً إلى أن عرف الله الأحد، واهتدى إلى نزاهة التوحيد) (1)!!

والإنسان الأول عند العقاد كان همجياً (2) بدائياً في كل شيء، يقول: "ترقى الإنسان في العقائد كما ترقى في العلوم والصناعات، فكانت عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه وصناعاته، فليست أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوئل الأديان والعبادات... وينبغي أن تكون محاولات الإنسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم والصناعات" (3)!!

بدأ كتابه بهذه الكلمات وختم الكتاب بها، فالكتاب كله لتقرير أن الإنسان الأول كان همجياً، وكان على الشرك ثم تعرَّف تدريجياً على التوحيد كما تعرف على الصناعات!!

والذي نعرفه أن الإنسان الأول هو أدام ـ عليه السلام ـ خلقه الله بيده {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} [سورة ص: 75]، {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [سورة السجدة: 9]، وعلم الله آدم الأسماء كلها {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 31-33]، واصطفاه الله من خلقه، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]، فكان نبياً ولم يكن همجياً مشركاً كما يفتري عباس العقاد، في الحديث عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: قُلْتُ: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَأَيُّ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ أَوَّلَ"، قَالَ: «آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَام»، قَالَ قُلْتُ: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَوَنَبِيٌّ كَانَ آدَمُ؟"، قَالَ: «نَعَمْ، نَبِيٌّ مُكَلَّمٌ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ رُوحَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ يَا آدَمُ قُبْلًا» (4).

هذا هو الإنسان الأول: خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وعلمه حتى فاق الملائكة فيما يخصه ـ عليه السلام ـ ثم اصطفاه على العالمين فكان نبياً مكلماً، والعقاد يقول همجيٌ.. مشركٌ..!!، كأن العقاد لم يقرأ كتاب الله، أو كأن العقاد لا يصدق ما يُتلى في كتاب الله!!

وبعد هذه المقدمة التي يقرر فيها عباس العقاد أن الإنسان الأول كان همجياً مشركاً يبحث عن التوحيد كيف اهتدت إليه البشرية؟، أو كيف تعرفت البشرية على التوحيد؟... يناقش عباس العقاد بواعث الدين.. هل هي (الأسطورة)، أو (ملكة الاستحياء)، أو (السحر)، أو هل نشأت العقيدة من (إحساس الإنسان بالضعف) أم أنها (ظاهرة اجتماعية).. أو (حالة مرضية)، أو (خليط من الجماعية والفردية)، كما يزعم أهل الفلسفة؟!!

ثم يرفض أن ينفرد أيٌّ من هذه التعليلات، ويعطي تفسيراً آخر، يقول بأن منشأ العقيدة عند البشر يتعلق بما أسماه (الوعي الكوني) (5)، ويعرفه بأنه الحواس النفسية عند الإنسان، يقول بأن (الوعي الكوني) ملكة قابلة للترقي، ويسند إليها منشأ العقيدة، ويقول بأن ذلك (حقيقة يستلزمها العقل ويؤكده المشاهد في كل زمن وفي كل موطن وفي كل قبيل)!!

و(الوعي الكوني) غير (العقل) عند عباس العقَّاد، يُفرِّق بينهما بأن أحدهما (الوعي) أشمل من الآخر (العقل)، وأن (الوعي الكوني المركب في طبيعة الإنسان هو مصدر الإيمان بوجود الحقيقة الكبرى التي تحيط بكل موجود) ويعني بالحقيقة الكبرى التي تحيط بكل موجود يعني بها الله جل جلاله، ويقول: "ونحن إذا رجعنا إلى تاريخ الإيمان في بني الإنسان وجدنا أن اعتماده على (الوعي) الكوني أعظم جدا من اعتماده على القضايا المنطقية والبراهين العقلية، وأنه أقوى جداً من كل يقين يتأتى من جانب التحليل والتقسيم"، ويقول: "البراهين جميعاً لا تغني عن الوعي الكوني في مقاربة الإيمان بالله والشعور بالعقيدة الدينية". ويقول: "وجعل الهدى من الله ولكنه من طريق العقل والإلهام بالصواب"

هذا هو مصدر الإيمان عند العقاد.. (الوعي الكوني).

