شهر الله المحرم فضائل وأحكام - (1) حرمة شهر الله المحرم وفضله

منذ 2015-10-04

من حكمة الله تعالى في خلقه أن فضل الأزمان والشهور بعضها على بعض، ومن حكمته تعالى أن اختص بعضها بمزيد حرمة وعناية فجعل بعضها أشد حرمة من غيره، فمن ذلك الأشهر الحرم فقد حذر الله عباده وجعل تعظيم شعائره تعالى من تقوى القلوب.

شهر الله المحرم هو أحد الأشهر الحرم التي قال الله عز وجل فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:36].
قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره: "خص الله تعالى الأشهر الحرم بالذكر ونهى عن الظلم فيها تشريفًا لها، وإن كان منهيًا عنه في كل الزمان، وعلى هذا أكثر أهل التأويل، أي: لا تظلموا في الأربعة أشهر الحرم أنفسكم".

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره: "{فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} يحتمل أن الضمير يعود إلى الإثنى عشر شهرًا، وأن الله تعالى بين أنه جعلها مقادير للعباد، وأن تُعمر بطاعته، ويُشكر الله تعالى على مِنتِه بها وتقييضها لصالح العباد، فلتحذروا من ظلم أنفسكم فيها. ويحتمل أن الضمير يعود إلى الأربعة الحُرم، وأن هذا نهي لهم عن الظلم فيها، خصوصًا مع النهي عن الظلم كل وقت، لزيادة تحريمها، وكون الظلم فيها أشد من غيرها".

ويتبين فضل هذا الشهر أيضًا بإضافته إلى الله عز وجل فيقال: (شهر الله المحرم) وهذه إضافة تشريف وتفضيل، كمثل: بيت الله وناقة الله.
وفي الصحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حُرُم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان».

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره: "فإنما أضافه إلى مُضر ليُبين صحة قولهم في رجب إنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان، لا كما تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال وهو رمضان اليوم، فبيَّن رسول الله أنه رجب مضر لا رجب ربيعة، وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة ثلاثة سرد وواحد فرد، لأجل أداء مناسك الحج والعمرة فحُرِّم قبل أشهر الحج شهرًا وهو ذو القعدة لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحُرِّم شهر ذو الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون بأداء المناسك، وحُرِّم بعده شهرًا آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحُرِّم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتماد به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنًا" .


وشهر الله المحرم له فضل عظيم، حتى عدَّه بعض السلف أفضل الأشهر الحرم.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "وقد اختلف العلماء في أي الأشهر الحرم أفضل؟ فقال الحسن وغيره: أفضلها شهر الله المحرم، ورجحه طائفة من المتأخرين، وروى وهب بن جرير عن قرة بن خالد عن الحسن، قال: إن الله افتتح السنة بشهر حرام وختمها بشهر حرام، فليس شهر في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرم، وكان يسمى شهر الله الأصم من شدة تحريمه".

خَرّجَ النسائي من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الليل خير وأي الأشهر أفضل؟" فقال: «خير الليلِ جوفُهُ، وأفضلُ الأشهرِ شهرُ الله الذي تدعونهُ المحرَّم»، وإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أفضل الأشهر، محمول على ما بعد رمضان.

ومما يدل على فضله أن صيامه أفضل الصيام بعد رمضان.
فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل»، وهذا الحديث فيه دلالة واضحة على فضل صيام شهر الله المحرم.

قال الإمام النووي رحمه الله: فإن قيل: "في الحديث إن أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم، فكيف أكثر الصيام في شعبان دون المحرم؟ فالجواب: لعله لم يعلم فضل المحرم إلا في آخر الحياة قبل التمكن من صومه، أو لعله كان يعرض فيه أعذار تمنع من إكثار الصوم فيه، كسفر ومرض وغيرهما".
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم المحرم شهر الله، وإضافته إلى الله عز وجل تدل على شرفه وفضله، فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته، كما نسب محمدًا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من الأنبياء إلى عبوديته، ونسب إليه بيته وناقته".

ولما كان هذا الشهر مختصًا بإضافته إلى الله تعالى، وكان الصيام من بين الأعمال مضافًا إلى الله تعالى، فإنه له سبحانه من بين الأعمال، ناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله، بالعمل المضاف إليه المختص به وهو الصيام، وقد قيل في معنى إضافة هذا الشهر إلى الله عز وجل، إنه إشارة إلى أن تحريمه إلى الله عز وجل ليس لأحد تبديله كما كانت الجاهلية يحلونه ويحرمون مكانه صفرًا، فأشار إلى أنه شهر الله الذي حرمه، فليس لأحد من خلقه تبديل ذلك وتغييره.

شهرُ الحرام مباركٌ ميمونُ***والصوم فيه مضاعفٌ مسنون
وثوابُ صائمهِ لوجه إلههِ***في الخُلدِ عند مليكهِ مخزُونُ

ومن فضل هذا الشهر أن فيه يوم عاشوراء الذي حصل فيه نصر مبين لأهل الإيمان وأظهر الله فيه الحق على الباطل؛ حيث نجّى فيه موسى عليه السلام وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فهو يوم له فضيلة عظيمة.

جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله: «ما هذا اليوم الذي تصومونه؟» فقالوا: "هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغَرَّقَ فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه"، فقال رسول الله: «فنحن أحق وأولى بموسى منكم» فصامه رسول الله وأمر بصيامه. (متفق عليه).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان".

المصدر: كتاب (شهر الله المحرم فضائل وأحكام) للكاتب سليمان بن جاسر بن عبد الكريم الجاسر
 
المقال التالي
(2) تاريخ يوم عاشوراء وحكم صيامه