من أخطائنا الفكرية - (3) تعميم الأحكام
ولا يجب بحال أن نصدر أحكام عامة على الناس ونعطيها حكم اليقين فنجرم المجتمع بسبب بعض المجرمين فيه، ونكفر المجتمع لبعض المخالفين فيه، أو نهجر الوطن لفشو بعض مظاهر الفسق فيه.
من الأخطاء الجسيمة التي لا يكاد يسلم منها إلا الراسخون في العلم تعميم الأحكام بوجه عام على الناس إذا كانوا مخالفين لنا في الرأي أو الفكر أو العقيدة، أو المذهب، وهذا ظلم بينٌ يجب أن ندرب أنفسنا على التخلص منه ونتأدب في ذلك بأدب القرآن الكريم، وسنة الرسول صاحب الخلق العظيم، وسير الصحابة والتابعين في التعامل مع الغير وكيفية الحكم على الشخص نفسه دون تعميم أو تحميل وزره ونسبته للآخرين.
هناك أناس حملهم الطيش والغرور، أو سطحية التفكير، أو التعصب الأعمى يعتقدون أن رأيهم حجة يجب الالتزام بها ولو كانت بغير دليل، ورأي المخالفين لهم بدعة يجب اجتنابها ولو كان صحيح الدليل، وهذه العقلية أساءت للإسلام نفسه قبل أن تسيء لصاحبها، لأن علوم الشريعة أكبر من أن يحيط بها بشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أدري كيف سمح هؤلاء لأنفسهم الحق في تعميم الأحكام على الناس المخطئ منهم والمصيب، والمحسن والمسيء لمجرد أنهم لا يشاركونهم الفكر أو المذهب أو العقيدة؟
تعال معي أخي القاري نتعلم من أسلوب القرآن الكريم في الحكم على أفعال الناس عامة المؤمن والمنافق، والمشرك حيث إنه يستخدم أداة التبعيض (من) للحكم على بعض الناس دون تعميم وإليك بعض الاستدلالات لذلك.
ففي مقام المؤمنين ذكر الله سبحانه أنهم ليسوا في درجة واحدة في وفائهم وثباتهم، وحبهم للشهادة قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]. قَالَ الْحَسَنُ: "فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ يَعْنِي مَوْتَهُ عَلَى الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الْمَوْتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُبَدِّلْ تَبْدِيلًا" [تفسير ابن كثير-ط العلمية 6/ 353].
ومع أهل الكتاب يقول الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ويقولون علَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:75].
فالآية الكريمة قسمت أهل الكتاب من حيث أداء الأمانة على قسمين: أصحاب أمانة، وأصحاب خيانة قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْدَعَ رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ أَلْفًا وَمِائَتَيْ أُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَأَدَّى إِلَيْهِ، وَأَوْدَعَ آخَرُ فِنْحَاصَ بْنَ عَازُورَاءَ دِينَارًا فَخَانَهُ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. (تفسير الرازي 8/262) وهذا معناه "أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ فِي غَايَةِ الْأَمَانَةِ حَتَّى لَوِ اؤْتُمِنَ عَلَى الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ أَدَّى الْأَمَانَةَ فِيهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي غَايَةِ الْخِيَانَةِ حَتَّى لَوِ اؤْتُمِنَ عَلَى الشَّيْءِ الْقَلِيلِ، فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ فِيهِ الْخِيَانَةَ" (تفسير الرازي 8/263).
ومع المنافقين نجد نفس الأسلوب في الحكم فلم يصنفهم درجة واحدة من حيث عداوتهم للإسلام ومن تصفح سورة التوبة يجد إنصاف القرآن في وصف المنافقين بحرف الجر من الذي يفيد التبعيض في قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58]، وقوله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة:61]، {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ} [التوبة:75]، وقوله: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي} [التوبة:49].
وهو نفس الوصف الذي اتبعه مع الأعراب في نفس السورة: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} [التوبة:98]، وقوله: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:99]، وقوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة:101].
وقد علمنا الرسول عليه السلام أن ننصف الناس ونعطي كل ذي حق حقه بصرف النظر عن عقيدته ومعتقده فنراه فيقول في عمرو بن عامر: «البخاري:4/ 184 عن أبي هريرة رضي الله عنه).
» (صحيحوفي شاعر الجاهلية لبيد يقول صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صحيح البخاري:5/42 عن أبي هريرة).
» (وفي امرئ القيس يقول عليه السلام: «
» (مسند أحمد-ط الرسالة: 12/27).ونراه عليه السلام يحكم بالظاهر دون عنت البحث عن ماضي الشخص وتاريخه أو دوافعه ويعاتب الصحابي أسامة بن زيد لأنه قتل رجلًا نطق بالشهادتين أمام بريق السيف يقول أسامة رضي الله عنه: "بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ، فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]؟ فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ (صحيح مسلم:1/96).
» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ: « » فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَقَالَ سَعْدٌ: وَأَنَا وَاللهِ لَا أَقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ يَعْنِي أُسَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ يَقُلِ اللهُ: {إن مبدأ تعميم الأحكام يجب أن يتخلى عنه كل مسلم والعلماء خاصة لأنه مناف لروح الدين، ومنفر لغير المسلمين من اعتناقه أو التعاطف مع أتباعه، فالخطيب أو الداعية الذي حمله غضبه على تعميم الدعاء على سائر المشركين بقوله مثلًا: اللهم أحصهم عدداَ ولا تبقِ منهم أحداَ، أو اللهم عليك بالكفار عامة هو في الواقع -مع تقديرنا لحماسته وحبه وغيرته لدينه- يسيء لهذا الدين من حيث لا يشعر لأنه بكل بساطة يفقد من يتعاطفون معه ويناصرون قضاياه من غير عقيدته إذ كيف يقبل إنسان أن تدعو عليه وتنتظر منه أن يمد لك يد العون، والوقوف بجانب قضاياك المصيرية؟
والذين يتهمون بعض المجتمعات العربية بصفات رذيلة لمجرد خطأ حدث من بعض أفرادها مخطئون كذلك؛ لأن المجتمعات فيها الصالح والطالح، والعالم والجاهل، والمحسن والمسيء، وقد كان في المجتمع النبوي -وهو النموذج الفريد في المثالية- زناة وسراق ولم نسمع واحدًا من الصحابة، أو التابعين حمَّل المجتمع وزرهم؛ لأن أي مجتمع بشري مهما بلغ من النضج والوعي الفكري لا بد أن يكون فيه شواذ، والشاذ لا يقاس عليه، ولو كان المجتمع كله صالحًا لما كان هناك فائدة في آيات القرآن التي تتحدث عن المجرمين والسراق والزناة والمرابين والكاذبين والحاسدين والمفسدين ولما كان هناك فائدة أصلًا في ذكر الحدود، والتوبة عن المعاصي ونحوها.
والذين يتعصبون لمذهب إمامهم ويرونه أفضل المذاهب السنية اتباعًا واقتداءً مخطئون كذلك لأن المذاهب الفقيه كلها نتاج بشري مهما كان صاحب المذهب من الورع والعلم والتقوى وكل المذاهب الفقهية خاضعة للتمحيص والتنقيح والبحث عن قوة الدليل مع خالص التقدير والاحترام والتوقير لأصحابها رضي الله عنهم جميعًا؛ لأنهم افنوا حياتهم في خدمة دينهم وبيانه للناس علمًا أنهم لم يلزموا أحدًا بالتعصب لهم بل نهوا عن تقليدهم بغير دليل وقد نقل ابن قيم الجوزية في كتابه إعلام الموقعين مُلَحًا من كلامهم رضي الله عنهم تحت عنوان: (نَهَى الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ). فقال رحمه الله: "وَقَدْ نَهَى الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ، وَذَمُّوا مَنْ أَخَذَ أَقْوَالَهُمْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ؛ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَثَلُ الَّذِي يَطْلُبُ الْعِلْمَ بِلَا حُجَّةٍ كَمَثَلِ حَاطِبِ لَيْلٍ، يَحْمِلُ حُزْمَةَ حَطَبٍ وَفِيهِ أَفْعَى تَلْدَغُهُ وَهُوَ لَا يَدْرِي، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ".
وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى الْمُزَنِيّ فِي أَوَّلِ مُخْتَصَرِهِ: "اخْتَصَرَتْ هَذَا مِنْ عِلْمِ الشَّافِعِيِّ، وَمِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ، لِأُقَرِّبَهُ عَلَى مَنْ أَرَادَهُ، مَعَ إعْلَامِيَّةِ نَهْيِهِ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ لِيَنْظُرَ فِيهِ لِدِينِهِ وَيَحْتَاطُ فِيهِ لِنَفْسِهِ".
وَقَالَ أَبُو دَاوُد: قُلْت لِأَحْمَدَ: الْأَوْزَاعِيُّ هُوَ أَتْبَعُ مِنْ مَالِكٍ؟ قَالَ: لَا تُقَلِّدْ دِينَك أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ، مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فَخُذْ بِهِ، ثُمَّ التَّابِعِيُّ بَعْدَ الرَّجُلِ فِيهِ مُخَيَّرٌ.
وَقَدْ فَرَّقَ أَحْمَدُ بَيْنَ التَّقْلِيدِ وَالِاتِّبَاعِ فَقَالَ أَبُو دَاوُد: "سَمِعَتْهُ يَقُولُ: الِاتِّبَاعُ أَنْ يَتْبَعَ الرَّجُلُ مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ هُوَ مِنْ بَعْدُ فِي التَّابِعِينَ مُخَيَّرٌ، وَقَالَ أيضًا: لَا تُقَلِّدْنِي وَلَا تُقَلِّدْ مَالِكًا وَلَا الثَّوْرِيَّ وَلَا الْأَوْزَاعِيَّ، وَخُذْ مِنْ حَيْثُ أَخَذُوا.وَقَالَ: مِنْ قِلَّةِ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يُقَلِّدَ دِينَهُ الرِّجَالَ". (إعلام الموقعين عن رب العالمين:2/ 139).
فالواجب بعد هذا هو التناصح والتسامح وقبول الآخر ولو كان مخالفًا لمذهبنا غير مسفهين لرأيه أو مقللين من شأنه، أو مستكبرين عليه.
والواجب كذلك أن نحسن لمن يحسن لنا من غير عقيدتنا، ونحترم من يحترمنا، ويقف معنا ونقول للمحسن أحسنت وللمخطئ أخطأت.
ولا مانع من التناصح بيننا نحن المسلمين والبحث عن قوة الدليل، وعند التناصح يجب أن نتخلى عن عصبيتنا المذهبية المقيتة ونتأدب بأدب النصيحة ونتذكر قوله الشاعر:
تعمدني بنصحِكَ في انفرادٍ *** وجنبني النصيحةَ في الجماعة
فإن النصح بين القومِ نوع *** من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيتَ أمري *** فلا تحزن إذا لم تُعطَ طاعة
ولا يجب بحال أن نصدر أحكام عامة على الناس ونعطيها حكم اليقين فنجرم المجتمع بسبب بعض المجرمين فيه، ونكفر المجتمع لبعض المخالفين فيه، أو نهجر الوطن لفشو بعض مظاهر الفسق فيه. وأخيرًا أذكرك بقول جمهور الأصوليين أن العام يفيد الظن -خلافًا للأحناف رضي الله عنهم- لأنه ما من عام إلا له مخصص، و بالمثل الإنجليزي: "كل تعميم هو خطأ بما فيه هذا التعميم".
فليكن العمل والإصلاح والإرشاد والتوجيه نهجنا، فإن الطبيب الذي ينهر المرضى لن يجد من يطببه، ومن فتح باب التعميم فقد باب التعليم وناوشته سهام المخالفين وشغلته مساوئ المعاندين، وباء بعداوة أقرب المقربين، وخرج عن سنن المصلحين الأولين.
وإياك أن تظن أن مالك وسلطانك يرخص لك تعميم الأحكام، ويخضع لك قلوب الأنام فلنا في ضعيف حديث أبي هريرة حسن الختام فقد قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم: «
» (صحيح الترغيب:2661).عبد التواب مصطفى خالد