كيف نكسر الجمود في أي موقف سياسي ونحقق اختراقا ناجحا ضد الخصوم؟
باختلاف الزَّمان والمكان تَختلف الفرصةُ أو المَوطن الرخو الذي يمكن عبره تحقيق الاختراق وكسر الجمود.
أحيانًا يَحدث جمود في الموقف السِّياسي أو العسكري، ولا يستطيع أي من الفريقين المتصارعَين تحقيق نصرٍ حاسم، وعادة يكون سبب هذا الجمود هو قدرًا "ما" من توازن القوى بين الفريقين يَمنع من حَسم أحدهما الصِّراع لصالحه، وفي أحيان أخرى يَحدث الجمود في حالة الصِّراع بسبب التفوُّق الطَّفيف جدًّا لصالح طرف مع صمود الطَّرف الآخر وإصراره على عدم الهزيمة، وهنا يتَّسم الموقف بالجمود الكامل؛ بحيث يظل الصراع قائمًا دون قدرة أيٍّ من الطرفين على حسم الموقف الصِّراعي لصالحه وتحقيق نصرٍ صريح وواضح.
وكي نفهم طرق حلحَلة الوضع عندما يَصل إلى هذه الحالة؛ فعلينا تفكيك الموقف كالتالي: التفوُّق على خصمٍ قد يكون عَبر تفوُّق عددي أو تفوق في الموارد الاقتصادية، أو تفوق نوعي (وهو الأغلب)، والنَّوعي قد يكون نوعَ سلاحٍ، أو درجة تدرب وكفاءة عناصره، أو تحصُّنًا بحصون يستحيل اقتحامها أو تعدِّيها بالطرق المعتادة، أو تفوقًا في الفِكر السياسي والإستراتيجي يمكِّنه من إجراء تحالفاتٍ ومعاهدات مهمَّة تغيِّر موازين القوى بحصوله على مزيد من الموارد المتميزة كمًّا أو كَيفًا أو كليهما، كما أنَّ التفوُّق في الفِكر السياسي والإستراتيجي يتيح له تحرُّكات فعَّالة ومؤثِّرة تحقِّق له ضغطًا مهمًّا على خصمه.
وطرق كسر هذا الجمود عدَّة، ونذكر جانبًا منها ممثِّلين بالحركة في معركة حربيَّة لتسهيل التوضيح:
- التضحية لكسر الجمود كسرًا؛ لأن بعد كسر الحصن الذي يسدُّ الطريقَ سينفتح الطريق.
- الالتفاف من على الأجناب لمهاجمة الأجناب وصولاً للعمق، أو الالتفاف الكامل للوصول إلى المؤخِّرة ومهاجمة المؤخِّرة بما يربك العمق والقيادة.
ودرس مهاجمة الأجناب أو المؤخرة حصيلتُه أو مؤدَّاه أو جوهره هو اختيار الأماكن الرخوة للضَّغط عليها؛ لأنَّ الضَّغط فيها يؤدِّي لاختراقها وصولاً للعمق، وهو على كلِّ حال يضعف ويربك العمق حتى ولو لم تصل له.
وبذا يكون دائمًا - وفقًا لهذه الإستراتيجية المقترحة - أنَّه إما أن نكسر العقبَة الصَّعبة التي تسد طريقَ الوصول لعمق ورأسِ العدو عبر ثمنٍ مرتفع من أجل فتح الطريق ليصبح سهلاً لنندفع فيه بقوة وسرعة بعدها.
وإمَّا أن نختار الأماكن الرخوة فنضغط عليها، وغالبًا ما تكون المؤخرةَ والأجناب وخطوط الإمداد، أو مخازن التموين أو مصدر الإمداد.
عمليات الالتفاف أو الضَّغط على النِّقاط الرخوة للنفوذ عبرها للعمق؛ هذه تَعتمد على حيازتك جهاز معلوماتٍ ذا قدرة مناسبة على جَمع المعلومات وتحليلها تحليلاً علميًّا موضوعيًّا سليمًا.
- وهناك محور آخر لكسر الجمود في حالة ما إذا كان الجمود ناتجًا عن تعادل القوى لدى طرفَي الصِّراع، فحينها هناك أسلوب المطاولة، بشرط أن تَسعى لتطوير قدراتك وترقيتِها، مع منع الخصم من تطوير قواه وترقيتها في نفس الفترة، وصولاً منك للقدرة على الفوز عليه والإيقاع به بقدراتك المطورة.
وتطبيق ذلك كله على الصِّراع السياسي له أمثلةٌ عديدة، نذكر جانبًا منها للتوضيح على النحو التالي:
إنَّ الحصن الذي ذكرناه في الأمثلة السَّابقة قد يكون في السياسة الدَّاخليَّة هو قانون أو آليَّات إدارية بالغة التأثير تتَّخذها الحكومة لمنع حريَّة المعارضة في العمل الجماهيري أو اكتساح انتخابات، أو حريَّة العمل الإعلامي وتوصيل المعلومات الحقيقية ومواقف المعارَضة إلى عامَّة الشَّعب، وحينئذٍ يُعتبر إلغاء هذا القانون أو هذه الآليات الإداريَّة هو كَسرًا للجمود الحادث في الصراع.
أمَّا بشأن الضَّغط على الأماكن الرخوة، فإنَّ تجسيدها السياسي قد يكون أخطاء وإخفاقات فادِحة ترتكبها الحكومةُ، فتستغلها المعارضة لفضحِها وجذبِ غالبيَّة الجماهير لها، وتعبئتِهم وتنظيمهم ضدها.
