النقاب وتزوير الأحكام الشرعية

منذ 2010-01-10

... فوعجبا؛ هذا هو رأي شيخ الأزهر الحالي الدكتور سيد طنطاوي في تفسيره التفسير الوسيط للقرآن الكريم طبعة دار المعارف.


رويدا رويدا يتم قطع الصلة بين جماهير المسلمين وماضيهم وأصول دينهم؛ وبقدر النجاح المتحقق يتم تغيير طبيعة الأحكام الشرعية فيصبح المنكر معروفا والمعروف منكرا. وكما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما نفضت عروة تشبث الناس بالتي تليها» [صححه الألباني].

ومن هذا النمط الافتراء على الأئمة في تعمد نقل أقوالهم بصورة مشوهة وفي غير محلها في كثير من القضايا. ومن الأمثلة على ذلك ما يحدث الآن في ظل الزخم الذي يتكلم ليل نهار في مسألة النقاب. بداية ممن ينسب للعلم وانتهاء بمن لا يتكلمون سوى في العهر والفسق، مرروا بما بينهما من افتراء على الله بنقض الإجماع الواقع بالثناء الشرعي على فاعله والأمر بفعله.

فأهل العلم قاطبة منذ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمن بعدهم اختلفوا فيه ما بين الاستحباب والوجوب، ومن له أدنى دراية بعلم أصول الفقه يعلم أن المستحب والواجب يجتمعان في طلب الشارع بفعلهما ويفترقان في أن الواجب يطلب فعله على سبيل الحتم والإلزام، والمستحب يطلب فعله من غير حتم ولا إلزام.


فإذا بمن ينسب للعلم {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} وينقض هذا الإجماع زاعما أنه ليس من الشرع؛ بل يفتري الكذب فيزعم أن الأمام مالك قد كره النقاب هكذا في جرأة واضحة فأين صرح الإمام مالك بتلك الكراهة المزعومة؟!!

حقيقة ما دفعه لتلك الجرأة أن العلم الشرعي أصبح عزيزا بين المسلمين فيستطيع أن يقول ما شاء ولن يجد من يرده؛ بل ربما انبرى البعض مرددا قوله على أنه حقيقة.

وإن وجد المفتري من يرده فسيلجأ حتما للتدليس، فيقول: أن مالكا صرح بكراهية النقاب للمحرمة أي في الحج. بل ربما زاد التبجح من بعضهم وقال: إن كان النهي قد ورد عن أن تنتقب المحرمة أو ترتدي القفازين في الحج الذي هو عبادة فيها ما فيها من المشقة، كما أنها ركن من أركان الإسلام، فمن الأولى أن يمنع في غيره . هكذا يستدلون تدليسا وتلبيسا في جرأة تخالف قواعد المنطق والعقل السليم قبل مخالفتها لقواعد وأصول الاستدلال الشرعي. وصدق العليم الحكيم: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [سورة الأنعام: 112].

فلو تأمل ذلك المستدل لعلم أن النهي لا يكون إلا عما هو معروف مستقر ومستعمل من زي أو ملبس، فلو أن النساء في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلبسن النقاب والقفازين فما المعنى في النهي عن لبسه في الإحرام خاصة. ثم أن النهي هو عن لبس النقاب وليس عن تغطية الوجه.

كما أن النهي قد جاء أيضا عن لبس السراويل (وهي ما يعرف بالبنطالون) للرجال في الإحرام؛ وهذا النهي قد ورد في نفس الأثر الذي ورد فيه النهي عن لبس النقاب فهل يمشى الرجل كاشفا عن عورته أم أن له يغطيها بما سوى السراويل.

كما أن مالكا وغيره من الأئمة قد كرهوا لبس السراويل للرجال فعلى مسلك ذلك المفتري وطريقته ما يلبس الرجال في الطرقات؟!، هل يرتدي الناس زي الحاج المحرم في جميع أوقات حياتهم. هل يحرم على الرجال لبس النعال (الأحذية) التي تغطي الكعبين ولا يلبس القميص؟!!... هذا لا يقول به عاقل؛ فضلا عن يكون رجلا ينسب للعلم.


أما أن الإمام مالك قد كره النقاب للمحرمة فنعم هذا صحيح، ولكنه لم يحرم عليها تغطية الوجة في الحج؛ وهذا ما أظن أنه يعرفه؛ ففي المدونة لابن القاسم (2/461) : "أن مالكا كان يوسع للمرأة أن تسدل رداءها من فوق رأسها على وجهها إذا أرادت سترا فان كانت لا تريد سترا فلا تسدل"، فتأمل.

ونقل قول الإمام مالك هذا في ستر الوجه بحروفه ابن عبد في التهميد نقلا عن ابن القاسم. انظر كتاب (التمهيد، 8/28) بتحقيقنا.

فهذا مذهب مالك في تخمير (أو تغطية) الوجه بالنسبة للمرأة المحرمة التى قد نهيت عن لبس النقاب.

وبالمثل إن كان قد جوَّزَ للمحرمة التي مُنعت من لبس النقاب أن تغطي وجهها فمن باب أولى غير المحرمة.

وقد ذكر ابن تيمية أن مالكا يقول: "أن كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها" . وبالتأكيد ابن تيمية أوثق من المفتري في النقل. إن صحت المقارنة. وعليه فإن النقاب يصبح وجبا عند الإمام.

ولكن المشهور من مذهب مالك هو أن الوجه والكفيين ليسا بعورة. وهذا هو الصحيح من مذهبه فإننا نأبى أن نكون مدلسين. ولكن هذا لا ينافي جواز الستر؛ إذ أن ستر الوجه ليس متعلق بكونه عورة .

وقد روى الإمام مالك في موطأه عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت: "كنا نُخمّر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق" [قال الألباني إسناده صحيح].

قال الزرقاني في شرحه للموطأ: "زاد في رواية: "فلا تنكره علينا"، لأنه يجوز للمرأة المحرمة ستر وجهها بقصد الستر عن أعين الناس، بل يجب إن علمت أو ظنت الفتنة بها، أو يُنظر لها بقصد لذة.


وذكر عن ابن المنذر أنهم: أجمعوا على أن لها أَنْ تُسدل علي وجهها الثوب سدلًا خفيفًا تستتر به عن نظر الرجال، ولا تُخَمِّر، إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر، فذكر ما هنا، ثم قال: "ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدلًا، كما جاء عن عائشة قالت: "«كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مُرَّ بنا سَدَلْنا الثوب على وجوهنا ونحن محرمات، فإذا جاوزْنا رفعناه»" اهـ. فتأمل كيف أن النساء في عهد النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم كن يغطين وجوههن في الإحرام ولم يكن ينكر المعصوم عليهم هذا الفعل، فكيف بمن ينكر عليهن بأقوال شكسبير، لا حول ولا قوة إلا بالله.

وقد حكى ابن عبد البر أيضا في التمهيد (8/23) الإجماع على جواز تغطية المرأة لوجهها بسدل ثوبا عليه تستتر به عن الرجال... فأين الكراهية المزعومة؟!!.

أما أبو بكر ابن العربي المالكي فيقول في (أحكام القرآن) أن: "سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئاً من خمارها على وجهها غير لاصق به وتعرض عن الرجال ويعرضون عنها".

ويقول أيضا -رحمه الله-: "والمرأة كلها عورة، بدنها وصوتها فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة أو لحاجة: كالشهادة، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عمَّا يعنّ ويعرض عندها".

فتأمل؛ قوله: "سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج"؛ فهذا مذهب إمام من أئمة المالكية؛ وهو مع هذا يمنعها من لبس النقاب حال الإحرام، ثم انظر كيف ينسب للإمام مالك القول بالكراهة مطلقا... سبحان الله.

ورى البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: "يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ}، شققن مروطهن فاختمرن به".

قال الحافظ ابن حجر: "فاختمرن أي غطّين وجوههن".

قال الشنقيطي المالكي في (أضواء البيان، 6/250) : وهذا الحديث الصحيح صريح في أن النساء الصحابيات المذكورات فيه فهمن أن معنى قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ} يقتضي ستر وجوههن وأنهن شققن أزرهن فاختمرن أي سترن وجوههن بها امتثالاً لأمر الله المقتضي ستر وجوههن.

ويقول الشيخ الحطَّاب في (مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، 1/ 499) ـ وهو من مشاهير كتب المذهب المالكي ـ : "اعلم أنه إن خُشي من المرأة الفتنة يجب عليها ستر الوجه والكفين. قاله القاضي عبد الوهاب، ونقله عنه الشيخ أحمد زرّوق في شرح الرسالة، وهو ظاهر التوضيح. هذا ما يجب عليها" اهـ.

وذكر البناني في حاشيته على شرح الزرقاني لمختصر خليل (1/ 176) ، وفي حاشية الصاوي على الشرح الصغير(1/289) أنه حين خوف الفتنة أو النظر إلى المرأة بقصد لذة قال: "وهل يجب عليها حينئذٍ ستر وجهها؟، وهو الذي لابن مرزوق في اغتنام الفرصة قائلًا: إنه مشهور المذهب، ونقل الحطاب أيضًا الوجوب عن القاضي عبد الوهاب، أو لا يجب عليها ذلك، وإنما على الرجل غض بصره، وهو مقتضى نقل مَوَّاق عن عياض".

وقال القرطبي المالكي في تفسيره (12/ 205): "قال خُويز منداد من علمائنا: إن المرأة اذا كانت جميلة وخيف من وجهها وكفيها الفتنة، فعليها ستر ذلك" اهـ.

وقال الآبي الأزهري في (جواهر الإكليل، 1/41) : "الوجه والكفان ليسا عورة، فيجوز كشفهما للأجنبي، وله نظرهما إن لم تُخشَ الفتنة. فإن خيفت الفتنة فقال ابن مرزوق: مشهور المذهب وجوب سترهما. وقال عياض: لا يجب سترهما ويجب غضُّ البصر عند الرؤية. وأما الأجنبي الكافر فجميع جسدها حتى وجهها وكفيها عورة بالنسبة له" اهـ.

وقال الشيخ الدردير( ) في (الشرح الكبير، 2/55) : "(حرم بالاحرام) بحج أو عمرة أي بسببه (على المرأة)... (ستر وجه) أو بعضه (إلا لستر) عن أعين الناس فلا يحرم بل يجب إن ظنت الفتنة بها" اهـ... فتأمل فإنما حرم النقاب للإحرام مع جواز ستر الوجه بل الوجوب في حال خوف الفتنة.

هذه جملة من أقوال أئمة المالكية بالإضافة لصريح قول الإمام وهي تدور بين الوجوب مطلقا كما هو مذهب القاضي ابن العربي؛ والوجوب مقيدا بخوف الفتنة كما ذكر أنه مشهور المذهب؛ والجواز الذي يوافق الاستحباب بجامع السماح في الترك دون لوم. فأين تلك الكراهة المفتراه.

إن القضية ليست هي حكم النقاب في الشريعة فتلك مسألة جزئية؛ ولكن القضية هي تبديل أحكام الشريعة بتجهيل الجماهير بها، ومن ثم تحويل المحكم إلى متشابه وتزوير أقوال أهل العلم فتلك هي الكلية التي تندرج تحتها الكثير من الجزئيات المخالفة للشريعة فإذا بالشريعة تضحى مذبوحة طبقا للشريعة الإسلامية. ومن تابع قضية كمسألة تعدد الزوجات على الرغم من أن معانة المجتمع هي عدم الإقبال على الزواج يجد العبث والتزوير في تفسير آية سورة النساء مع إهدار للنصوص المفسرة وكأن الآية صارت من المتشابة. وكذا الأمر في قوانين الأحوال الشخصية، وغيرها.


فالمطلوب إسلام... إسلام يوافق الأهواء وعلى رأسها المنظمات والقرارت الدولية ومؤتمرات السكان وما شاكلها.

وإن أردت البيان على ذلك فاقرأ تلك الفقرة في تفسير قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب: 59].


"والجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب يستر جميع البدن، تلبسه المرأة فوق ثيابها. والمعنى: يا أيها النبي قل لأزواجك اللائي في عصمتك، وقل لبناتك اللائي هن من نَسْلك، وقل لنساء المؤمنين كافة، قل لهن: إذا ما خرجن لقضاء حاجتهن، فعليهن أن يَسدلن الجلاليب عليهن، حتى يسترن أجسامهن سترًا تامًّا من رؤوسهن إلى أقدامهن؛ زيادة في التستر والاحتشام، وبعدًا عن مكان التهمة والريبة. قالت أم سلمة رضي الله عنها: لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سُود يلبسنها" اهـ.

فوعجبا؛ هذا هو رأي شيخ الأزهر الحالي الدكتور سيد طنطاوي في تفسيره (التفسير الوسيط) للقرآن الكريم طبعة دار المعارف.

فهل هم حقا لأول مرة يعرفون بدعة ستر وجه المرأة في دين الإسلام؟!!

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام