إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس
منذ 2009-09-23
القصة تتعلق بـ (الآخر)، كل الآخر، من الكافرين والمنافقين، عامتهم والذي يتولى كِبْره منهم، أهؤلاء مقتنعون بما هم عليه؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
بقلم/ محمد جلال القصاص
بعض الأفكار كالصيد السمين الكسيح يطالها كل ذي قلم، وبعض الأفكار كالغزال الشرود تبصره وبالكاد تصيده، وهذه فكرة تتحرك من سنين أمام عيني، أدقق فيها النظر وبالكاد أراها، ومازلت أتتبعها حتى أبصرتها وأمسكت بها، وها أنذا أضعها بين أيديكم.
ما القصة؟
القصة تتعلق بـ (الآخر)، كل الآخر، من الكافرين والمنافقين، عامتهم والذي يتولى كِبْره منهم،
أهؤلاء مقتنعون بما هم عليه؟!
قد يبدو السؤال غريبا، ولكن: هو بخلدي من سنين وإجابته هي صيدي اليوم في هذه الدراسة البسيطة.
للإجابة على هذا السؤال أعرض على حضراتكم ثلاثة شرائح من الأدلة الشرعية.
الشريحة الأولى:
يقول الله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [سورة الأنعام: 116].
ويقول الله تعالى: {أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [سورة يونس: 66].
ويقول الله تعالى: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [سورة النجم: 28].
ويقول الله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} [سورة النجم: 23].
ويقول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [سورة البقرة: 78].
ويقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [سورة الجاثية: 24].
الشريحة الثانية:
قول الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [سورة يونس: 3].
وقول الله تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل: 17].
وقول الله تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [سورة النمل: 62].
وقول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [سورة السجدة: 4].
وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [سورة القصص: 43].
وقول الله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [سورة القصص: 46].
وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [سورة القصص: 51].
{وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [سورة هود: 30].
قول الله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ۚ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ۚ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ۗ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۗ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [سورة الأنعام: 80].
وقول الله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [سورة طه: 44].
{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [سورة الأعراف: 130].
الشريحة الثالثة:
قول الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [سورة النمل: 14].
وقول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿٨٩﴾ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [سورة البقرة: 89 ـ90]
وقول الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴿١٧٥﴾ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة الأعراف: 176].
{إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} [سورة يونس: 7].
تحليل الشرائح الثلاث:
الشريحةُ الأولى تتكلم بأقوى أدوات الحصر (النفي والاستثناء) (1) بأن هؤلاء ليس عندهم إلا الظن في قلوبهم، وأحاديثهم أحاديث ظنٍ وإن ألبسوها ثوبَ اليقين.
فنحن أمام حقيقة شرعية لا صوارف لها -وسيأتي مزيد بيان من دِلالِة السياق الفعلي إن شاء الله وقدر- أن هؤلاء لا يتبعون حقا... ليسوا على قناعة مما يقولونه بل هم يخرصون... يظنون.
والخَرَصُ هو التكلم عن ظنٍ كاذبٍ وحُسبان باطل وليس عن يقين صادق، والخرَّاصون هم الكذَّابون المرتابون (2)، أهل الظنون (3)، الكاذبة والحسبان الباطل، (الذين يتقولون الباطل على الله ظنا بغير يقينِ علم ولا برهان واضح) (4)، (علومهم ليس فيها تحقيق, ولا إيصال لسواء الطريق. بل غايتهم أنهم يتبعون الظن, الذي لا يغني من الحق شيئا ويتخرصون في القول على الله, ما لا يعلمون (5) (
هكذا وصف خالقهم ما في قلوبهم، ظنون ليس إلا.
وفي الشريحة الثانية:
إبراهيم عليه السلام ينادي قومه: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ۚ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ۗ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۗ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [سورة الأنعام: من الآية 80].
يتذكرون ماذا؟!... السياق يقتضي أفلا تعلمون؟
أليس كذلك؟!
وكأنَّ ما يدعوهم إليه معلوم عندهم، ولكنهم نسوه بل تناسوه.
وفي معرض ذكر الفائدة من قصة موسى عليه السلام يخبر ربنا ـ جلَّ وعلى ـ بأن ذلك {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [سورة القصص: 46]. وأنهم جاءهم البيان مدعوما بحال من صدَّقوا من قبل وحال من كذبوا لعلهم يتذكرون: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [سورة القصص: 51].
ونوح عليه السلام ينادي قومه {وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [سورة هود: 30].
وآل فرعون {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [سورة الأعراف: 130].
وكأن هناك شيئا مطموسا، (مردوماً) عليه يذكرهم به النبي، فهو ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا يأتيهم بجديد ـ من حيث الجملة ـ وإنما فقط النبي مُذَكِر {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [سورة الغاشية: 21] .
وفي الشريحة الثالثة:
بيان أن كفر من كفر (6) -وخاصة الملأ (7)- لا يكون جهلا بل عنادا واستكبارا، فهذا فرعون، لم يتكلم يوما بأن موسى ـ عليه السلام ـ نبيا ولا أنه ليس بإله، ومع ذلك يقرر القرآن: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [سورة النمل: 14].
فهنا جملتان، خبرية... وتعليلية، {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}... لماذا؟... {ظُلْماً وَعُلُوّاً} أي ليس جهلا أو تكذيبا.
وقول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿٨٩﴾ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [سورة البقرة: 89 ـ90].
هنا جملتان أيضا، خبرية تقريرية {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ}، والثانية تعليلية لهذه الجملة الخبرية {بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}...
"يقول بئسما اعتاضوا لأنفسهم فرضوا به وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل الله على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن تصديقه وَمُوَازَرَته ونصرته وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية {أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}" (8).
فكُفْرُ يهود لم يكن لجهلهم ولا لتكذيبهم، وإنما {بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}...
وكذا حبر يهود (بلعام) الذي أتاه الله آياته فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاويين، ضلَّ بعدما عرف آيات الله.
فواضحٌ جدا من هذه الشرائح الثلاث أن أهل الباطل -عامتهم ومَن تولى كبره منهم- ليسوا على يقين من أمرهم، وإنما يخرصون، هناك شيء مطموس في قلوبهم يوارونه عن الناس ويغالبونه لشهوةِ جاه- كما الملأ، أو حقدٍ كما يهود، أو انشغال بأمور الرزق كما العامة في كل زمان ومكان.
هناك شيء مطموس تذكر به آيات الله المقروءة والمرئية، هذا الشيء هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، هو الإسلام بمفهومه العام، هو ما أودعه الله في النفوس بأن هذه الحياة ليست سدى وإنما ورائها ثواب وعقاب.
وهذا يقتضي الوقوف قليلا لبيان معنى الفطرة، فيما يختص بالإسلام.
الفطرة:
بداية الإنسان هي النطفة الأمشاج (9) {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [سورة الإنسان: 2]، التي تتكون من الحيوان المنوي والبويضة بعد التخصيب، هذه النطفة الأمشاج ـ بعد نفخ الروح فيها (10) ـ تحمل كل صفات الرجل النفسية والبدنية. هذا الطفل المولود تكون فيه جميع الصفات مركوزة بداخلة تظهر حين ينضج شيئا فشيئا، ففي البداية تظهر الحاجة للطعام والشراب، ومحبة من يداعب وبغض من يعبس ويكفهر، ثم يأتي حب اللعب، وعند البلوغ يأتي الميل للجنس الآخر دون أن يُعلمه أحد، أين كانت محبة النساء أو الرجال؟... هل تعلمها؟... لا، إنها فطرة مركوزة بداخله.
وكذا الإسلام بمعناه العام، فطرة مركوزة بداخل الإنسان بحيث لو ترك بدون عوارض فإنه يتعرف على ربه أو يستجيب من فوره حين يسمع داعية. ويدل على هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين وغيرِهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ»، ثم يقول أبو هريرة ـرضي الله عنهـ {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}.
ونقل شارح سنن الترمذي الإجماع على أن معنى الفطرة هنا هو الإسلام، قال: "وَأَشْهَرُ الْأَقْوَالِ : "إِنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ الْإِسْلَامُ". قَالَ اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: "وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ". وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالتَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الْإِسْلَامُ, وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْبَابِ اِقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، وَبِحَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ: «إِنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ عَنْ دِينِهِمْ» الْحَدِيثَ. وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ فَزَادَ فِيهِ: «حُنَفَاءَ مُسْلِمِينَ», فَظَهَرَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِلَّةِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ هِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ".
ويزيد الأمر بيانا ما جاء عند مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ذات يوم في خُطبته: «أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا» (11).
وجاء في شرح النووي للحديث: "قوله تعالى: «وَإِنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاء كُلّهمْ»، أَيْ : مُسْلِمِينَ, وَقِيلَ: طَاهِرِينَ مِنْ الْمَعَاصِي, وَقِيلَ: مُسْتَقِيمِينَ مُنِيبِينَ لِقَبُولِ الْهِدَايَة"، "وقد رواه غيره فزاد فيه «حنفاء مسلمين»" (12).
فالفطرة هي الإسلام، هذا ما فهمه الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم من النصوص الصريحة، هي قوة مركوزة في الإنسان تماما كقوة الشهوة، وحب ما ينفع والسعي في تحصيله وبغض ما يضر والسعي في دفعه. هي قوة تجعل المرء حين يسمع بالإسلام، وكأنه سمع به من قبل، وكأن داعيه يذكره بشيء عنده، ولذا جاءت النصوص تخاطب مَنْ لم يخاطبوا بالشرع من قبل تقول لهم "أفلا تذكرون"، "لعلهم يتذكرون".
هي قوة لا تمحيها تربية الآباء لأبناءهم على الكفر بربهم، فتظل هناك في القلب تورث حسكة وتجعل العلم "بالباطل" ظنا، وحديث صاحبه ظنا كاذبا وحُسبانا باطلا.
ولعل هذا يفسر لك ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» (13).
فمجرد السماع كاف، نعم كاف تماما لأن يقبل صاحبه على الداعي ينظر ما عنده، لماذا لأنه يلقى الفطرة المركوزة في جوف كل ولد آدم منذ خلقهم ربهم: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ} [سورة الأعراف: 172].
ما فــــــــائــــــــــدة الكلام في الفطرة من الناحية الدعوية؟
لهذا الكلام فوائد في الناحية الدعوية:
- منها أن الإسلام بمفهومه العام، الذي هو الاستسلام لله عز وجل، واتباع المرسلين والعمل ليوم الدين قوة مركوزة في قلب كل إنسان، تحتاج فقط من يحركها بتعريفها على ربها وما أعده للصالحين من عباده من ثواب، وما توعد به العاصين من عباده من عقاب.
- ومنها أنْ ليس عند كافرٍ يقين مما هو عليه، بل عناد واستكبار؛ فالمعتقد الخطأ لا يمكن أن يكون يقينا، بل الذي يجعله شبه يقين هو ما تهوى الأنفس، من حب رياسة أو عرض من عرض الدنيا.
- ومنها ـ وهو ما كتبتُ لأجله ـ فساد دعوى احترام رأي (الآخر) من الكافرين والمنافقين، وخاصة المنظرين منهم لباطلهم، فكما رأينا ليس عندهم إلا الظنون، هذا إن لم يبحثوا، وإن بحثوا واستمعوا لخطاب الشرع فلا بد أن ستتولد قناعة عندهم بصواب ما يُدْعَوْنَ إليه وباطل ما هم عليه، إلا أن موانعا تتدخل وتحول بينهم وبين إتباع الدين الصحيح. ولذا نجد في كتاب الله تعالى مثل {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [سورة آل عمران: 70]، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة آل عمران: 71]، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سورة آل عمران: 99]؛ فهم مقرون شاهدون، يعرفون، ومع ذلك يبغونها عوجا ويصدون عن سبيل الله من آمن.
ونصارى نجران ـ وفيهم نزلت هذه الآيات من سورة آل عمران جادلوا النبي -صلى الله عليه وسلم- واشتدوا في جداله حتى قال -عليه الصلاة والسلام-: «لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْن أَهْل نَجْرَان حِجَابًا فَلَا أَرَاهُمْ وَلَا يَرَوْنِي» (14)، وهم كانوا يعرفون النبي -صلى الله عليه وسلم- يعرفون أنه نبي، ويتكلمون بذلك فيما بينهم ومع ذلك كانوا يجادلون أشد الجدال وكأنهم أصحاب حق.
ومثل ذلك كثير في السيرة النبوية، وقد عقد لها بن كثير بابا كاملا في كتابه البداية والنهاية جمع من اعترافاتهم الشيء الكثير، لمن شاء المزيد.
وأعني بفساد احترام رأي الآخر هنا أن لا نعتقد أنه على شيء، أو أن يقينا رسخ في قلبه فراح يدعو إليه مخلصا يرجو الله والدار الآخرة، وإنما كلهم كذبة يظنون ظنا، أما منازلته وسماع حجته والرد عليها فهذا لا بد منه ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينه.
ومنها أن معرفة هذا الأمر... أن ما في صدورهم ظنون لا حقائق يعطي لمن يحاورهم جرأة عليهم، فهي قلوب خاوية ليس فيها يقين، وشاكّة تبحث عن الحقيقة، أو تخفيها. وكم حدثنا من أسلموا عن حالهم وهم كفار، كيف كان شكهم وحيرتهم، وصدق الله العظيم: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [سورة الشورى: من الآية 14].
والسؤال الآن: كيف تتحول الحقائق إلى أوهام وظنون؟، أو كيف تتحول الأكاذيب والظنون (الأديان المحرفة والمذاهب الباطلة) إلى شبه حقائق في صدور أصحابها والدعاة إليها؟، أو كيف لا تُنشئ المعرفة بالله واليوم الآخر أثرا في القلب يظهر على الجوارح؟
وأطرحُ هذا السؤال كتعليل لهذه النفسية التي تبقى على ما لا تستيقن منه، وتتكلم بالظنون والأوهام... ما السبب في هذه الحالة؟، كيف تستقر على هذا الأمر؟
وتدبر معي:
يقول الله تعالى مخبرا عن حال المكذبين المعرضين في الدنيا: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [سورة المؤمنون: 63].
ويخبر سبحانه وتعالى عن حالهم يوم القيامة حين يرون العذاب فيقول -جل شأنه- : {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [سورة الأنبياء: 97].
ويقول الله تعالى مخاطبا المكذبين يوم القيامة: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [سورة ق: 22].
التعبير بـ (من) بدل (عن) والتي يقتضيها المعنى المتبادر للذهن في الآيات الثلاث له دلالة، وكأن ذكر الآخرة وما يتبع ذلك من أوامر ونواهي -على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم- في الدنيا كان سببا في غفلة الغافلين وإعراض المعرضين المكذبين.
وهذا ما فهمه الشيخ السعدي -رحمه الله- إذ يقول معلقا على آية (ق): {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [سورة ق: 22]: "أي: يقال للمعرض المكذب يوم القيامة هذا الكلام, توبيخا, ولوما وتعنيفا. أي: لقد كنت مكذبا بهذا, تاركا للعمل له فالآن كشفنا {عَنْكَ غِطَاءَكَ} الذي غطى قلبك, فكثر نومك, واستمر إعراضك" انتهى كلامه رحمه الله.
وقريب من هذا قول الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [سورة البقرة: من الآية 213]، وقول الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [سورة آل عمران: من الآية 19]، {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [سورة الشورى: من الآية 14]، {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [سورة الجاثية: 17].
فالآيات تتكلم أن هناك نفوسا تتبع الهوى وتضل حين يتضح لها الحق، وذلك بغيا وحسدا.
يعرض على القلب مانع فيمنع المعرفة بالله واليوم الآخر أن تنشأ أثرا في القلب (رغبة ورهبة) أو (رجاء وخشية).
قضية البعث والثواب والعقاب من الأمور المسلم بها عقلا قبل أن يكون شرعا، وصدق الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- قامت كل البراهين عليه. ولكن ليس كل من يعرف يتبع، وليس كل من يصدق يلتزم بما يُصدق به، بل تأتي العوارض من حب جاه ورياسة أو طلب شهوة بدنية أو نفسية فتمسك المعرفة.
وهاك بعض الصور لحال الناس بعد عرض الخبر عليهم.
هناك من يَكْذِبْ على نفسه أحيانا فيدعي أنه مُكذِّبٌ لم ير حقا كي يصدقه، وغالب هذا النوع هم المعرضون المنشغلون بأموالهم ونسائهم، فيكون قد سمع طرفا، فيرى أن الوحي سيأخذ من أمواله ومن أمْنه، وقد يضيق عليه في لذَّاته المحرمة، فينصرف عن الدّاعي إلى شهواته، ويتخذ من التكذيب ذريعة لعدم الاتباع، وقد يستغبي إن ألح عليه الداعي وجادله فكسر جداله كقوم شعيب عليه السلام {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ} [سورة هود: من الآية 91]، وإن كان لا يفهم خطابك فماذا ستفعل معه؟
اللهم إن تغير الخطاب... أو تنصرف وتتركه!!
وهناك من يعْنِد فيتكلم بأن مذهب المخالف هو الحق ويعلن العصيان بل ويحاربه، وهذا حال الملأ أرباب السلطان وأشباههم من المجرمين أرباب الأقلام، الذين ينظرون لباطلهم. ولا تقصر الصورة على قريش وحدها أو يهود أو نصارى نجران، هي نفسية تتكرر في كل زمان ومكان.
وبعضهم من يكون ضعيفا كَبُرَ العبيد في حسِّه فمشى ورائهم خوفا من سلطانهم أو طلبا لما في أيديهم.
وهناك من يكون مصدقا محبا لم ترقَ محبته لفصم أواصر الجاهلية كأبي طالب، وكالنفر من يهود الذين جاءوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأقروا له بأنه نبي الله، ولكن لم يتبعوه مخافة قومهم.
هؤلاء الخوف من قومهم أكبر في صدورهم من الخوف من عذاب الله.
وكالنفر الذين أسلموا ولم يهاجروا ثم خرجوا يوم بدر في صفوف الكافرين وهم (مؤمنين) (15)، ومن هاجروا ثم انقلبوا إلى مكة (16).
وهناك المنافقون، يصدقون، ويبغضون، وظاهرا يتبعون، وإن وجدوا عدوا غازيا ينقلبون ويحاربون. وهي نفوس مريضة تخشى الدوائر وتطلب السلامة في أبدانها وأموالها ولذا تتبع من غلب، وتصل حبال المودة مع كل من غلب.
والمقصود أن هذه الحالات جميعها لا تتبع ما تصدقه، تنقلب شهواتهم على ما في قلوبهم حتى تكاد تطمسه، تتركه صغيرا منزويا يتقلب من حين إلى حين، وتبقى الشخصية كما وصفها خالقها {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ}، {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ} [سورة النجم: 23].
والسبب الرئيس وراء ذلك كله، هو الجهل بيوم الدين، وما فيه من ثواب وعقاب، والغفلة عن مصارع الظالمين، وليس هذا من عندي بل هو قول ربي العليم الحكيم، وتدبر:
{إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} [سورة النحل: 22].
{وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [سورة المؤمنون: 74].
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى} [سورة النجم: 27].
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [سورة النمل: 4].
{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا ﴿٤٥﴾ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ﴿٤٦﴾ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا} [سورة الإسراء: 45ـ47].
{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر: 45].
{وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [سورة السجدة: 10].
{وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة الرعد: 5].
{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} [سورة الأنعام: 113].
{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ} [سورة النمل: 66].
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [سورة هود: 103].
{وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سورة سبأ: 21].
فالقلوب المنكرة هي قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، والذين لا يؤمنون بالآخرة هم من يتنكبون الصراط ويسلكون السبل، والذين لا يؤمنون بالآخرة تشمئز قلوبهم حين يذكر الله وحده ويولون على أدبارهم نفورا مما يسمعون، والذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين لا يؤمنون بالبعث إذا ضلوا (17) في الأرض. والذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين يصغون للأصحاب الشبهات والشهوات، والذين لا يلتفتون لآيات الله في الأرض والسموات هم الذين في شك منها، والذين لا يخافون عذاب الآخرة لا يستفيدون من مصارع الظالمين، وسلّط الله إبليس على الناس ليُعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك.
ومَنْ يؤمن بالقرآن ويستفيد به هم من يؤمنون بالآخرة، قال الله: {وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ۚ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [سورة الأنعام: 92]، وقال الله: {طس ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ ﴿١﴾ هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿٢﴾ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [سورة النمل: 1ـ 3].
الكل يسمع عن يوم الدين، بل وكثيرون يصدقون بما فيه من ثواب وعقاب، فلماذا لا يؤمنون؟
الخلل من أمرين:
الأول: أنها معرفة خبرية فقط، لا تقوى على المعارض من شبهة أو شهوة، وليس هناك تصور حقيقي للثواب والعقاب، فلو أن هناك تصور حقيقي للثواب والعقاب الأخروي لما تجرأ أحد على حدود الله.
الثاني: مظنِّة النجاة من العذاب، وهذا ما كانت تقوله يهود {وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة: من الآية 80]. أو تَبْيتُ النية للتوبة بعد المعصية على طريقة إخوة يوسف {اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} [سورة يوسف: 9].
ولهذا اعتنى الشرع بترسيخ الثواب والعقاب في حس من يخاطبهم، وتم ربط جميع الأوامر والنواهي بيوم الدين وما فيه من ثواب وعقاب، وقد فصلت هذا في موطن آخر ولا داعي للتكرار.
=========================
(1)ـ (إن) تأتي في اللغة العربية بمعنى (ما) النافية وتأتي بمعنى نعم، فهي من الأضداد، بمعنى (ما) النافية مثل قول الله تعالى: {إن يقولون إلا كذبا}، {إن أمسكهما من أحد من بعده}، وبمعنى نعم مثل قول الله تعالى: {إن هذان لساحران يريدان...}. ويحكى أن أعرابيا جاء لعبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنهما ـ وهو أمير بمكة، وسأله مالا، فلم ير له حقا في مال المسلمين فرده، فألح الأعرابي وأبى عبد الله بن الزبير، فردّ الأعرابي: "لعن الله دابة حملتني إليك"، فأجاب بن الزبير ـ وهو الشاهد ـ : "إن وصاحبها"، أي نعم وصاحبها.
(2) بن كثير تفسير قول الله تعالى: {قتل الخراصون} [سورة الذاريات: 10].
(3) راجع تفسير الطبري للأية 10 من سورة الذاريات.
(4) الطبري الآية 148 من سورة الأنعام.
(5) راجع تفسير السعدي الآية 116 من سورة الأنعام.
(6) نعم هناك كفر الجهل، وكفر الشك، و هذا الجهل والشك لا يستمر إلا إذا جاءه الإعراض.
(7) الملأ هم أشراف الناس وسادتهم.
(8) بن كثير الآية 90 من سورة البقرة.
(9) أمشاج تعني أَخْلَاط. وَاحِدهَا: مِشْج وَمَشِيج ــ القرطبي عند تفسير 2 من سورة الإنسان.
(10) قلتُ بعد نفخ الروح فيها، وذلك لأن النفس والروح شيء آخر غير البدن الذي يتكون من الحيوان المنوي والبويضة، فالإنسان ثلاثي التركيب، (بدن، وروح ونفس)، وكل واحد منهم له مصدر غير الآخر، وقد أطال الكلام في التدليل على ذلك الباحث/ أحمد كرار أحمد الشنقيطي في بحثه القيم ما هية النفس.
(11) مسلم / 5109 . كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها.
(12) ذكره بن حجر في فتح الباري عند شرح حديث أبي هريرة: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه"... الحديث / 1299، وانظر شرح حديث ابي هريرة ذاته في تحفة الأحوذي حديث رقم 2094.
(13) مسلم / 218، كتاب الإيمان وفي الحديث دِلالة على أن من لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور وهذا جار على ما تقدم في الأصول أنه لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح، والله أعلم) من شرح النووي للحديث.
(14) ذكره الطبري عند الكلام على آية المباهلة في سورة آل عمران الآية 61.
(15) نزل فيهم قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً} [سورة النساء: 97].
(16) نزل فيهم قول الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [سورة النساء: 88].
(17) مادة (ضلَّ) يدور معناها على الخفاء (لسان العرب، ج 11/395)، وضللنا في الأرض تعني غِبْنا فيها حتى خفينا في التراب، ومنه ضل الماء في اللبن إذا غاب فيه وخفي ولم يعد يتبين (الطبري عند تفسير الآية العاشرة من سورة السجدة).
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
بقلم/ محمد جلال القصاص
بعض الأفكار كالصيد السمين الكسيح يطالها كل ذي قلم، وبعض الأفكار كالغزال الشرود تبصره وبالكاد تصيده، وهذه فكرة تتحرك من سنين أمام عيني، أدقق فيها النظر وبالكاد أراها، ومازلت أتتبعها حتى أبصرتها وأمسكت بها، وها أنذا أضعها بين أيديكم.
ما القصة؟
القصة تتعلق بـ (الآخر)، كل الآخر، من الكافرين والمنافقين، عامتهم والذي يتولى كِبْره منهم،
أهؤلاء مقتنعون بما هم عليه؟!
قد يبدو السؤال غريبا، ولكن: هو بخلدي من سنين وإجابته هي صيدي اليوم في هذه الدراسة البسيطة.
للإجابة على هذا السؤال أعرض على حضراتكم ثلاثة شرائح من الأدلة الشرعية.
الشريحة الأولى:
يقول الله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [سورة الأنعام: 116].
ويقول الله تعالى: {أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [سورة يونس: 66].
ويقول الله تعالى: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [سورة النجم: 28].
ويقول الله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} [سورة النجم: 23].
ويقول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [سورة البقرة: 78].
ويقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [سورة الجاثية: 24].
الشريحة الثانية:
قول الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [سورة يونس: 3].
وقول الله تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل: 17].
وقول الله تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [سورة النمل: 62].
وقول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [سورة السجدة: 4].
وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [سورة القصص: 43].
وقول الله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [سورة القصص: 46].
وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [سورة القصص: 51].
{وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [سورة هود: 30].
قول الله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ۚ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ۚ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ۗ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۗ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [سورة الأنعام: 80].
وقول الله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [سورة طه: 44].
{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [سورة الأعراف: 130].
الشريحة الثالثة:
قول الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [سورة النمل: 14].
وقول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿٨٩﴾ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [سورة البقرة: 89 ـ90]
وقول الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴿١٧٥﴾ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة الأعراف: 176].
{إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} [سورة يونس: 7].
تحليل الشرائح الثلاث:
الشريحةُ الأولى تتكلم بأقوى أدوات الحصر (النفي والاستثناء) (1) بأن هؤلاء ليس عندهم إلا الظن في قلوبهم، وأحاديثهم أحاديث ظنٍ وإن ألبسوها ثوبَ اليقين.
فنحن أمام حقيقة شرعية لا صوارف لها -وسيأتي مزيد بيان من دِلالِة السياق الفعلي إن شاء الله وقدر- أن هؤلاء لا يتبعون حقا... ليسوا على قناعة مما يقولونه بل هم يخرصون... يظنون.
والخَرَصُ هو التكلم عن ظنٍ كاذبٍ وحُسبان باطل وليس عن يقين صادق، والخرَّاصون هم الكذَّابون المرتابون (2)، أهل الظنون (3)، الكاذبة والحسبان الباطل، (الذين يتقولون الباطل على الله ظنا بغير يقينِ علم ولا برهان واضح) (4)، (علومهم ليس فيها تحقيق, ولا إيصال لسواء الطريق. بل غايتهم أنهم يتبعون الظن, الذي لا يغني من الحق شيئا ويتخرصون في القول على الله, ما لا يعلمون (5) (
هكذا وصف خالقهم ما في قلوبهم، ظنون ليس إلا.
وفي الشريحة الثانية:
إبراهيم عليه السلام ينادي قومه: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ۚ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ۗ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۗ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [سورة الأنعام: من الآية 80].
يتذكرون ماذا؟!... السياق يقتضي أفلا تعلمون؟
أليس كذلك؟!
وكأنَّ ما يدعوهم إليه معلوم عندهم، ولكنهم نسوه بل تناسوه.
وفي معرض ذكر الفائدة من قصة موسى عليه السلام يخبر ربنا ـ جلَّ وعلى ـ بأن ذلك {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [سورة القصص: 46]. وأنهم جاءهم البيان مدعوما بحال من صدَّقوا من قبل وحال من كذبوا لعلهم يتذكرون: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [سورة القصص: 51].
ونوح عليه السلام ينادي قومه {وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [سورة هود: 30].
وآل فرعون {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [سورة الأعراف: 130].
وكأن هناك شيئا مطموسا، (مردوماً) عليه يذكرهم به النبي، فهو ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا يأتيهم بجديد ـ من حيث الجملة ـ وإنما فقط النبي مُذَكِر {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [سورة الغاشية: 21] .
وفي الشريحة الثالثة:
بيان أن كفر من كفر (6) -وخاصة الملأ (7)- لا يكون جهلا بل عنادا واستكبارا، فهذا فرعون، لم يتكلم يوما بأن موسى ـ عليه السلام ـ نبيا ولا أنه ليس بإله، ومع ذلك يقرر القرآن: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [سورة النمل: 14].
فهنا جملتان، خبرية... وتعليلية، {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}... لماذا؟... {ظُلْماً وَعُلُوّاً} أي ليس جهلا أو تكذيبا.
وقول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿٨٩﴾ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [سورة البقرة: 89 ـ90].
هنا جملتان أيضا، خبرية تقريرية {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ}، والثانية تعليلية لهذه الجملة الخبرية {بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}...
"يقول بئسما اعتاضوا لأنفسهم فرضوا به وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل الله على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن تصديقه وَمُوَازَرَته ونصرته وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية {أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}" (8).
فكُفْرُ يهود لم يكن لجهلهم ولا لتكذيبهم، وإنما {بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}...
وكذا حبر يهود (بلعام) الذي أتاه الله آياته فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاويين، ضلَّ بعدما عرف آيات الله.
فواضحٌ جدا من هذه الشرائح الثلاث أن أهل الباطل -عامتهم ومَن تولى كبره منهم- ليسوا على يقين من أمرهم، وإنما يخرصون، هناك شيء مطموس في قلوبهم يوارونه عن الناس ويغالبونه لشهوةِ جاه- كما الملأ، أو حقدٍ كما يهود، أو انشغال بأمور الرزق كما العامة في كل زمان ومكان.
هناك شيء مطموس تذكر به آيات الله المقروءة والمرئية، هذا الشيء هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، هو الإسلام بمفهومه العام، هو ما أودعه الله في النفوس بأن هذه الحياة ليست سدى وإنما ورائها ثواب وعقاب.
وهذا يقتضي الوقوف قليلا لبيان معنى الفطرة، فيما يختص بالإسلام.
الفطرة:
بداية الإنسان هي النطفة الأمشاج (9) {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [سورة الإنسان: 2]، التي تتكون من الحيوان المنوي والبويضة بعد التخصيب، هذه النطفة الأمشاج ـ بعد نفخ الروح فيها (10) ـ تحمل كل صفات الرجل النفسية والبدنية. هذا الطفل المولود تكون فيه جميع الصفات مركوزة بداخلة تظهر حين ينضج شيئا فشيئا، ففي البداية تظهر الحاجة للطعام والشراب، ومحبة من يداعب وبغض من يعبس ويكفهر، ثم يأتي حب اللعب، وعند البلوغ يأتي الميل للجنس الآخر دون أن يُعلمه أحد، أين كانت محبة النساء أو الرجال؟... هل تعلمها؟... لا، إنها فطرة مركوزة بداخله.
وكذا الإسلام بمعناه العام، فطرة مركوزة بداخل الإنسان بحيث لو ترك بدون عوارض فإنه يتعرف على ربه أو يستجيب من فوره حين يسمع داعية. ويدل على هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين وغيرِهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ»، ثم يقول أبو هريرة ـرضي الله عنهـ {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}.
ونقل شارح سنن الترمذي الإجماع على أن معنى الفطرة هنا هو الإسلام، قال: "وَأَشْهَرُ الْأَقْوَالِ : "إِنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ الْإِسْلَامُ". قَالَ اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: "وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ". وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالتَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الْإِسْلَامُ, وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْبَابِ اِقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، وَبِحَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ: «إِنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ عَنْ دِينِهِمْ» الْحَدِيثَ. وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ فَزَادَ فِيهِ: «حُنَفَاءَ مُسْلِمِينَ», فَظَهَرَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِلَّةِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ هِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ".
ويزيد الأمر بيانا ما جاء عند مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ذات يوم في خُطبته: «أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا» (11).
وجاء في شرح النووي للحديث: "قوله تعالى: «وَإِنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاء كُلّهمْ»، أَيْ : مُسْلِمِينَ, وَقِيلَ: طَاهِرِينَ مِنْ الْمَعَاصِي, وَقِيلَ: مُسْتَقِيمِينَ مُنِيبِينَ لِقَبُولِ الْهِدَايَة"، "وقد رواه غيره فزاد فيه «حنفاء مسلمين»" (12).
فالفطرة هي الإسلام، هذا ما فهمه الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم من النصوص الصريحة، هي قوة مركوزة في الإنسان تماما كقوة الشهوة، وحب ما ينفع والسعي في تحصيله وبغض ما يضر والسعي في دفعه. هي قوة تجعل المرء حين يسمع بالإسلام، وكأنه سمع به من قبل، وكأن داعيه يذكره بشيء عنده، ولذا جاءت النصوص تخاطب مَنْ لم يخاطبوا بالشرع من قبل تقول لهم "أفلا تذكرون"، "لعلهم يتذكرون".
هي قوة لا تمحيها تربية الآباء لأبناءهم على الكفر بربهم، فتظل هناك في القلب تورث حسكة وتجعل العلم "بالباطل" ظنا، وحديث صاحبه ظنا كاذبا وحُسبانا باطلا.
ولعل هذا يفسر لك ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» (13).
فمجرد السماع كاف، نعم كاف تماما لأن يقبل صاحبه على الداعي ينظر ما عنده، لماذا لأنه يلقى الفطرة المركوزة في جوف كل ولد آدم منذ خلقهم ربهم: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ} [سورة الأعراف: 172].
ما فــــــــائــــــــــدة الكلام في الفطرة من الناحية الدعوية؟
لهذا الكلام فوائد في الناحية الدعوية:
- منها أن الإسلام بمفهومه العام، الذي هو الاستسلام لله عز وجل، واتباع المرسلين والعمل ليوم الدين قوة مركوزة في قلب كل إنسان، تحتاج فقط من يحركها بتعريفها على ربها وما أعده للصالحين من عباده من ثواب، وما توعد به العاصين من عباده من عقاب.
- ومنها أنْ ليس عند كافرٍ يقين مما هو عليه، بل عناد واستكبار؛ فالمعتقد الخطأ لا يمكن أن يكون يقينا، بل الذي يجعله شبه يقين هو ما تهوى الأنفس، من حب رياسة أو عرض من عرض الدنيا.
- ومنها ـ وهو ما كتبتُ لأجله ـ فساد دعوى احترام رأي (الآخر) من الكافرين والمنافقين، وخاصة المنظرين منهم لباطلهم، فكما رأينا ليس عندهم إلا الظنون، هذا إن لم يبحثوا، وإن بحثوا واستمعوا لخطاب الشرع فلا بد أن ستتولد قناعة عندهم بصواب ما يُدْعَوْنَ إليه وباطل ما هم عليه، إلا أن موانعا تتدخل وتحول بينهم وبين إتباع الدين الصحيح. ولذا نجد في كتاب الله تعالى مثل {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [سورة آل عمران: 70]، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة آل عمران: 71]، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سورة آل عمران: 99]؛ فهم مقرون شاهدون، يعرفون، ومع ذلك يبغونها عوجا ويصدون عن سبيل الله من آمن.
ونصارى نجران ـ وفيهم نزلت هذه الآيات من سورة آل عمران جادلوا النبي -صلى الله عليه وسلم- واشتدوا في جداله حتى قال -عليه الصلاة والسلام-: «لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْن أَهْل نَجْرَان حِجَابًا فَلَا أَرَاهُمْ وَلَا يَرَوْنِي» (14)، وهم كانوا يعرفون النبي -صلى الله عليه وسلم- يعرفون أنه نبي، ويتكلمون بذلك فيما بينهم ومع ذلك كانوا يجادلون أشد الجدال وكأنهم أصحاب حق.
ومثل ذلك كثير في السيرة النبوية، وقد عقد لها بن كثير بابا كاملا في كتابه البداية والنهاية جمع من اعترافاتهم الشيء الكثير، لمن شاء المزيد.
وأعني بفساد احترام رأي الآخر هنا أن لا نعتقد أنه على شيء، أو أن يقينا رسخ في قلبه فراح يدعو إليه مخلصا يرجو الله والدار الآخرة، وإنما كلهم كذبة يظنون ظنا، أما منازلته وسماع حجته والرد عليها فهذا لا بد منه ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينه.
ومنها أن معرفة هذا الأمر... أن ما في صدورهم ظنون لا حقائق يعطي لمن يحاورهم جرأة عليهم، فهي قلوب خاوية ليس فيها يقين، وشاكّة تبحث عن الحقيقة، أو تخفيها. وكم حدثنا من أسلموا عن حالهم وهم كفار، كيف كان شكهم وحيرتهم، وصدق الله العظيم: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [سورة الشورى: من الآية 14].
والسؤال الآن: كيف تتحول الحقائق إلى أوهام وظنون؟، أو كيف تتحول الأكاذيب والظنون (الأديان المحرفة والمذاهب الباطلة) إلى شبه حقائق في صدور أصحابها والدعاة إليها؟، أو كيف لا تُنشئ المعرفة بالله واليوم الآخر أثرا في القلب يظهر على الجوارح؟
وأطرحُ هذا السؤال كتعليل لهذه النفسية التي تبقى على ما لا تستيقن منه، وتتكلم بالظنون والأوهام... ما السبب في هذه الحالة؟، كيف تستقر على هذا الأمر؟
وتدبر معي:
يقول الله تعالى مخبرا عن حال المكذبين المعرضين في الدنيا: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [سورة المؤمنون: 63].
ويخبر سبحانه وتعالى عن حالهم يوم القيامة حين يرون العذاب فيقول -جل شأنه- : {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [سورة الأنبياء: 97].
ويقول الله تعالى مخاطبا المكذبين يوم القيامة: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [سورة ق: 22].
التعبير بـ (من) بدل (عن) والتي يقتضيها المعنى المتبادر للذهن في الآيات الثلاث له دلالة، وكأن ذكر الآخرة وما يتبع ذلك من أوامر ونواهي -على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم- في الدنيا كان سببا في غفلة الغافلين وإعراض المعرضين المكذبين.
وهذا ما فهمه الشيخ السعدي -رحمه الله- إذ يقول معلقا على آية (ق): {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [سورة ق: 22]: "أي: يقال للمعرض المكذب يوم القيامة هذا الكلام, توبيخا, ولوما وتعنيفا. أي: لقد كنت مكذبا بهذا, تاركا للعمل له فالآن كشفنا {عَنْكَ غِطَاءَكَ} الذي غطى قلبك, فكثر نومك, واستمر إعراضك" انتهى كلامه رحمه الله.
وقريب من هذا قول الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [سورة البقرة: من الآية 213]، وقول الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [سورة آل عمران: من الآية 19]، {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [سورة الشورى: من الآية 14]، {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [سورة الجاثية: 17].
فالآيات تتكلم أن هناك نفوسا تتبع الهوى وتضل حين يتضح لها الحق، وذلك بغيا وحسدا.
يعرض على القلب مانع فيمنع المعرفة بالله واليوم الآخر أن تنشأ أثرا في القلب (رغبة ورهبة) أو (رجاء وخشية).
قضية البعث والثواب والعقاب من الأمور المسلم بها عقلا قبل أن يكون شرعا، وصدق الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- قامت كل البراهين عليه. ولكن ليس كل من يعرف يتبع، وليس كل من يصدق يلتزم بما يُصدق به، بل تأتي العوارض من حب جاه ورياسة أو طلب شهوة بدنية أو نفسية فتمسك المعرفة.
وهاك بعض الصور لحال الناس بعد عرض الخبر عليهم.
هناك من يَكْذِبْ على نفسه أحيانا فيدعي أنه مُكذِّبٌ لم ير حقا كي يصدقه، وغالب هذا النوع هم المعرضون المنشغلون بأموالهم ونسائهم، فيكون قد سمع طرفا، فيرى أن الوحي سيأخذ من أمواله ومن أمْنه، وقد يضيق عليه في لذَّاته المحرمة، فينصرف عن الدّاعي إلى شهواته، ويتخذ من التكذيب ذريعة لعدم الاتباع، وقد يستغبي إن ألح عليه الداعي وجادله فكسر جداله كقوم شعيب عليه السلام {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ} [سورة هود: من الآية 91]، وإن كان لا يفهم خطابك فماذا ستفعل معه؟
اللهم إن تغير الخطاب... أو تنصرف وتتركه!!
وهناك من يعْنِد فيتكلم بأن مذهب المخالف هو الحق ويعلن العصيان بل ويحاربه، وهذا حال الملأ أرباب السلطان وأشباههم من المجرمين أرباب الأقلام، الذين ينظرون لباطلهم. ولا تقصر الصورة على قريش وحدها أو يهود أو نصارى نجران، هي نفسية تتكرر في كل زمان ومكان.
وبعضهم من يكون ضعيفا كَبُرَ العبيد في حسِّه فمشى ورائهم خوفا من سلطانهم أو طلبا لما في أيديهم.
وهناك من يكون مصدقا محبا لم ترقَ محبته لفصم أواصر الجاهلية كأبي طالب، وكالنفر من يهود الذين جاءوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأقروا له بأنه نبي الله، ولكن لم يتبعوه مخافة قومهم.
هؤلاء الخوف من قومهم أكبر في صدورهم من الخوف من عذاب الله.
وكالنفر الذين أسلموا ولم يهاجروا ثم خرجوا يوم بدر في صفوف الكافرين وهم (مؤمنين) (15)، ومن هاجروا ثم انقلبوا إلى مكة (16).
وهناك المنافقون، يصدقون، ويبغضون، وظاهرا يتبعون، وإن وجدوا عدوا غازيا ينقلبون ويحاربون. وهي نفوس مريضة تخشى الدوائر وتطلب السلامة في أبدانها وأموالها ولذا تتبع من غلب، وتصل حبال المودة مع كل من غلب.
والمقصود أن هذه الحالات جميعها لا تتبع ما تصدقه، تنقلب شهواتهم على ما في قلوبهم حتى تكاد تطمسه، تتركه صغيرا منزويا يتقلب من حين إلى حين، وتبقى الشخصية كما وصفها خالقها {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ}، {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ} [سورة النجم: 23].
والسبب الرئيس وراء ذلك كله، هو الجهل بيوم الدين، وما فيه من ثواب وعقاب، والغفلة عن مصارع الظالمين، وليس هذا من عندي بل هو قول ربي العليم الحكيم، وتدبر:
{إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} [سورة النحل: 22].
{وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [سورة المؤمنون: 74].
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى} [سورة النجم: 27].
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [سورة النمل: 4].
{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا ﴿٤٥﴾ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ﴿٤٦﴾ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا} [سورة الإسراء: 45ـ47].
{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر: 45].
{وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [سورة السجدة: 10].
{وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة الرعد: 5].
{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} [سورة الأنعام: 113].
{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ} [سورة النمل: 66].
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [سورة هود: 103].
{وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سورة سبأ: 21].
فالقلوب المنكرة هي قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، والذين لا يؤمنون بالآخرة هم من يتنكبون الصراط ويسلكون السبل، والذين لا يؤمنون بالآخرة تشمئز قلوبهم حين يذكر الله وحده ويولون على أدبارهم نفورا مما يسمعون، والذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين لا يؤمنون بالبعث إذا ضلوا (17) في الأرض. والذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين يصغون للأصحاب الشبهات والشهوات، والذين لا يلتفتون لآيات الله في الأرض والسموات هم الذين في شك منها، والذين لا يخافون عذاب الآخرة لا يستفيدون من مصارع الظالمين، وسلّط الله إبليس على الناس ليُعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك.
ومَنْ يؤمن بالقرآن ويستفيد به هم من يؤمنون بالآخرة، قال الله: {وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ۚ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [سورة الأنعام: 92]، وقال الله: {طس ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ ﴿١﴾ هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿٢﴾ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [سورة النمل: 1ـ 3].
الكل يسمع عن يوم الدين، بل وكثيرون يصدقون بما فيه من ثواب وعقاب، فلماذا لا يؤمنون؟
الخلل من أمرين:
الأول: أنها معرفة خبرية فقط، لا تقوى على المعارض من شبهة أو شهوة، وليس هناك تصور حقيقي للثواب والعقاب، فلو أن هناك تصور حقيقي للثواب والعقاب الأخروي لما تجرأ أحد على حدود الله.
الثاني: مظنِّة النجاة من العذاب، وهذا ما كانت تقوله يهود {وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة: من الآية 80]. أو تَبْيتُ النية للتوبة بعد المعصية على طريقة إخوة يوسف {اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} [سورة يوسف: 9].
ولهذا اعتنى الشرع بترسيخ الثواب والعقاب في حس من يخاطبهم، وتم ربط جميع الأوامر والنواهي بيوم الدين وما فيه من ثواب وعقاب، وقد فصلت هذا في موطن آخر ولا داعي للتكرار.
=========================
(1)ـ (إن) تأتي في اللغة العربية بمعنى (ما) النافية وتأتي بمعنى نعم، فهي من الأضداد، بمعنى (ما) النافية مثل قول الله تعالى: {إن يقولون إلا كذبا}، {إن أمسكهما من أحد من بعده}، وبمعنى نعم مثل قول الله تعالى: {إن هذان لساحران يريدان...}. ويحكى أن أعرابيا جاء لعبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنهما ـ وهو أمير بمكة، وسأله مالا، فلم ير له حقا في مال المسلمين فرده، فألح الأعرابي وأبى عبد الله بن الزبير، فردّ الأعرابي: "لعن الله دابة حملتني إليك"، فأجاب بن الزبير ـ وهو الشاهد ـ : "إن وصاحبها"، أي نعم وصاحبها.
(2) بن كثير تفسير قول الله تعالى: {قتل الخراصون} [سورة الذاريات: 10].
(3) راجع تفسير الطبري للأية 10 من سورة الذاريات.
(4) الطبري الآية 148 من سورة الأنعام.
(5) راجع تفسير السعدي الآية 116 من سورة الأنعام.
(6) نعم هناك كفر الجهل، وكفر الشك، و هذا الجهل والشك لا يستمر إلا إذا جاءه الإعراض.
(7) الملأ هم أشراف الناس وسادتهم.
(8) بن كثير الآية 90 من سورة البقرة.
(9) أمشاج تعني أَخْلَاط. وَاحِدهَا: مِشْج وَمَشِيج ــ القرطبي عند تفسير 2 من سورة الإنسان.
(10) قلتُ بعد نفخ الروح فيها، وذلك لأن النفس والروح شيء آخر غير البدن الذي يتكون من الحيوان المنوي والبويضة، فالإنسان ثلاثي التركيب، (بدن، وروح ونفس)، وكل واحد منهم له مصدر غير الآخر، وقد أطال الكلام في التدليل على ذلك الباحث/ أحمد كرار أحمد الشنقيطي في بحثه القيم ما هية النفس.
(11) مسلم / 5109 . كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها.
(12) ذكره بن حجر في فتح الباري عند شرح حديث أبي هريرة: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه"... الحديث / 1299، وانظر شرح حديث ابي هريرة ذاته في تحفة الأحوذي حديث رقم 2094.
(13) مسلم / 218، كتاب الإيمان وفي الحديث دِلالة على أن من لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور وهذا جار على ما تقدم في الأصول أنه لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح، والله أعلم) من شرح النووي للحديث.
(14) ذكره الطبري عند الكلام على آية المباهلة في سورة آل عمران الآية 61.
(15) نزل فيهم قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً} [سورة النساء: 97].
(16) نزل فيهم قول الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [سورة النساء: 88].
(17) مادة (ضلَّ) يدور معناها على الخفاء (لسان العرب، ج 11/395)، وضللنا في الأرض تعني غِبْنا فيها حتى خفينا في التراب، ومنه ضل الماء في اللبن إذا غاب فيه وخفي ولم يعد يتبين (الطبري عند تفسير الآية العاشرة من سورة السجدة).
المصدر: طريق الإسلام
- التصنيف: