الدعاة بين رجل ورويجل
منذ 2009-08-20
قال الإمام ابن القيم: "النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار".
الأحداث في العالم الإسلامي تتلاحق، والمتغيرات السياسية تتابع، والصراع بين الإسلام والكفر ينتقل من طور إلى طور، ومن دائرة إلى أخرى، والمسلمون في جميع الأحوال كالأيتام على موائد اللئام!!
ولقد ورثت الصحوة الإسلامية المعاصرة تركة مهترئة من الانحراف والتخلف الذي أصاب الأمة الإسلامية بعامة، نتيجة قرون متتابعة من العجز والضعف، ولن ينهض بها من هذه الكبوة جهود أفراد معدودين مهما بلغت إمكاناتهم وقدراتهم، بل هي في حاجة لكل الطاقات والجهود يُكمل بعضها بعضاً، ويُسدّد بعضها بعضاً... والعمل الإسلامي -بفضل الله تعالى- سائر بكل ثقة واطمئنان، يشق طريقه على الرغم من كثرة العراقيل والعقبات، ولكن ألم يسأل الواحد منا نفسه في يوم من الأيام: ما دوري في هذه المسيرة؟!، وماذا قدّمت لخدمة هذا الدين؟!
هل يكفي أن يبقى الإنسان مشاهداً، متابعاً لمسيرة الصحوة الإسلامية من بُعد، لا يتجاوز دوره التشجيع والتعاطف..؟!، هل يكفي أن يكون دور الإنسان تكثير سواد الصالحين فحسب..؟!، أيجوز أن يقتصر الدور على الحوقلة والاسترجاع إذا أصاب الدعوة ما أصابها؟!
لا شك بأن هذه سلبية مفرطة، أقعدت كثيراً من الناس عن الإنتاج والعطاء، وإننا نملك طاقات هائلة -بحمد الله تعالى- ولكنها طاقات كامنة خاملة، لم تُسخر التسخير الأمثل لخدمة الأمة، ولقد كُبِّلت كثير من هذه الطاقات بأسار من العجز والضعف، حتى أصبحنا نرى جموعاً غفيرة من الصالحين، ولكن -مع الأسف الشديد- حالهم كما وصفهم الشاعر:
يُثقلون الأرض من كثرتهـم *** ثم لا يُغنـون في أمـر جلل
ومثله قول الشاعر:
وبعضُ الرجال نخلةٌ لا جنى لها *** ولا ظل إلا أن تُعَدَّ من النخل
إن الثروة الحقيقية التي تملكها الأمة ليست في الأموال أو الأجهزة والمعدات ونحوها، وإنما هي في الإنسان المؤمن الجاد الذي يشعر بالمسؤولية وعظم الأمانة.
إن الثروة الحقيقية في تلك النفوس الحية المتقدة النابضة بروح العطاء والبذل، وما أروع تلك الصورة التي جاء وصفها في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هَيْعَة أو فَزْعة طار عليه يبتغي القتل أو الموت مظانه» (2).
فهو رجل حي نَذَر نفسه لله -تعالى- قد هيأها للانطلاق في سبيله، لا تحده الحدود، ولا تعوقه العوائق، وتأمل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «يطير على متنه»، وقوله: «طار عليه»، فهما جملتان تدلان على سرعة المبادرة، وحيوية الحركة.
إننا في مرحلة تقتضي أن يُفكر الإنسان كيف يستطيع أن ينتج، بل كيف ينتج بأكثر من طاقته..!!، ولن يكون ذلك ممكناً إلا إذا وُجدت الهمة العالية والعزيمة الصادقة التي تتطلع إلى أفق عال وقمّة سامقة من العطاء والإبداع، ولا ترضى بالقليل من العمل.
فكُنْ رجلاً رِجْلُه في الثرى وهامـةُ همَّتـه في الثريـا
قال الإمام ابن القيم: "النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار" (3).
وقال الإمام ابن الجوزي -رحمه الله- : "ينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه، فلو كان يُتصور للآدمي صعود السماوات لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض، ولو كانت النبوة تحصل بالاجتهاد رأيت المقصر في تحصيلها في حضيض، غير أنه إذا لم يمكن ذلك فينبغي أن يطلب الممكن، والسيرة الجميلة عند الحكماء خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل" (4).
فلا يقتل الطموحات إلا استصغار الإنسان نفسه، يُكبلها بالعجز، حتى يصل إلى حد الشلل الذي يعوقه عن الحركة والإنتاج، وإن طاقة الإنسان تتآكل غالباً حينما يزدري الإنسان نفسه، ويشعر أنه ضعيف لا يستطيع أن ينجز عملاً أو يبدع أمراً، وفي كثير من الأحيان لا يكتشف الإنسان طاقاته ومواهبه إلا من خلال التجارب.
وإنتاج المرء غالباً يعتمد على مقدار طموحه وهمّته، فالإنسان الطموح هو الذي يجعل أمامه هدفاً عالياً، حتى لو كانت قدراته لا تؤهله لذلك الآن؛ لأنه سوف يحرص على تنمية قدراته للوصول إلى هدفه، فإذا نمت القدرات فإنه لن يبقى عند هدفه الأول، بل سوف تنمو طموحاته وتزداد، وما أجمل قول شيخ الإسـلام ابن تيمية: "العـامة تقول: قيمة كل امرئ ما يُحسن، والخاصة تقول: قيمة كل امرئ ما يطلب"(5).
ومَنْ يتهيَّب صعودَ الجبال *** يعش أبد الدهر بين الحُفَـر
وقال حوط بن رئاب الأسدي:
دببتَ للمجد والساعون قد بلغوا *** جَهْد النفوس وألقوا دونه الأُزُرَا
فكابَروا المجدَ حتى ملَّ أكثرهم *** وعانق المجدَ مَن أوفى ومَن صَبَرَا
لا تحسبِ المجدَ تمراً أنت آكله *** لن تبلغ المجدَ حتى تلعق الصَّبِرَا
وقال أبو القاسم الشابي:
إذا صغرت نفسُ الفتى كان شوقُه *** صغيراً فلم يَتْعَب ولم يَتَجشَّم
ومَن كان جبَّار المطامع لم يزل *** يلاقي من الدنيا ضراوة قَشْعَم
************************
الهوامش:
(1) قال رجل للعباس بن محمد: "إني أتيتك في حاجة صغيرة، قال: اطلب لها رجلاً صغيراً" (عيون الأخبار 3/153)، وقيل لرجل: لنا حويجة، فقال: "اطلبوا لها رجيلاً!" (صيد الخاطر ص251).
(2) أخرجه: مسلم، في كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والرباط (3/1503) رقم (1889). والهيعة: الصوت عند حضور العدو، والفزعة: النهوض إلى العدو.
(3) الفوائد (ص198).
(4) صيد الخاطر (ص159).
(5) نقله عنه ابن القيم في (مدارج السالكين 3/3)، وقال ابن القيم في موضع آخر: "العامة تقول: قيمة كل امرئ ما يحسنه، والخاصة تقول: قيمة المرء ما يطلبه، وخاصة الخاصة تقول: همة المرء إلى مطلوبه" (مدارج السالكين 3/147).
المصدر: موقع المسلم
- التصنيف: