الربيع العربي: هل تعلّم العالم شيئًا؟

منذ 2016-01-05

كان الربيع العربي لحظة ميلاد، فتحوّل إلى كابوس. لقد حدث، من سوء حظه، في المنطقة الخطأ. لم يحدث في أوروبا الشرقية، مثلاً، ليحظى بالدعم والتعاطف. ولم تَعْيَ القوى الغربية المهيمنة في إجهاضه، فقد تكفّلت دول «متماسكة» في المنطقة بكل شيء، وكانت النتيجة، كما يحدث في العادة، «قذيفة مرتدة» اسمها «الإرهاب».

لا يبدو أن الأنظمة العربية الشمولية تتعلم من دروس الربيع العربي. كما لا يبدو أن الغرب وثيق الصلة بهذه الأنظمة جاهز لإعادة النظر في تأييده لها، وتحالفه معها. تفشل دول، وتتشظى أخرى، فتستجيب أنظمة «متماسكة» في المنطقة لذلك بإعادة إنتاج استبدادها، وبمزيد من احتواء «الإرهاب المحتمل» (تعبير السيسي) عبر ممارسة الإرهاب. لا تريد الأنظمة، ومعها الراعي الغربي، مواجهة الحقيقة؛ وهي أن الاستبداد يسبق «الإرهاب»، وأن الحرب على الإرهاب تتجاهل روافده التي تغذّيه: الظلم، التهميش، سحق الديموقراطية، قمع الأصوات الحرة وتخوينها، صناعة طبقة فاسدة من المنتفعين و «الزبانية» و «الشبيحة».

كان الربيع العربي لحظة ميلاد، فتحوّل إلى كابوس. لقد حدث، من سوء حظه، في المنطقة الخطأ. لم يحدث في أوروبا الشرقية، مثلاً، ليحظى بالدعم والتعاطف. ولم تَعْيَ القوى الغربية المهيمنة في إجهاضه، فقد تكفّلت دول «متماسكة» في المنطقة بكل شيء، وكانت النتيجة، كما يحدث في العادة، «قذيفة مرتدة» اسمها «الإرهاب».

منذ البداية، نظر صانع القرار في العواصم الغربية إلى الثورات العربية بتوجس، ومازال. ولمّا طال أمد الثورة في سوريا، وسمحت «الدول الكبرى» لآلة القتل الطائفية العابرة للحدود بإبادة مئات الألوف من السوريين السنّة، وخرجت من رحم الهولوكوست حركات مثل «جبهة النصرة» و «تنظيم الدولة/داعش»، ظهرت التحذيرات من بعبع «الإرهاب» الذي يهدد بالتهام المنطقة، وتغيير معالمها الجيوسياسية، وخفتت شيئًا فشيئًا نبرة التنديد بحرب الإبادة الطائفية وتداعياتها المأساوية واسعة النطاق. وباستثناء الخطابة، فقد انحازت إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، إلى مشروع الإبادة، وضغطت على الدول المتعاطفة مع الشعب السوري لكي لا تمدّه بأسلحة نوعية كمضادات الطائرات، الأمر الذي تسبّب في استشهاد عشرات الآلاف من المدنيين السنّة بالبراميل المتفجرة.

في النهاية، لم يكن أوباما إلا مجرم حرب، كغيره من قادة الدول الكبرى، ودول أخرى، امتنعوا عن تزويد الضحايا بالوسائل المشروعة للدفاع عن النفس.

أتى الربيع العربي بوعد الحكم الرشيد والعدالة الاجتماعية، فدِيس بالدبابات في عواصم عربية عدّة، واستحال إلى ركام. تسيّدت رواية «الإرهاب» المشهد، ووُوريت الديموقراطية الشهيدة الثرى في المهد. ليس للعربي أن يحلم بانقشاع الهيمنة الغربية و «النخب» المحلية التي صنعها الغرب على عينه، والمسؤولة عمليًا عن إجهاض الحُلُم. جابت الطائرات أجواء الشام، وتحرّكت الأساطيل في المتوسط، لمواجهة «القذيفة المرتدة» التي نجمت عن تحويل الثورات العفوية السلمية إلى حروب طاحنة يشارك فيها «إرهابيون» من كل جنس، وموجات هجرة غير مسبوقة أصابت أوروبا بالذعر، لكنها لم تدفعها إلى مساءلة السياسات، وسبر الجذور. لا شيء يهم في ذلك الجزء من العالم إلا بالقدر الذي يؤثر به علينا. هكذا يوحي السلوك الغربي.

يمكن حل مشكلة «الإرهاب» بإنزال قنابل على تكريت والفلوجة في العراق، أو على الرقة ودير الزور في سوريا، ويمكن حل مشكلة اللجوء باستيعاب مهاجرين، أو ببناء جُدُر تصدّ تدفّقهم (كالجدارين اللذين بنتهما المجر ومقدونيا على حدودهما) من دون مواجهة أسبابها. إصرار على المضي في المقاربة السطحية، وتجنب استقصاء ما تحت السطح. سنوات عدّة، وسوريا تُذبح تحت سمع «المجتمع الدولي» وبصره، بل بإشرافه ومتابعته، فقد ظل يرسل المبعوثين إلى دمشق وهو يعلم أنها مفاوضات عقيمة لا تسفر إلا عن منح السفاح مزيدًا من الوقت ليُجهز على الثورة. وجاء الدب الروسي ليقضي على الإرهاب بزعمه، فلم يمس «داعش» بسوء، وطفق يمارس القتل الجماعي للمدنيين في المساجد والأسواق والمستشفيات من دون أن يثير ذلك كلمة استنكار واحدة من «المجتمع الدولي»، الذي قال بلسان الحال: لم آمر به، ولم يسؤني. حتى الجامعة العربية لم تعترض على المجازر الروسية في الشام. النظام الرسمي العربي الراهن انهار تمامًا، وليس من الممكن إحياؤه.

ورغم كل هذا المشهد السريالي في المنطقة، ورغم التوحش الإيراني والروسي في سوريا، فإن من الدول العربية «المتماسكة» من لاتزال تعيش حال إنكار غير آبهة بالعواصف التي تجتاحها. الإصلاحات ليست مؤجلة فحسب، بل ثمة مزيد من التهميش لحرية التعبير، والتضييق على المجتمع المدني. كان يمكن أن تسعى هذه الدول إلى توسيع قاعدة الحوار، وتخفيف الضغط على المنظمات الخيرية؛ تدعيمًا للجبهة الداخلية في مواجهة الضغط الخارجي، لكنها لم تفعل، ما يشي بعجزها عن الرؤية، والتكيف مع الواقع. تنسى هذه الدول أن مواجهة ما يُسمى الإرهاب، لن تنجح مادامت الحلقة الجهنمية للاستبداد حيّة وقادرة على إنتاج نفسها. تنسى أن الاحتفال بالتنوع في ظل احترام النظام العام يعزّز الاستقرار، ويضيّق هامش التطرف. تنسى أن قيام المجتمع المدني بمسؤولياته يساعدها على التفرغ لمهام أخرى، ويخفف عبء المسؤولية عن كاهلها. الأمم العظيمة هي التي تمتلك شجاعة الاعتراف بالخطأ، والإمساك بزمام المبادرة. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بقلم: أحمد بن راشد بن سعيد