وقد يكون الموقع الرخو هو انقسامًا في الحزب الحاكِم أو صراعًا داخله، فتستغل المعارضة هذا بشكلٍ أو بآخر.
وقد تكون الأماكن الرخوة هي فسادًا ضخمًا مستترًا، فتفضحه المعارضة، أو قد تكون معاناة طبقة أو فِئة من الشَّعب من سياسات الحكومة، فتستقطبها المعارضة.
وقد تكون المواقع الرخوة هي وجود أحزاب وحركات معارضة أخرى يمكن التحالُف معها ضد الحزب الحاكم.
وهنا قد يقول قائل: إنَّ هذا كله يَحدث بلا جدوى، ولكن أقول له: حقيقة الأمر أنَّ هذا لا يحدث؛ لأنَّ الذي يَحدث هو عمل إعلامي فقط، وليس عملاً سياسيًّا متكاملاً، فالإعلام خطوة أولى لا بدَّ أن يتلوها خطوات عديدة تَحصد ثمرةَ هذا العمل الإعلامي، فضلاً عن أنَّ العمل الإعلامي نفسه يَجب أن يكون فعَّالاً ومؤثرًا؛ بمعنى أن تصل الرِّسالة الإعلاميَّة إلى جمهورها المستهدَف، لا أن تكون الرِّسالة الإعلاميَّة هي مجرد نشرةٍ داخليَّة لا تصل إلاَّ للأتباع والأنصار المتعاطِفين أصلاً معك ومع كلِّ ما تقوله.
وبشكلٍ عام فالإستراتيجية التي نَقترحها قائمة على كَسر الجمود عبر اختراق ما، وهذا الاختراق قائم على إبداع حلولٍ تحل المشاكلَ وتُزيل الجمودَ، وتعتمد فقط على الموارد الموجودة أو على تطوير الموارد الموجودة، وتكمن قوَّتها في قوَّة الفِكر والخيال الإبداعي الذي يَقف خلفها.
وهناك أمثلة كثيرة في العمل السِّياسي المعاصِر لعمليَّة اختيار المَواطِن الرخوة واستغلالها، ونذكر الأمثلة التالية للتوضيح:
- عندما نشأ الاتحادُ السوفيتي كان يروِّج الماركسيَّة في العالَم، وأراد نشرَها في مصر، وبينما تعتمد الماركسية على تنظيم وتعبئة العمال (نظريًّا)، فإنَّها وجدَت فرصتَها بتجنيد أولاد الذَّوات من أبناء باشوات مصر الذين يدرسون في أوروبا، ثمَّ عَبْرهم نشرَت الماركسيَّة عندما عادوا إلى مصر.
- عندما وضع "ماركس" نظريَّتَه اعتمد فيها على أنَّ من سيفجِّر الثورةَ هم عمَّال المصانع، وبالتالي توقَّع أن تكون أول ثورةٍ ماركسيَّة في ألمانيا وبريطانيا لأنَّهما الأكثر تقدُّمًا صناعيًّا، وبهما مصانع وعمالة كثيفة (في القرن الـ19 م)، لكن في القرن العشرين أراد "لينين" أن يفجِّر الثورةَ في روسيا، وكانت روسيا دولةً زراعيَّة ليس بها عمَّال، فارتكزت ثورته على عمَّال المواني والجنود.
- وشيء مشابه فعلَه "ماو" في الصين؛ إذ لا عمَّال مصانع ولا مواني، فماذا يفعل؟ لقد توجَّه بعمله الثَّوري للعاملين بالزِّراعة، وارتكزت ثورته عليهم ونجح أخيرًا عام 1949.
- عندما أرادت إيران اختراقَ لبنان والسيطرة عليها، بدأت عبر الشِّيعة الإماميَّة هناك، وهم على نفس المذهب الإيراني، ولكن عندما أرادَت اختراقَ اليمن اعتمدَت على الشيعة الزيديَّة؛ وهم مذهب شيعيٌّ آخر، لكنَّه الأقرب لها بدلاً من الأغلبيَّة السنيَّة، وعندما أراد أتباعُها الحوثيون التوسُّعَ في اليمن واحتواء بقيَّة الشَّعب تبنَّوا قضايا شعبيَّة؛ مثل غلاء الأسعار ورفع الدعم... إلخ، وفي سوريا اعتمدَت إيران فيما اعتمدَت على العلويِّين، وهم شيعة إسماعيلية، وهو مذهب ثالث مختلِف عن الإمامية والزيديَّة، وعندما أرادت التوسُّعَ في الشام واحتواء الشَّعب هناك تبنَّت هي وأتباعها شعارات مواجهَة إسرائيل وأمريكا؛ لسخونَة الصِّراع العربي الصهيوني في الشام والأردن.. ثمَّ نجد إيران تتواصَل في التسعينيات من القرن الماضي مع السلَفيَّة الجهاديَّة في أكثر من مكانٍ لتحقق نفوذًا في أماكن لا يوجد فيها شيعة، بل تتواصل الآن مع طالِبان في أفغانستان (رغم أنَّ لها شيعةً إماميَّة أتباعًا لها هناك)، ولكن المؤشِّرات أثبتَت أنَّ طالبان ستكون لها اليد الطولى في مستقبل أفغانستان السياسي فسعَت لها إيران.
وهكذا، فباختلاف الزَّمان والمكان تَختلف الفرصةُ أو المَوطن الرخو الذي يمكن عبره تحقيق الاختراق وكسر الجمود.
عبد المنعم منيب
صحفي و كاتب إسلامي مصري
- التصنيف:
- المصدر: