طريق الإسلام

الطاغوت

منذ 2009-07-21

قال الشنقيطي: "والعجب ممن يحكم غير تشريع الله ثم يدعى الإسلام {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا..}؛ لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب" (أضواء البيان).


الحمد لله وحده، وصلاة وسلاماً على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن أحبه واتبع هديه، وبعد:

الطاغوت: صيغة مبالغة (فعلوت) من الطغيان، الذى هو مجاوزة الحد.

وطغيانه ليس طغيان مخلوق على مخلوق (قوى على ضعيف أو غنى على فقير مثلا) ولكنه طغيان على الله، على حقه في أن يُعبد وحده لا شريك له، فينزل المخلوق نفسه أو غيره منزلة الخالق في أي نوع من أنواع العبادة ومنها التحاكم إلى غير ما أنزل الله.

ورد ذكر ( الطاغوت) ثمان مرات في القرآن منها قول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿٣٥﴾ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [سورة النحل: 35-36].

احتج المشركون بالقدر على شركهم.. وتحليلهم وتحريمهم من دون الله: {لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ}، فأبطل الله احتجاجهم على هذين الأمرين بأنه أرسل إليهم الرسل بالأمر الشرعى يأمرونهم بعبادة الله، وأنه أمرهم باجتناب الطاغوت {أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}، فاحتجاجهم بالقدر على التحليل والتحريم بغير ما أنزل الله.. {وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} أبطله الله تعالى بأن الرسل قالت لهم: {وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} فتبين أن الطاغوت هنا هو من يحل ويحرم ويشرع من دون الله، أى بغير ما أنزل الله.

ومنها فى سورة النساء آية 60، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ..}.

أسلوب تعجب {أَلَمْ تَرَ}، ممن يزعم الإيمان بالتنزيل ثم يعرض عنه مريدا التحاكم إلى غيره في أي نزاع أو خصومة، فهما نقيضان لا يجتمعان، (الإيمان وإرادة التحاكم إلى غير التنزيل، أي إلى الطاغوت)؛ إذ الكفر بالطاغوت شرط صحة الإيمان.

وإليك طائفة من أقوال أهل العلم بالتفسير في هذه الآيات حتى تكون على بينة:

1- الطبرى: "يريدون أن يتحاكموا فى خصومتهم إلى الطاغوت يعنى إلى من يعظمونه ويصدرون قوله ويرضون بحكمه من دون حكم الله، وقد أمروا أن يكذبوا بما جاءهم به الطاغوت الذي يتحاكمون إليه فتركوا أمر الله وابتغوا أمر الشيطان {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً}، يعنى أن الشيطان يريد أن يصد هؤلاء المتحاكمين إلى الطاغوت عن سبيل الحق والهدى"..

2- ابن كثير: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا..}، هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعى إلا بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم فى فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله كما ذكر فى سبب نزول الآية..

وقال: "هذه الآية خاصة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت هنا وقال فى قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ..} [سورة النساء: 59]، فدل على أن من لم يتحاكم فى محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر".

3- قال ابن تيمية: "بعد أن ذكر هذه الآيات ومعها آيات سورة النور {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ..} [سورة النور: 47]، قال: فإذا كان النفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإرادة التحاكم إلى غيره مع أن هذا ترك محض، وقد يكون سببه قوة الشهوة فكيف بالتنقص والسب ونحوه".. (الصارم 37).

قال الشنقيطي: "والعجب ممن يحكم غير تشريع الله ثم يدعى الإسلام {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا..}؛ لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب" (أضواء البيان).

وإليك طائفة من أقوال أهل العلم في معنى الطاغوت:

1- قال ابن جرير: "الصواب من القول عندي في الطاغوت: أنه كل ذي طغيان على الله فعبد من دونه إما بقهر منه لمن عبده وإما بطاعة ممن عبده له، إنسانا كان ذلك المعبود أو شيطانا أو وثنا أو صنما أو كان ما كان من شيء" (جامع البيان).

2- قال ابن تيمية (28/210): "والطاغوت فعلوت من الطغيان. كما أن الملكوت فعلوت من الملك والرحموت والرهبوت والرغبوت. والطغيان مجاوزة الحد، وهو الظلم والبغى فالمعبود من دون الله إذا لم يكن كارها لذلك: طاغوت. ولهذا سمى النبى -صلى الله عليه وسلم- الأصنام طواغيت فى الحديث الصحيح قال: {ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت} والمطاع فى معصية الله، والمطاع فى اتباع غير الهدى ودين الحق -سواء كان مقبولا خبره المخالف لكتاب الله، أو مطاعا أمره المخالف لأمر الله -هو طاغوت ولهذا سمى من تحوكم إليه من حاكم بغير كتاب الله: طاغوت. وسمى الله فرعون وعادا طغاة، وقال فى صحبة ثمود { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ }.

3- قال ابن القيم في (إعلام الموقعين): "ثم أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه، والطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع. فطاغوت كل قوم: من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، ومن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت ومن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته".

4- ابن عثيمين معلقا على كلام ابن القيم قال: "ومراده بالمعبود والمتبوع والمطاع غير الصالحين، أما الصالحون فليسوا طواغيت وإن عبدوا أو اُتبعوا أو اُطيعوا.

فالأصنام التى تعبد من دون الله طواغيت. وعلماء السوء الذين يدعون إلى الضلالة والكفر أو يدعون إلى البدع أو إلى تحليل ما حرّم الله أو تحريم ما أحل الله: طواغيت؛ لأن هؤلاء تجاوزوا حدهم، فإن حد العالم أن يكون متبعا لما جاء به النبى -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن العلماء حقيقة ورثة الأنبياء، يرثونهم فى أمتهم علما وعملا وأخلاقا ودعوة وتعليما، فإذا تجاوزوا هذا الحد وصاروا يزينون للحكام الخروج من شريعة الإسلام بمثل هذه النظم فهم طواغيت لأنهم تجاوزوا ما كانوا يجب أن يكونوا عليه من متابعة الشريعة.

مطاعون شرعا: إذا أمروا بما لا يخالف أمر الله ورسوله، فى هذه الحال لا يصدق عليهم أنهم طواغيت، والواجب لهم على الرعية السمع والطاعة، وطاعتهم لولاة الأمر فى هذه الحال بهذا القيد طاعة لله عز وجل".

ثم ذكر رحمه الله طاعتهم قدرا وفصل فيها فليرجع إليه.

وقال رحمه الله فى التعليق على الآيات {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ..} [سورة النساء: 60]

قال: "فوصف الله تعالى هؤلاء المدّعين للإيمان وهم منافقون بصفات:

الأولى: أنهم يريدون أن يكون التحاكم إلى الطاغوت: وهو كل ما خالف حكم الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن ما خالف حكم الله ورسوله فهو طغيان واعتداء على حكم من له الحكم وإليه يُرجع الأمر كله وهو الله. قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ..} [سورة الأعراف: 54]، ثم ذكر الصفتين الأخرتين.

5- الشنقيطى: "كل ما تحاكم إلى غير شرع الله فهو تحاكم إلى الطاغوت" (أضواء البيان).

6- [color="DarkSlateGray"]السعدى:[/COLOR " {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ..} [سورة النساء: 60]، وهو كل من حكم بغير شرع الله فهو طاغوت (1/394 تيسير الكريم).

وقال فى {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [سورة النساء: 51]: "هو الإيمان بكل عبادة لغير الله أو حكم بغير شرع الله فدخل فى ذلك: السحر والكهانة وعبادة غير الله وطاعة الشيطان، كل هذا من الجبت والطاغوت" (1/390).

سؤال: هل يعارض ما سبق بما ثبت عن عمر -رضى الله عنه- بأن الطاغوت الشيطان؟

الجواب: لا تعارض بل اتفاق كامل وإيجاز بليغ من المحدث الملهم، حيث جمع كل ما سبق وزيادة بكلمة واحدة: الشيطان. وانظر وصف ابن كثير -رحمه الله-: "يكون فيهم بهذه المثابة فتحاكم إليه الناس: منها: ادعاؤه علم الغيب، حيث يصدق مرة ويكذب مائة، وصدقه فى هذه المرة يكون بما استرقه الشيطان وألقاه فى أذنه كما مرّ فى الحديث الصحيح ومنها: التعامل مع الجن حيث يكون له رئىٌّ منهم يأتيه بأخبار وأسرار الناس والحوادث فى الأرض ومنها: ذهن حاد يستنبط به الأمور باستقراء أسبابها، وبالنظر فى حال سائله وقوله وفعله.

ومنها: علم وفهم واطلاع ليس فى قومه مثله.

ومنها: زخرف القول من السجع وغيره ما يروّج به الباطل على قومه فيحسبونه حكيم زمانه".

قال ابن حجر: "الكهانة : ادعاء علم الغيب كالإخبار بما يقع فى الأرض مع الاستناد إلى سبب، والأصل فيه استراق الجن السمع من كلام الملائكة فيلقيه فى أذن الكاهن"..

قال الخطابى: "الكهانة: قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة، وطبائع نارية، فألفتهم الشياطين لما بينهم من التناسب فى هذه الأمور، وساعدتهم بكل ما تصل قدرتهم إليه".

روى البخارى من حديث أبى هريرة 6909 أن رسول الله قضى فى امرأتين من هذيل اقتتلتا فرمت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب بطنها وهى حامل فقتلت ولدها الذي في بطنها، فاختصما إلى النبىّ فقضى أن دية ما فى بطنها غُرّة عبد أو أمة، فقال ولي المرأة التى غرمت: "كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكلْ، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطلّ؟". فقال صلى الله عليه وسلم: «إنما هذا من إخْوان الكهان».

وقد جاء فى الحديث: «إياكم وسجع الكهان»، وأيضا «أسجع كسجع الكهان».

قلت: فهذا السجع المنغوم لأنه من زخرف القول الذى يروج به الباطل والذى هو هنا: الحكم بخلاف حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن عثيمين عن الكهان: "هو قوم يكونون فى أحياء العرب يتحاكم الناس إليهم ولذلك سمّوهم طاغوت وجبت، وتتصل بهم الشياطين وتخبرهم عما كان فى السماء، تسترق السمع من السماء وتأتى وتخبر الكاهن، ثم الكاهن يضيف إلى هذا الخبر ما يضيف من الأخبار الكاذبة ويخبر الناس، فإذا وقع مما أخبره شىء اعتبره الناس عالما بالغيب..فيصدق فى هذه المئة من أصل الكلمة التى جاءته من السماء.. فصاروا يتحاكمون إليهم فهم مرجع الناس فى الحكم، ولهذا يسمونهم الكهنة".

قال الأزهري: "الكاهن الذى يتعاطى الخبر عن الكائنات فى مستقبل الزمان، ويدّعي معرفة الأسرار، وقد كان فى العرب كهنة كشِق وسَطيح وغيرهما، فمنهم من كان يزعم أن له تابعا من الجن ورِئِيّا يلقى إليه الأخبار، ومنهم من كان يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من سأله أو فعلِه او حالِه، وهذا يخصونه اسم العرّاف كالذى يدّعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوهما" انظر (اللسان) "كهن".

وقال الأزهري: "يقال القريظة والنضير كاهنان، وهما قبيلا اليهود بالمدينة وهم أهل كتاب وفهم وعلم.. والعرب تسمى كل من يتعاطى علما دقيقا: كاهنا، ومنهم من كان يُسَمّى المنجّم والطبيب: كاهنا" انظر (اللسان) "كهن".


 من دروس الشيخ حفظه الله
المصدر: طريق الإسلام