و(الوعي الكوني) الذي يتكلم عنه العقاد هو (العبقرية) في استعمال العقاد، فحالَ حديثه عن الصوفية في كتاب (الله) أعطي وصف العبقرية الدينية للمتصوفة، فالصوفية عنده هي العبقرية الدينية، وما ذاك إلا لأن هؤلاء المتصوفة نمى عندهم (الوعي الكوني) فانكشف لهم ما وراء الحجب فعلموا الحقيقة المطلقة، ويضرب الأمثال بالحلاج وبن عربي والعدوية (6)!!

فالعقاد يرى الأنبياءَ بشراً قد اكتملت فيهم هذه الملكة (الوعي الكوني) أو (العبقرية)، وبهذا عرفوا عن الله وبلغوا الخلق!!

والعقَّادُ يرى الدين الإسلامي أفضل الأديان لأنه جاء متأخراً بعد أن نمى (الوعي الكوني) عند الإنسان وبعد أن نمت المجتمعات!!

فالبشرية عند العقاد كانت على الشرك ثم عرفت التوحيد، ولا تحسب أنه التوحيد الذي نعرفه بل توحيداً آخر لن تجده إلا عند العقاد، ودعني أعرضه عليك ثم نناقش (الوعي الكوني)، أو (العبقريات) التي قدمها لنا عباس العقاد وفرح الناس بها.

التوحيد عند العقاد:
يعرف عباس العقاد التوحيدَ فيقول: "التوحيد توحيدان: توحيد الإيمان بإله واحد خلق الأحياء وخلق معهم أرباباً آخرين، وتوحيد الإيمان بإله واحد لا إله غيره، ولم تعرف أمة قديمة ترقت إلى الإيمان بالوحدانية على هذا المعنى غير الأمة المصرية، فعبادة (أتون) قبل ثلاثة وثلاثين قرناً غاية التنزيه في عقيدة التوحيد" (7).

وذكر في بداية كتابه (الله جل جلاله) أن من أطوار العقيدة الإلهية طور الوحدانية، ويعرفه بأنه إله أكبر لكل (الآلهة)!!

يرى العقاد أن من التوحيد أن يكون الإله ومعه بعض الأرباب!!

ويرى أن الذين كانوا يعبدون آتون (إله) الشمس هم أرقى أمه في التوحيد!!

وعنده أن أهل فارس عرفوا التوحيد بعد اختلاطهم بالمسلمين، ويذكر أن هذا التوحيد هو الاجتماع
على إله واحد هو إله الخير (يزدان)، ولا يشركون معه (أهرمن) كما فعل أسلافهم الأقدمون!!

هذا هو التوحيد الذي تعلموه من المسلمين كما يقول عباس العقاد (8)، وهو كاذب!!
ومثل هذا يقوله على الفراعنة، وعلى مشركي يهود فيما بعد السبي.

وفي مكان آخر يتكلم عباس العقاد عن طورين.. أو كما يقول هو عَدْوَتَين، عَدْوَةٌ كان فيها الإنسان همجياً مشركاً لا يعرف التوحيد، وعدوة عرف فيها التوحيد، ويقول بأن عقيدة بني إسرائيل كانت مرحلة فاصلة بين هذين الطورين أو هاتين العدوتين(9)!!

أي أن كل الأمم قبل بني إسرائيل ما عرفت التوحيد، بل وبنوا إسرائيل أنفسهم عند العقاد كانوا وثنيين، بقيت فيهم الوثنية من إبراهيم ـ عليه السلام ـ إلى ما بعد موسى ـ عليه السلام ـ ولم يأتهم التوحيد إلى قبيل ظهور المسيح بقرون بسيطة!!

ويستدل بعبادة عجل الذهب في سيناء على بقاء الوثنية واستمرارها في بني إسرائيل من قبل إبراهيم ـ عليه السلام ـ إلى ما بعد موسى ـ عليه السلام ـ (10)!!

