محدث الشام ومحدث العصر(2)
محمد ناصر الدين الألباني محدث الشام ومحدث العصر (1333هـ/1914م-1420هـ/ 1999م)
دعوته إلى السُنَّة وأثرها في العالم الإسلامي:
كان لاشتغال الشيخ الألباني بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أثره البالغ في التوجه السلفي للشيخ في التزام الكتاب والسنَّة، وقد زاد تشبثه وثباته على هذا المنهج مطالعته لكتب شيخ الإسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم وغيرهما من أعلام المدرسة السلفية.
وحن ظهر له بالحجَّة والبرهان أن كثيراً من الأشياء التي كان يعدُّها من الدِّين وكان عليها مشايخه، تخالف الكتاب والسنة، أقلع عنها ولزم السنَّة وناقش فيها مشايخه مبتدئاً بأقرب الناس إليه، والده، ومما قاله هو عن هذه المرحلة: «فلم أزل على خطِّ والدي في هذا الاتِّجاه حتى هداني الله إلى السنَّة فأقلعتُ عن الكثير مما كنت تلقَّيته عنه، مما كان يحسبه قربةً وعبادة».
ثم انتقل إلى دعوة مشايخه، وكانت مسألة التَّوحيد هي المسألة الكبيرة التي تفاصل فيها الشيخُ مع مشايخه، ومعظم مشايخ بلده، وقد أولى الشيخ - رحمه الله تعالى- مسألة التَّوحيد اهتماماً كبيراً وأعطاها من وقته كثيراً، وبذل في تبيينها جهداً عظيماً، دعوة وشرحاً، وتعليقاً وتأليفاً، وتحقيقاً ومناقشة.
وقد كتب الرحالةُ عبد الله الخميس في كتابه (شهر في دمشق):
«وهكذا وجدتُ السَّلفيةَ في دمشق بين صفوف الجامعة وفي حلقات العلماء، يحملها شباب مثقف مستنير يدرس الطبَّ والحقوق والآداب .. قال لي شابٌّ منهم: ألا تحضر درسنا اليوم؟ فقلت: يشرِّفني ذلك! فذهبت مع الشابِّ لأجد فضيلة الشيخ الألباني وحوله ما يزيد على الأربعين طالباً، من شباب دمشق المثقَّف، وإذا الدَّرس جارٍ في باب: (حمايةُ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- جنابَ التوحيد وسدُّه طرقَ الشرك) من كتاب (التَّوحيد) وشرحه (فتح المجيد) للمجدِّد الإمام محمد بن عبد الوهَّاب وحفيده - رحمهما الله - فعجبت أشدَّ العجب لهذه المصادفة الغريبة، وأنصتُّ لكلام الشيخ، وإذا بي أسمع التحقيقَ والتدقيق والإفاضة في علم التوحيد، وقوَّة التضلُّع فيه، وإذا بي أسمع مناقشةَ الطلاب الهادئة الرزينة، واستشكالاتهم العميقة.
وبدؤوا في درس الحديث من كتاب (الروضة النَّدية) وهنا سمعت علماً جمّاً وفقهاً وأصولاً وتحقيقاً .. ولم أزل طيلة مقامي بدمشق محافظاً على درس الشَّيخ .. وقد لمستُ بنفسي لهم تأثيراً كبيراً على كثير من الأوساط ذات التأثير بالرَّأي العام، مما يبشِّر بمستقبل جدُّ كبير لهذه الدَّعوة المباركة».
كما كان الشيخ الألباني راية الدعوة إلى التوحيد والسنة في سوريا حيث زار الكثير من مشايخ دمشق وجرت بينه وبينهم مناقشات حول مسائل التوحيد والإتباع والتعصب المذهبي والبدع، فلقي الشيخ لذلك المعارضة الشديدة من كثير من متعصبي المذاهب ومشايخ الصوفية والخرافيين والمبتدعة، فكانوا يثيرون عليه العامة والغوغاء ويشيعون عنه بأنه «وهابي ضال» ويحذرون الناس منه، هذا في الوقت الذي وافقه على دعوته أفاضل العلماء المعروفين بالعلم والدين في دمشق، والذين حضوه على الاستمرار قدماً في دعوته ومنهم، العلامة بهجت البيطار، الشيخ عبد الفتاح الإمام رئيس جمعية الشبان المسلمين في سوريا، الشيخ توفيق البزرة، وغيرهم من أهل الفضل و الصلاح -رحمهم الله-
النشاط الدعوي:
نشط الشيخ في دعوته من خلال:
- دروسه العلمية التي كان يعقدها مرتين كل أسبوع حيث يحضرها طلبة العلم وبعض أساتذة الجامعات، وكانت مجالس الشيخ عامرةً بالفوائد، غزيرةَ النفع في سائر العلوم، وقد قُرئ على الشيخ كتبٌ كثيرة في دمشق، إذ كان يعقد درسين كلَّ أسبوع يحضرهما طلبة العلم، من تلك الكتب: (زاد المعاد) لابن القيِّم، و(نخبة الفكر) لابن حجر، و(فتح المجيد) لعبد الرحمن بن الحسن بن محمد بن عبد الوهَّاب، و(الروضة النَّدية شرح الدرر البهيَّة) لصدِّيق حسن خان، و(أصول الفقه) لعبد الوهَّاب خلاف، و(الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث) لأحمد شاكر، و(منهج الإسلام في الحكم) لمحمد أسد، و(فقه السُّنة) لسيِّد سابق، و(رياض الصالحين) للنَّووي، و(الإلمام في أحاديث الأحكام) لابن دقيق العيد.
وقد كان يلقي الدروس والمحاضرات في داره، ودور تلاميذه وأصدقائه من مثل الأستاذ الشيخ عبد الرحمن الباني، والطبيب الألمعي أحمد حمدي الخياط.
- رحلاته الشهريه المنتظمة التي بدأت أسبوعاً من كلِّ شهر ثم استقرَّت على نحو ثلاثة أيام، كان يجوب بها المحافظات السُّورية، وكان لها الأثر الطَّيب في الدَّعوة إلى الله وإلى التَّوحيد ونبذ الشرك والخرافة، مع ما صاحبها من معارضة من أهل الأهواء.
يقول الألباني - رحمه الله -: «من آثار هذا الإقبال الطَّيب الذي لقيته هذه الدَّعوة أن رتَّبنا برنامجاً لزيارة بعض مناطق البلاد مابين حلب واللَّاذقية إلى دمشق، وعلى الرغم من قصر الأوقات التي خُصِّصت لكل من المدن، فقد صادفت هذه الرحلات نجاحاً ملموساً، إذ جمعت العديدَ من الراغبين في علوم الحديث على ندوات شبه دورية، يقرأ فيها من كتب السُّنة، وتتوارد الأسئلة، ويثور النقاش المفيد، إلا أن هذا التجوال قد ضاعف من نقمة الآخرين، فضاعفوا من سعيهم لدى المسؤولين، فإذا نحن تلقاء مشكلات يتصلُ بعضها برقاب بعض».
وكان من نتائج هذه الجهود المضادَّة إبعاد الشَّيخ إلى الحسكة - مدينة في الشَّمال الشَّرقي من سوريا-، ثم سجنه في سجن القلعة بدمشق، بالإضافة إلى تحذير طلاب العلم وعوامِّ النَّاس من الاستماع إليه ومجالسته والدعوة إلى هجرته ومقاطعته وكان - رحمه الله - يعقِّب على هذه الأحداث بقوله: «لقد كان لهذا كله آثارٌ عكسيَّة لما أرادوا، إذ ضاعفتُ من تصميمي على العمل في خدمة الدَّعوة حتى يقضيَ الله بأمره».
ثم كان من فضل الله عليه وعلى الناس أن ذاع صيتُه في أرجاء المعمورة، وانتشرت كتبه في الأقطار، يقتنيها العلماء وطلاب العلم.
صبره على الأذى وهجرته:
في أوائل (1960م) كان الشيخ يقع تحت مرصد الحكومة السوريه، مع العلم أنه كان بعيداً عن السياسة، وقد سبب ذلك نوعاً من الإعاقة له فقد تعرض للإعتقال مرتين، الأولى كانت قبل (1967م) حيث اعتقل لمدة شهر في قلعة دمشق وهي نفس القلعة التي اعتقل فيها شيخ الاسلام ابن تيمية، وعندما قامت حرب 67 رأت الحكومة أن تفرج عن جميع المعتقلين السياسيين.
لكن بعدما اشتدت الحرب عاد الشيخ إلى المعتقل مرة ثانية، ولكن هذه المرة ليس في سجن القلعة، بل في سجن الحسكة شمال شرق دمشق، وقد قضى فيه الشيخ ثمانية أشهر، وخلال هذه الفترة حقق مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري واجتمع مع شخصيات كبيرة في المعتقل.
هاجر الشيخ من دمشق إلى عمان في رمضان عام (1400هـ)، ثم اضطر للخروج منها عائدا إلى دمشق ومن هناك إلى بيروت، ثم هاجر إلى الإمارات حيث استقبله محبيه من أهل السنة والجماعة وحل ضيفا على جمعية دار البر، فكانت أيامهم معه أيام علم ونصح وإرشاد وإنهاك في العلم، وإبان إقامة الشيخ في الإمارات تمكن من السفر إلى الدول الخليجية المجاورة والتقى في قطر الشيخ محمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوي، ثم عاد إلى دمشق، وكانت آخر زيارة له لدولة الإمارات في عام (1989م)، وحين نزل ضيفا على جمعية دار البر ألقى الدروس في مزرعة رئيس الجمعية، وسمي المسجد التابع للمزرعة مسجد الإمام الألباني، تخليدا لذكرى زيارته، وفي رمضان عام (1419هـ) فرح المسلمون بإعطاء شيخ الإسلام جائزة الملك فيصل وهذا تقدير وعرفان من المملكة العربية السعودية لما قام به الشيخ من خدمة للإسلام والمسلمين.
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف:
- المصدر: