ابتسم الصغير...

منذ 2015-12-05


ابتسم الصغير...
 فكأنما ثغرُه الباسمُ مَحَارَةٌ وادعةٌ بمصراعين وقد أزاحت صَدَفَتيها عن لآلئ بيضاء منيرةٍ مشعةٍ كأقمار صغيرة.. هل رأيتم من قبلُ أنوارًا بلَونِ اللؤلؤانِ تبَسَّمُ؟
يتراقص قلب أمه سُكْرًا من بلسم بسمته، وانتشاءً بعذبِ براءتهِ.. 
مهما طالَعَتْ تلك البسمةَ مرارًا فإنها تشتاقُها كل مرة كأول مرة.. سبحان ربِّ كلِّ جميلٍ في الحياة.. سبحانه من ربٍ جميلٍ..
كَوَّرت كلتا كفّيه الدافئتين في بطن كفّيها وقبضت عليهما برفق، واقتربت من وجهه بيتِ الكنوزِ الثمينة، لتبدأ رحلةَ قُبلاتِها الصباحية له، وحَيرتُها تتجدد يوميًا: بأيِّ مَوطنِ سعادةٍ في ذُيّاك الوجهِ الصبوحِ تبدأُ قبلاتُها يا تُرَى؟ أتبدأُ بجَبِينِه الناعمِ كالمهد القطنيّ الأبيضِ الدافئ فتطبعُ أولَ قبلة؟ أم تبدأُ بوجنتيه المستديرتين بنعومةٍ كوسادتين منتفختين صغيرتين من الحريرِ الأملسِ ورديِّ اللون؟ أم تبدأ بقبلة على طرفِ أنفه الدّقيقِ الناتئِ بالكاد وسط تلك العذوبةٍ كلها بشكل يُشَهِّي قَضمَهُ وأكْلَهُ جدًا!.. أم تنحني مباشرةً تُقَبِّلُ رائحةَ الطفولةِ بين طيات شعرهِ، حيث المسكُ الأبيضُ قد اتَّخذَ بيتًا والعُودُ والعَنبرُ...؟ أم تضعُ أولَ قبلة بين عينيه، حيث النّداوةُ كلُّها والطهرُ والنقاءُ؟ حَيرةٌ جمةٌ أيُّهم تقطِفُ أولًا...!
ثم حسمت أمرها وبدأَت بوجنتيه.. وقالت له ضاحكة: "مِن هنا أبدأُ رحلتي اليوم يا صغيري".. 
طَبعت قبلتها الأولى وجَوفُه يضِجُّ بالضحك ببراءةٍ خجلًا من القُبلات كعادته.. وصار يتمنَّعُ بدلالِ الأطفال ويحاولُ تملصًا، لكن لا محيص، فَكفَّاهُ أسيرتان في قبضتيها بالفعل..
ثم فجأةً قَطَعت رحلتها التي بدأتها للتوّ فقط، وجَحَظَتْ عيناها نحو صغيرها بقلقٍ طاغٍ! 
تسمَّرتْ نظراتُها على وجه الصغير ولازال رجعُ ضَحَكاتِه الخَجلَى النَّدِيةِ يتردد في أُذنها وكأنَّه آتٍ من بعيد كأنها ليست هنا.. 
أَطلَّت نبضاتُ قلبِها مجتمعةً تشرئبُّ خارجَ صدرِها في ترقُّبٍ ووَجلٍ، 
وشعرت وكأنَّ جَوفَها قد سُدَّ بساترٍ فولاذيّ بغتةً فاستعصَى ريقُها على الازدراد!.. 
تُرى ما هذا الذي رأته وشيّع سكينتها وسعادتها إلى لحدهما الأخير؟ 
إنها قد رأت في ركن خده انتفاخًا مُفزِعٌ حَجمُه.. فهرولت ببصرها داخل فم وليدها فإذا بورمٍ متعاظمٍ شديدِ الاحمرارِ والبروزِ، يشقُّ طريقَه من تحت وجنة الصغير ذي العامين ونصف، من أول فَكِّه العُلويّ لآخرهِ داخلَ فمّه الصغيرِ لؤلؤيِّ الأنفاسِ..
رباهُ رباه... لطفَك..! 
لطفَك بقلبِ أمٍّ يكاد يعاين حرفيًّا عينَ اليَقين ما عاينهُ القمرُ ليلةَ انشقاقهِ في السماء!...
أخَذَتْ تضغطُ على سَحابات التوجسِ في عقلها بكل أيادي الإيمانِ لديها كي لا تنتفش أكثر... وتُربّتُ بكفوفِ السكينةِ على صدر القلق كي يغفو دونما رَجْفٍ -ولو هُنيهةً- حتى تَقوَى على التفكير بعقلٍ متزنٍ لا ينتفضُ من مجرد خواطرٍ تقتاتُ على خوفٍ غيرِ مؤكَّدٍ بَعد!
أُلهِمَتْ أخيرًا بالحل كما أقنعَت نفسَها: "عَلام القلق! مجرد التهاب بإذن الله.. وربما التهاب شديد لا أكثر! سأزور الطبيب وأتأكد.. وبعدها فَلِيَ الله! "
 
في المَشفى.. 
رفرفَت حول صغيرها بأنفاسها المضطربة كخفقان جناحٍ مكسور.. تضم وَجهَهُ عيناها قبل كفيها.. والروحُ تسعَى بين العين والعين في أشواطٍ فَرشُها أشواكُ الجَزعِ.. ودقاتُ قلبِها المطلةُ خارج صدرها لازالت أسبقُ إلى صغيرها من كل الجوارح... قد ارتحَلَت من الفؤاد مهاجرةً بحقائب اللهفة، وامتطَت جناحَ الوساوسِ والزَّادُ هو اللوعة، فأناخت مطاياها على بابِ قلبِ الصغير، تدقُّ عليه بالدعاءِ والرُّقْية، قد صامت عن أي دقةِ فَرحٍ حتى يأتيها اليقين..
ضمت الأم صغيرَها ثم سلمته للطبيب..
سلَّط بدوره أضواء الكشاف الصارخة على وجنتيّ قرةِ فؤادِها المهجور، ليفحص الانتفاخَ بدقة.. 
تترقبُ من كلام الطبيب خبرًا هي في الأصل تجتهد في الفرار منه... فتَدُكُّ كِيانَها دكًا دكًا حالةٌ من المسكنةِ والانكسارِ ينقصفُ لها سِنُّ الأقلامِ خَجَلا، وتُراقُ أمامها محابرُ الدنيا كلُها مهدورٌ حبرُها كفارةً للعجزِ عن البيان بالكلمات عن حجم الألم.. 
لا كلامَ ملائمًا قط سَيئِنُّ بأي حبرٍ على السطور مثل أنين هذا القلب... لاسيما إن كان يكويه الانتظارُ!..
وانقضت لحظاتُ الانتظار..
وتأكَّدَت من بعد خواطرٍ وشكوك، وترقبٍ وفِرار...
ورمٌ سرطانيّ في فكِّ صغيرِها..
قد نَخَر العَظمَ..
وسَرَح بكلاليبه في الوجه يطلبُ المزيدَ من عظامِ تجويفِ عينيه.. ولا أحدَ يعلمُ أين وَجبَتُه التالية.. 
هكذا لطمها كلامُ الطبيب.. 
وهكذا هي دارُنا دارُ الفَناءِ.. تقلِعُك على حِين غرةٍ من بساتين البهجةِ ورياضِ الهناءِ لتقذفك في سُرادقاتِ أحزانٍ بلا أبواب أو نوافذ، فنَظلُّ نَكوي الألمَ بالصبر الجميل حينًا من الدهر لا ندري متى ينجلي... ويكوِينا بدَورِه أحايِينْ... 
دارُ كَدَرٍ... مخذولٌ مَن غَفَلَ بِها عن دار النعيم المقيم...
تَهاوَت في بئر الألم كمن يسقطُ في كابوسٍ أكحلٍ كَلَيلةٍ يتيمةٍ بلا قمرٍ أو نجمات.. وصارت تفكر "ما أقساك من ورمٍ لا عقل لك ولا قلب! أَتنخرُ لآلِئي يا مجنون! أتنخر الَّلآلئ التي تَنشرحُ بها قلوبُ العالمين لو أطَلَّتْ عليهم في مرة! صَدَق من عرَّفَ خلاياك في قاموسِ الطِّب بال"خلايا المجنونة"!..
انتبهَت على استطراد الطبيب للكلام:
"ويجبُ قَصُّ كلّ تلك العظام في الفك العلوي، بالأسنان الباقية، بالخد كله أسفل العينين، ثم تركيبُ عظامٍ بديلةٍ ورَقعٍ جلديٍّ جديد، وندعو الله ألا تدخل العين ضمن عملية الاستئصال..."
شَرَدَت مذهولةً تُحدّث نفسَها:
"ويحَكُم معاشرَ الأطباء أنتم أيضا! لستم أقلَّ جنونًا من تيك الخلايا والله! ما هذا الطبُّ! بل ما تلك المُضَغُ الميِّتةُ بين أضلعِكم! أتكسرون طَوعًا لآلئي أنتم كذلك!! أتنهشون وسائدَ الحريرِ ومَهدِيَ القُطنِيَّ الغضَّ الطريَّ بمَشَارطِكم الطبية، وتَطيبُ نفوسُكم لفعل هذا! أتدركُ يا رجلَ أنه صغيري! وأنه قطعة من قلبي تنخرونها بمناجِلكم وأنا حية أسمعُ وأرَى!!.
مجنونٌ من ينخُر لآلئي.. بالله مجنون!..
ما عاد هناك رحمةٌ في قلوب البشر إن لم يرحمنا الرَّحيم.. وإنَّا إليك يا رباه.."
عقدتِ الآلامُ فوق رأسِها العقدةُ تلو العقدةِ وصار البؤسُ ينفثَ في العقدِ بخَّاتِ الكآبةِ زخَّاتَ زخَّات.. وفاض الكيانُ بحزن العالمين.. 
ارتمت على أقرب مقعد بجوار النافذة وشَخَصَ بصرُها إلى السماء تناجي ربَّ العرشِ بعينيها فاللسان قد انعقد أوله بآخره: 
"رُحماكَ ربي ورُقيتَك من سِحرِ الهمومِ الأسودِ ونَفثِه وبَخِّه..
مصيبتي ليس لها إلا قلبُ الفاروقِ أو الصدِّيقِ يا الله!.. ولا صبرَ لي عليها إلا بك يا مولى المضطَرين... 
سأذرفُ دمعاتِ الألم مع تراتيل الرضا، فأنا بشر، ومَن ذاك الذي يقوَى على قتل دمعات الألم!.. 
ولكن أين الدموعُ ذهبَت! وأين تاه مِن حناجري النّشيجُ!
اللهمّ شَهقةً أطمئنُ بها أني لازلتُ حيّة لم تُشلَّ أركاني...
اللهمّ دَمعةً واحدةً أُدرِكُ بها أني لازلت حيّة أبكي كالبشر..
 
أعاهدُك يا مولاي...
سألملم شَتاتي في وشاحٍ من الصبر..
وكفوفٍ من الابتهال..
وحناجرٍ تجمََّلت بالدعاءِ وتزينت بأكاليلِ الحمدِ والاسترجاع..
مع بضعِ حفناتٍ من زمزمِ بيتِك الحرامِ..
وبضعِ جُنيهاتٍ صدقةٍ نداوِي بها مرضانا..
وساعاتٍ طوالٍ ممزوجةٍ بالرُّقَى وتعاويذٍ تتصلُ بالمَلكِ القويّ ربِ الأكوان.. 
ولآلِئ قرءانية أتلوها على سجادتي صفًّا صفّا آناء الليل وأطراف النهار..
بهم جميعا يا ربّ الخلائقِ سأواجه مصابي وابتلائي..
وإياكَ أسألُ أن تُبدِلني لآلئي في الجنة عوضا عما فقدتُ وصبرتُ..
ولآلئُ جنتك خيرٌ.. وأبقَى.."
أغمَضَت عينيها بعدها بقوةٍ كمن يحاول العودة من العالم الآخر، فإذا بدمعاتِ الراحةِ أخيرًا تنزلقُ في وُديانها المعهودة.. فتغسل غمًّا.. وتُطفئُ بعضًا من نار.. وتُربِّتُ على الحياة...
ثم فتحَت عينيها ونظَرت إلى صغيرها تبحثُ عن تربيتةٍ أخرى في تقاطيعِ وجهه البارعةِ في تثبيت الفؤاد.. 
وابتسَمَ الصغير...
(قصة حقيقية حدثت لصديقتي منذ أسبوعين، ومثلها أمهات كُثُر لا ريب.. فاذكروهم جميعا بدعوات طيبات)
 

أسماء محمد لبيب

كاتبة مصرية