بل ويقول ما هو أشد من هذا نكراناً عند العقلاء، يقول عن بني إسرائيل: "فعُبَّادِ [يهواه] لم يكونوا ينكرون وجوده ولا ينكرون وجودَ غيره، وإنما كان هو إلههم المفضل على غيره من الآلهة، كما كانوا هم الشعب المفضل على الشعوب، فالأرباب الأخرى عندهم موجودة كما يوجد إلههم [يهواه].. (11) ولكنها لا تستحق منهم العبادة لأنها أرباب الغرباء والأعداء. وكل عبادة لها فهي من قبيل الخيانة العظمى وليست من قبيل الكفر كما فهمه الناس بعد ذلك، وغاية ما في الأمر أن طاعة الآلهة الغريبة هي كخدمة الملك الغريب.. نوع من العصيان والخيانة... لهذا لم يشغل أنبياء التوراة السابقون بإثبات وجود [يهواه] أو بإثبات وجود الأرباب على الإجمال، وإنما كان شغلهم الأكبر أن يتجنبوا غيرة [يهواه] وغضبه وأن يدفعوا عن الشعب نقمته وعقابه. ولم يكن له عقاب أشد وأقسى من عقابه لأبناء إسرائيل كلما انحرفوا إلى عبادة إله آخر، من آلهة مصر أو بابل أو كنعان" (12).

وهذا عجيب.. وكأن العقاد لا يقرأ كتاب الله!!، أو وكأن العقاد لا يصدق ما جاء في كتاب الله!!

إسرائيل هو يعقوب ـ عليه السلام ـ وبنوا إسرائيل هم أبناؤه (13)، وكان نبياً موحداً، وأبنائهم كانوا مؤمنين موحدين قيل بنبوتهم، وكان منهم يوسف ـ عليه السلام ـ نبي من أنبياء الله، وأكبر أنبياء بني إسرائيل وأكثرهم أثراً فيهم وفي التاريخ قبل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو موسى بن عمران، وعندنا أنه كان نبياً مرسلا يأتي يوم القيامة ومعه السواد العظيم من المؤمنين الموحدين يدخلون جنةَ ربِّ العالمين، في الحديث «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ وَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ فَقِيلَ هَذَا مُوسَى فِي قَوْمِهِ» (14)، وبعد موسى ـ عليه السلام ـ «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ» (15)، «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ» (16).

لا يرى العقاد أيَّا من هذا ويمضي ليقول أنهم كانوا مشركين لم يعرفوا التوحيد إلا بعد ذلك بقرونٍ عديدة!!

والتبس الأمر على العقاد، فبنوا إسرائيل طرأ عليهم الشرك كما غيرهم من الأمم، ولم يخل زمان من نذير يذكر الناس بأيام الله، ولم تخل أمة من رسول يتلو عليها آيات ربه، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]، و(يهوه) الذي يتكلم عنه العقادُ ظهر في المشركين من بني إسرائيل، ولم يكن هو معبود بني إسرائيل كلهم من أبيهم إبراهيم إلى عيسى ـ عليه السلام ـ والذين جاءوا من بعده، وإنما عبده المشركون منهم فقط أولئك الذين حرفوا الكتاب، وعُرِفَ عند يهود وعند غير يهود من الوثنين ممن عاصروهم أو سبقوهم أو لحقوهم (17).

فعَبَدَتُ (يهوه) هم المشركون من بني إسرائيل، وهم الذين كتبوا الكتاب بأيديهم وقالوا هذا من عند الله، وما هو من عند الله بل قالوا على الله الكذب وهم يعلمون. وظن العقاد أن كل بني إسرائيل بما فيهم الأنبياء عبدوا (يهوه)!!

والعقاد متردد كما هي عادته في كل ما يقدم، ففي بداية كتاب (إبراهيم أبو الأنبياء) (18) يقرر في المقدمة أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ علَّم الناس التوحيد (إن دعوة الخليل قد اقترنت بالتوحيد)، ويصرح بأنه أول نبي(19) ـ وهو خطئ كما قدمنا ـ وبعدها بقليل يقرر عكس ذلك كله فيقول بأن البشرية عرفت التوحيد قبل إبراهيم ـ عليه السلام ـ ولكنها لم تعرف الأنبياء، وإنما عرفت التوحيد قبل إبراهيم ـ عليه السلام ـ من الكهان في المعابد والهياكل، ويسمي ما قبل إبراهيم ـ عليه السلام ـ بعصور الكهانات والهياكل!!

وكل ذلك خطأ، وكل ذلك عكس ما قدَّمه في كتابه (الله)!!

وأمر (يهواه) متردد العقاد ففي كتاب (إبراهيم أبو الأنبياء) يذكر العقاد أن (يهواه) إله يهود المزعوم (كان معروفاً عند قبائل سوريا الشمالية بل إن أسماء الآلهة كانت واحدة عند الشام وفلسطين واليمن والعراق) (20) وهذا نقد لما قرره في كتاب الله جل جلاله.

ومتردد في حديثه عن بني إسرائيل فحيناً يقرر بأن بني إسرائيل كانوا على الشرك ولم يعرفوا التوحيد إلا قبيل ظهور المسيح عليه السلام. ثم يعترف العقاد في ذات الكتاب ـ وهو يتكلم عن تأثر اليهود بالفلسفة ـ بأن الأنبياء كثروا في بني إسرائيل!!

النبوة والأنبياء عند عباس العقاد:
عند العقاد أن الأنبياء بعثوا في مدن القوافل فقط (21)، أو المدن التي تكون قريبة من الصحراء حيث تختلط البداوة بالحضارة. وعند العقَّاد أن المدن المتصلة ذات الحضارات القديمة لا تصلح لدعوة الأنبياء، فقط يظهر في المدن الكبيرة الكهان.. أو بالأدق يصلح لها الكهان ولا يصلح لها الأنبياء!!، يقول: "فليست دعوى النبوة بالدعوة التي تشيع وتجتذب إليها الأسماع في مواطن الحضارة القديمة بعد استقرار العمران فيها بعاداته وآفاته مئات السنين أو ألوف السنين... وإذا شاع الفساد في مواطن الحضارة فالمسألة في هذه الحالة مسألة تشريع وقانون أو مسألة تنظيم وتدبير.. فليست بلاد العمران المتصل مهداً صالحاً للرسالة والنبوة" (22).

وعند عباس العقَّاد أن أهل البادية لا يصلحون للرسالات.. تخرج منهم أو تقيم بينهم، فتعرُّفهم على "الحقوق والفضائل وخلائق الصلاح والاستقامة التي ينشرونها باسم الإله ويستمعون وحيها من نذر السماء فذلك من وراء التخيل فضلا عن التفكير فيه" (23).

ويؤكد هذا المعنى فيقول: "فنشأ الحكماء والنساك في الصين والهند على مثال كنفشيوس وبوذا ولم ينشأ فيهم الأنبياء المرسلون والرسل المجاهدون. إذْ كانت أمانة النبوة المجاهدة شيئاً غير أمانة الإصلاح والتعليم" (24).

ويؤكد العقَّاد على أن النبوة بدأت في جنوب العراق حيث كان إبراهيم ـ عليه السلام ـ ثم الشام ثم الحجاز فيقول: "ويطرد الترتيب بزمانه كما يطرد بمكانه فمن أشور إلى حبرون (25) أو بيت المقدس، إلى مدن خليج العقبة إلى مدينة الحجاز المقدسة، وعندها نهاية المطاف"، ويقول بعد ذلك مستنتجاً ومؤكداً: "وإننا لو سلكنا التاريخ الديني طرداً وعكساً، ثم سلكناه عكساً وطرداً، لما كان له من مسلك أقوم وأثبت من بدايته ونهايته بين [أور] في جنوب العراق ومكة في وسط الحجاز".

ماذا يحدث؟

هذا الكلام في سياق استدلال العقاد على وجود الخليل إبراهيم ـ عليه السلام ـ يريد أن يرد أقوال العلمانيين الذين لا يؤمنون بالمصادر الدينية كمصدر تاريخي ، فراح يحدثهم بأن علم (الحفريات)، وأن (البديهيات) العقلية ـ بزعمه ـ على أن الأنبياء كانوا بالمدن التجارية التي تختلط فيها البداوة بالحضارة.. تلك المدن التي تكون على مقربة من الصحراء (مكة)، و (سدوم) (25)، و (مدين)، وحيث أن مُدن النهرين (دجلة والفرات) كانت مدن قوافل، إذاً كان لا بد أن يكون فيها أول نبي، إبراهيم ـ عليه السلام ـ!!

يدلل بهذا على وجود إبراهيم عليه السلام، وهو دليل ساقط في كنهه وساقط في محله الذي يوجه إليه، ومنقوص أينما نظرت إليه، ولا يعنيني مناقشة العقاد من هذه الناحية، وإنما فقط أردت أن أبين نظرة الرجل للنبوة والأنبياء من خلال هذا الطرح.

ولاحظ أنَّ العقاد يرى أن الأنبياء لا يصلحون إلا لهذه المدن، ولا يصلحون لا للبادية ولا للمدن الكبيرة ذات الحضارة!!، ويرى العقاد أن هناك نوعين من الديانات، ديانات الأنبياء و (ديانات) غير الأنبياء، ويقارن بينهما فيقول: "والاختلاف بينها وبين الديانات الأخرى أن النبي لا يعينه أحد ولا ينبعث بأمر أحد، ولكنه ينبعث بباعث واحد من وحي ضميره ووحي خالقه" (28).

ويقارن بين النبي والكاهن فيذكر أن الكاهن يعين والنبي لا يعين، ويذكر أن الكاهن وجهته نظام المجتمع وتقاليد الدولة وما إليها من الظواهر أو الواجبات العامة، والنبي وجهته سريرة الإنسان!! (29)، وأضف إلى ذلك ما تقدم من أن النبي يبعث في مدن القوافل أمّا الكهان فيبعثون في المدن الكبرى ذات الحضارات!!، وأضف إلى ذلك ما أشار إليه بقوله: "إذ كانت أمانة النبوة المجاهدة شيئاً غير أمانة الإصلاح والتعليم"، فالأنبياء لشيءٍ آخر غير الإصلاح والتعليم!!

وهذا الكلام لا تجده ولا تسمع به إلا عند العقاد!!، لا يقول به مسلم ولا نصارني ولا يهودي.. بل ولا وثني، فقط تسمعه من العقَّاد المتفرد دائماً!!، ولا تتعب نفسك بالبحث عن مصدره فلن تجد، إنه العقاد محبوس في شقة ضيقة يستضيء (بلمبة جاز) لا يبين ضوئها الكلمات، وجهده في الغريب المريب، ولذا تجد تخبيطاً لا تدري من أين جاء به؟!

الكهانة كانت موجودة في البادية وفي الحضر.. في المدن الكبرى وفي المدن الصغرى، في كل مكان حلَّ فيه الإنسان.. عند العرب وعند الهنود وعند الرومان وعند أهل اليونان وأهل السودان، وليس فقط في المدن الكبرى كما ادعى العقَّاد، وكهان الجزيرة العربية، وكهان الفراعنة والحضارات القديمة يعرفهم ويكتب عنهم كل من خطَّ بيدان أو تكلم بلسان!!

والأنبياء عمت دعوتهم الجميع، لم تترك بيت مدر ولا وبرٍ إلا دخلته، وموسى ـ عليه السلام ـ بُعث في أقوى حضارة في زمانه حيث الكهان!!، ومن قبله إبراهيم عليه السلام كان في بلد ذات حضارة أيضاً. وهود عليه السلام بعث في قوم هود وكانوا يبنون بكل ريع آية يعبثون، ويتخذون مصانع لعلهم يخلدون، وإذا بطشوا بطشوا جبارين، وصالح كان في قوم ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين.. الخ؛ فليس بصحيح أن ما يذهب إليه العقَّاد من أن الرسالات محصورة ومحدودة بحدود مدن القوافل، لا مدن الحضارات!!

والله يقول: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]، والله يقول: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36]، والله يقول: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 44]، والله يقول: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} [الملك: 8-9]، والله يقول: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [سورة الرعد: 7]، والله يقول: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} [يونس: 47].

كل هذا والعقاد يردد في أكثر من مكان بأن هناك مجتمعات خالية من الأنبياء، وأن الأنبياء فقط لمدن القوافل، والكهان والسحرة للمدن ذات الحضارات!!

وحال الكاهن لا يحتاج لبيان، فحاله كما وصفه خالقه أفاكٌ أثيم ، تتنزل عليه الشياطين، {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221-222] (30)، والكهان هم سدنةٌ الأصنام، طواغيت يتحاكم الناس إليهم.

والنبوة عند العقَّاد بدأت بإبراهيم عليه السلام، فهو أبو الأنبياء جميعهم عنده، بمعنى أنه كان أولهم، ولا أنبياء عنده إلا عدداً قليلاً من ذرية إبراهيم ـ عليه السلام ـ يعدون على أصابع اليد الواحدة هم من كانوا في (مدن القوافل).

وعند عباس العقَّاد أن كل الأنبياء كانوا من أولاد إبراهيم وفي ذرية إبراهيم عليه السلام فقط بعثوا، فعند العقاد أن الله اختص الأمم السامية بالنبوات (31)، وفي مكانٍ آخر يخصص أكثر فيقول: "أما ديانات الأنبياء فلا وجود لها في غير السلالة العربية" (32).

وهذا الكلام صحيح إذا كان الحديث على ما بعد إبراهيم عليه السلام ، فالله يقول: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 27]، ولكن العقاد من تلقاء نفسه يتحدث بأن لم تكن نبوة قبل إبراهيم عليه السلام، فَهِمَ أنه أبو الأنبياء، بمعنى أولهم وكلهم لحقوا به إذْ هم أبناءه، وهذا خطأ، وقد سبق أن بينا أن آدم عليه السلام كان نبياً مكلماً، وفي التنزيل أن إدريس عليه السلام كان نبياً {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} [مريم: 56]، وهو قبل إبراهيم عليه السلام، وفي التنزيل أن نوحاً ـ عليه السلام ـ كان نبياً ، {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} [النساء: 163]، وفي التنزيل هود وصالح عليهما السلام، كانوا أنبياء وكانوا قبل إبراهيم عليه السلام.

ولم يكن عدد الأنبياء قليل كما يزعم العقاد بل كان عددهم كثير، وفي الحديث عن أبي ذر رضي الله عنه قال قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ وَفَّى عِدَّةُ الْأَنْبِيَاءِ، قَالَ: «مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا»، وفي القرآن الكريم عدد غير قليل من أنبياء الله موزعون على جنبات المعمورة، في الجنوب (عاد) ـ بسلطنة عمان حالياً ـ وثمود في أعالي الحجاز (شمال المدينة المنورة حالياً) ومدين ـ بالأردن حالياً ـ وقوم لوط ـ بالأردن .. تحت البحر الميت حالياً ـ ، وموسى عليه السلام بمصر... الخ، والعقاد يجعلهم عددا بسيطاً، هم من أرسلوا في (مدن القوافل) بزعمه!!

والأنبياء عند العقاد هم العباقرة، ودعني أعرض على حضراتكم العباقرة عند العقاد، وماذا يتضمن هذا المفهوم الجديد الذي أضافه للفكر الإسلامي.


أبو جلال/ محمد جلال القصاص
مساء السبت 28/2/2009

========================
(1) ص /6 /ط . نهضة مصر. وفي ص 81 يقرر بأن الإنسان اهتدى للتوحيد فقط قبل الميلاد بعشرة قرون أو يزيد قليلاً!!، ويؤكد هذا المعنى في الصفحات التي تليه.

(2) أكثر في هذه الرسالة من استخدام مصطلح (الهمجي الأول)، وأكد هذا المعنى في بداية كتابه (إبراهيم أبو الأنبياء).

(3) ص 6 ط نهضة مصر. وأكد هذا المعنى بكلمات متقاربة في خاتمة بحثه (إبراهيم أبو الأنبياء).

(4) مسند أحمد /21357 .وانظر تفسير ابن كثير 8/540، وانظر السلسلة الصحيحة 6/ 167 حديث رقم (2668)، وانظر السلسلة الصحيحة /2668.

(5) بعد أن استعرض أقوال الفلاسفة في نشأة العقيدة عقد العقاد فصلاً اسماه (الوعي الكوني) عرض فيه ما لخصته في النص أعلاه، وعاد ثانية للحديث عنه في نهاية كتابه، تحديداً في فصل (وجود الله).

(6) وتعظيم الحلاج وبن عربي وتصويب مسلك العدوية، ينطوي على مخالفات شرعية كثيرة ناقشها عدد كبير من العلماء انظر مثلا...

(7) الخليل إبراهيم / 175، 176.

(8) ص 80 في مطلع كلامه عن الفلسفة.

(9) انظر بداية ونهاية كلامه عن بني إسرائيل في كتاب (الله)، ولا أدري كيف وصل لهذه النتيجة وهو يقول بأن عقيدة بني إسرائيل هي الأخرى تطورت (وتهذبت مع الزمن)، وأنها ظلت تعبد الأصنام كما كانت في عهد إبراهيم عليه السلام، وأن ما عندهم عند البابليين والفرس وغيرهم!!، وسيأتي مناقشته إن شاء الله في البحث.

(10) ذكر في جملة واحدة أن موسى عليه السلام علم بني إسرائيل التوحيد، ولم يعلق عليها، وهي طبيعته. الأشياء الـمُسلمَّ يذكرها دون تعليق، ربما يقدم عذراً لمن يريدوا أن يعتذروا عنه بهذا الاعتراض الذي لا يعني شيء في سياق كلامه، وقد فعل هذا مع حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الذي جاء فيه صفة الوحي، ذكره في عبقرية محمد غير مستدلٍ به ولم يرد عليه مع أنه ينقض كلَّ مذهبه!!

(11) النقاط منه وليست مني.

(12) انظر فصل بني إسرائيل في كتاب (الله).

(13) يهود اليوم لا يصح نسب غالبيتهم ليعقوب ـ عليه السلام ـ فكل جماعة منهم يشكك بعضها في نسب بعض، فمن قديم تكلموا في أنساب يهود العرب، واليوم يتكلم في نسبهم العارفون بتاريخهم يقولون أنهم من قبائل أوربا الشرقية دخلوا اليهودية مع ملكهم.

(14) متفق عليه . البخاري / 3158، ومسلم /323.

(15) البخاري /3196، ومسلم /3429، واعترف العقاد بذلك في تعليقه ـ في ذات الكتاب ـ على تأثر اليهودية بالفلسفة.

(16) البخاري /3196، ومسلم /3429، واعترف العقاد بذلك في تعليقه ـ في ذات الكتاب ـ على تأثر اليهودية بالفلسفة.

(17) تكلمت عنه ثريا منقوش في كتابها (التوحيد في تطوره التاريخي) وتكلم عنه جواد علي في المفصل، وهذا الأمر طبعي في الوثنيات كلها، حتى أصنام العرب كلها بلا استثناء عرفت عند الشعوب الأخرى التي سبقتهم، وهو الشيطان يوحي لأوليائه في كل مكان بذات الشرك.

(18) أعتمد على نسخة المكتبة العصرية. صيدا. بيروت.

(19) ص6، وأكد هذا في ص 150، وفي نهاية بحثه ص /197.

(20) إبراهيم أبو الأنبياء / 123، 133.

(21) الخليل إبراهيم 140.

(22) أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام 141، 142.

(23) ابراهم /144.

(24) أبو الأنبياء إبراهيم / 149، 150.

(25) هي مدينة الخليل عليه السلام.

(26) مدينة لوط عليه السلام، وسدوم فعول من السدم وهو الندم مع غم، ويضرب بقاضيها المثل في الجور .معجم البلدان 3/200.

(27) مدينة شعيب عليه السلام، وسميت باسم الشعب الذي يسكنها، بني مديان بن إبراهيم عليه السلام.

(28) ص 157، وأكد ذات المعنى في ص/179.

(29) إبراهم أبو الأنبياء / 157، 158.

(30) ذكر الطبري وغيره أن المقصود بالآية هنا هم الكهان.

(31) إبراهيم أبو الأنبياء /138.

(32) ص 157، وأكد ذات المعنى في ص/179.
المصدر: طريق الإسلام