من أخطائنا الفكرية - (4) مفهوم الزهد في الدنيا

منذ 2016-02-24

يبدو أن مفهوم الزهد عند بعض الناس مازال ملتبسًا؛ لأنه يعني عندهم ترك الدنيا أو الاشتغال بها

يبدو أن مفهوم الزهد عند بعض الناس مازال ملتبسًا؛ لأنه يعني عندهم ترك الدنيا أو الاشتغال بها؛ لأنها ضرة الآخرة لا يجتمعان في قلب مسلم أبدًا، وعلى المسلم حسب رأيهم أن يختار، إما الزهد في الدنيا بكل ما يحويه معنى الزهد من فقر وتقشف واستغناء عما في أيدي الناس، وعدم الرغبة في إعمارها ولو بطريق مشروعة، مع تحمل كل ألوان العنت والمشقة؛ للفوز بالجنة ونعيمها؛ لأنها الأصل المدخر والموعود المنتظر وهو خير وأبقى، وإما اختيار الدنيا والانشغال بها والسعي في تحصيل نعيمها ومتعها وهذه طريق غير مأمونة العواقب، فقد فتحت الدنيا على أقوام ضلوا وأضلوا واغتروا وعتوا عتوًا كبيرًا، وازدادوا بالإقبال عليها كفرًا وشقاءً وبؤسًا وشابهوا أممًا قبلنا في الغي والضلال والفساد والإفساد فلم يبقَ لهم نعيم يدخر، أو جنة تنتظر.

 

والمختار عند هذا الفريق بداهة هو الرأي الأول خصوصًا ورود أحاديث وآثار عن الصحابة والتابعين تشفع لهم؛ منها ما روى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أرشد إلى هذه الطريق حينما دعا ربه طلبا للفقر والحشر في زمرة المساكين؛ فعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ المَسَاكِينِ يَوْمَ القِيَامَةِ» فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا، يَا عَائِشَةُ لَا تَرُدِّي المِسْكِينَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، يَا عَائِشَةُ أَحِبِّي المَسَاكِينَ وَقَرِّبِيهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُقَرِّبُكِ يَوْمَ القِيَامَةِ» (سنن الترمذي- ت شاكر 4/577 قال: "حديث حسن غريب"، وصححه الألباني).

وبما رواه أبو سعيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَتَوَفَّنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ، وَإِنَّ أَشْقَى الِأَشْقِيَاءِ مَنِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ فَقْرُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْآخِرَةِ» هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ " (المستدرك على الصحيحين للحاكم 4/358) وصححه الذهبي.

وعَن شَدَّاد بن أَوْس وَسَعِيد بن مَسْعُود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْفقر بِالرجلِ الْمُؤمن أزين على الْمُؤمن مِنَ الْعَذَارِ الْحَسَنِ عَلَى خَدِّ الْفرس» (سلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة للألباني برقم 564).

أضف إلى ذلك بعض الآثار التي وردت عن السلف وتدعو بصراحة إلى فضيلة الفقر وبيان ما أعده الله لهم في الآخرة وهى روايات كثيرة مستفيضة في كتب الأخلاق والسلوك وعلى رأسها ما كتبه الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه (إحياء علوم الدين) فقد جاء في كتاب ذم الدنيا أن الله عز وجل قال لموسى عليه السلام: "إذا رأيت الغني مقبلًا فقل ذنب عجلت عقوبته وإذا رأيت الفقر مقبلًا فقل مرحبًا بشعار الصالحين... وقال عيسى عليه السلام: إدامي الجوع وشعاري الخوف ولباسي الصوف وصلائي في الشتاء في مشارق الشمس وسراجي القمر ودابتي رجلاي وطعامي وفاكهتي ما أنبتت الأرض أبيت وليس لي شيء وأصبح وليس لي شيء وليس على الأرض أحد أغنى مني" (إحياء علوم الدين 3/212)

 

غير أن هذا الاختيار يقابله اختيار الفريق الثاني-أي تفضيل طلب المال وحب الغني- معضدًا وجهة نظره بصحيح المأثور ومعترضًا على فهم أدلة الرأي الأول بأدلة أخرى منها: قوله صلى الله عليه وسلم: إن المكثرين هم الأقلون، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا. وبقوله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين، أحدهما: رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق» الحديث. وبقوله لسعد: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس». وقال لأبى لبابة حين قال: يا رسول الله، إن توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله ورسوله: «أمسك عليك بعض مالك فإنه خير لك». وقال في معاوية: «إنه لصعلوك لا مال له»، ولم يكن صلى الله عليه وسلم ليذمّ حالة فيها الفضل (شرح صحيح البخاري لابن بطال 10/167ـ168).

واعترضوا على أدلة الرأي الأول فقالوا: إن معنى الْمَسْكَنَةِ فِي قَوْلِهِ: «احْشُرْنِي مِسْكِينًا» التَّوَاضُع والإخبات.كَأَنَّهُ عليه السلام سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى، أَنْ لَا يَجْعَلَهُ مِنَ الْجَبَّارِينَ وَالْمُتَكَبِّرِينَ، وَلَا يَحْشُرَهُ فِي زُمْرَتِهِمْ.( تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة الدينوري ص 248).

أَمَّا قَوْلُهُ عليه السلام: "إِنَّ الْفَقْرُ بِالْمُؤْمِنِ أَحْسَنُ مِنَ الْعِذَارِ الْحَسَنِ عَلَى خَدِّ الْفَرَسِ" فَإِنَّ الْفَقْرَ مُصِيبَةٌ مِنْ مَصَائِبِ الدُّنْيَا عَظِيمَةٌ وَآفَةٌ مِنْ آفَاتِهَا أَلِيمَةٌ، فَمَنْ صَبَرَ عَلَى الْمُصِيبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَرَضِيَ بِقَسْمِهِ زَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَعْظَمَ لَهُ الثَّوَابَ فِي الْآخِرَةِ. (تأويل مختلف الحديث ص 249)

 

وقد ناقش ابن بطال رحمه الله أدلة كل فريق بعد عرضها، ثم قال:

"وأحسن ما رأيت في هذه المسألة ما قاله أحمد بن نصر الداودي قال: الفقر والغنى محنتان من الله تعالى وبليتان يبلو بهما أخيار عباده ليبدي صبر الصابرين وشكر الشاكرين وطغيان البطرين، وإنما أشكل ذلك على غير الراسخين، فوضع قوم الكتب في تفضيل الغنى على الفقر، ووضع آخرون في تفضيل الفقر، وأغفلوا الوجه الذي يجب الحض عليه والندب إليه" (شرح صحيح البخاري 10/168)

ثم انتصر للرأي الثاني بقوله: "ولم يأتِ في الحديث، فيما علمنا، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو على نفسه بالفقر، ولا يدعو بذلك على أحد يريد به الخير، بل كان يدعو بالكفاف ويستعيذ بالله من شرّ فتنة الفقر وفتنة الغنى، ولم يكن يدعو بالغنى إلا بشريطة يذكرها في دعائه. فأماّ ما روى عنه أنه كان يقول: «اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين». فإن ثبت في النقل فمعناه ألا يجاوز به الكفاف، أو يريد به الاستكانة إلى الله " (شرح صحيح البخاري لابن بطال 10/170ـ171)

وقد ثبت أنه دعا لأنس بن مالك وقال: «اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته». قال أنس: فلقد أحصت ابنتي أني قدّمت من ولد صُلبي مقدم الحجاج البصرة مائةً وبضعةً وعشرين نسمةً بدعوة رسول الله، وعاش بعد ذلك سنين وولد له). فلم يدعُ له بكثرة المال إلا وقد أتبع ذلك بقوله: «وبارك له فيما أعطيته» (شرح صحيح الباري لابن بطال 10/171)

لكن الحقيقة التي يجب أن ندركها هنا أن الدنيا ليست مذمومة بإطلاق وإنما تذم حيث يعم فيها الباطل وينتشر فيها الكفر والإلحاد، وينشغل فيها الناس باللهو والأموال والأولاد؛ فتصبح مصدرًا للهو واللعب فلا إله يُعبد ويحمد ويشكر، وفي ضوء انتشار هذه السلوكيات البشرية جاءت الآيات القرآنية بذم الدنيا والتحذير منها مثل قوله تعالى: {إنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:37]، وقوله: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20]. وقوله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ . حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1،2].

وتُحمد الدنيا وتطلب حيث، ترفرف عليها راية التوحيد فلا يعبد إلا الله الواحد الأحد مصدر التلقي وإليه التعبد ويُسخَّر كل ما في الوجود لهذه الغاية وبذلك يعم الخير والصلاح ويسود العدل والإحسان، والأمن والاطمئنان، والحرية والكرامة لكل إنسان، فتكون الدنيا خادمة لا مخدومة ومقودة لا قائدة، فهي في نظر المؤمن نعل يدسه في التراب، وقنطرة يعبر عليها الأمواج، وسوق يشتري منه الضرورات، وشجرة يستظل بها قبل الرواح. وآيات القرآن الكريم جاءت لتبين هذا المعنى بل تحض عليه وتأمر به في قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41]، وقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:57]، وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5].

وفي ضوء هذا الفهم نعلم أن الدنيا لم تذم لذاتها وإنما تذم بسبب أعمال العصاة ولهوهم فيها والاشتغال بها عن الأصل الذي خلقت له وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المكر، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإعمارها بالخير والصلاح، وكلها من ثمرات التمكين في الأرض، ولا يجوز للمسلم أن يحيد عن هذا الأصل فيجعله فرعًا فيتفرغ ليجعل الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه ومن هنا جاء التحذير من الوقوع في هذا المنزلق قال صلى الله عليه وسلم: «من كانت الآخرة همه جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه شتت الله شمله وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له، السعيد من اختار باقية يدوم نعيمها على بالية لا ينفد عذابها» (رواه الترمذي في صفة القيامة باب 30 رقم 2465). وكان في دعائه يحذر منها بقوله عليه السلام: «وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا» (سنن الترمذي:5/528).

ومن ثَم كان الزهد الحقيقي الدنيا يتمثل في تحقيق اليقين بموعود الله وقدره دون ريب أوشك قال العلماء: "فَمَنْ حَقَّقَ الْيَقِينَ، وَثِقَ بِاللَّهِ فِي أُمُورِهِ كُلِّهَا، وَرَضِيَ بِتَدْبِيرِهِ لَهُ، وَانْقَطَعَ عَنِ التَّعَلُّقِ بِالْمَخْلُوقِينَ رَجَاءً وَخَوْفًا، وَمَنَعَهُ ذَلِكَ مِنْ طَلَبِ الدُّنْيَا بِالْأَسْبَابِ الْمَكْرُوهَةِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا حَقِيقَةً، وَكَانَ مِنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا كَمَا قَالَ عَمَّارٌ: كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا، وَكَفَى بِالْيَقِينِ غِنًى، وَكَفَى بِالْعِبَادَةِ شُغُلًا.( جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط 2/ 181).

ولهذا رأينا سلفنا الصالح يضعون لنا عدة معاني للمعنى الحقيقي للزهد وسبب التعدد أن الزهد أمر قلبي لا يتعلق بالجوارح وإنما يتعلق بالقلوب والقلوب تختلف في درجات اليقين والثقة بموعود الله من شخص لآخر ومن ثم تتعد التعريفات.

فقد قال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا قِصَرُ الْأَمَلِ، لَيْسَ بِأَكْلِ الْغَلِيظِ، وَلَا بِلُبْسِ الْعَبَاءِ. وَقَالَ: كَانَ مِنْ دُعَائِهِمْ: اللَّهُمَّ زَهِّدْنَا فِي الدُّنْيَا، وَوَسِّعْ عَلَيْنَا مِنْهَا، وَلَا تَزْوِهَا عَنَّا، فَتُرَغِّبْنَا فِيهَا (جامع العلوم والحكم-ت الأرنؤوط 2/ 184).

وَقَالَ رَبِيعَةُ: "رَأْسُ الزَّهَادَةِ جَمْعُ الْأَشْيَاءِ بِحَقِّهَا، وَوَضْعُهَا فِي حَقِّهَا" (جامع العلوم والحكم- ت الأرنؤوط 2/ 184).

وَقَالَ أبو سليمان: "لَيْسَ الزَّاهِدُ مَنْ أَلْقَى هُمُومَ الدُّنْيَا، وَاسْتَرَاحَ مِنْهَا، إِنَّمَا الزَّاهِدُ مَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا، وَتَعِبَ فِيهَا لِلْآخِرَةِ" (جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط:2/ 198).

وما أحسن ما ذكره النووي رحمه في الزهد فقد قال: "فَمَنْ أَخْرَجَ مِنْ قَلْبِهِ حُبَّ الرِّيَاسَةِ فِي الدُّنْيَا وَالتَّرَفُّعَ فِيهَا عَلَى النَّاسِ، فَهُوَ الزَّاهِدُ حَقًّا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَسْتَوِي عِنْدَهُ حَامِدُهُ وَذَامُّهُ فِي الْحَقِّ، وَكَقَوْلِ وُهَيْبِ بْنِ الْوَرْدِ: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَا تَأْسَى عَلَى مَا فَاتَ مِنْهَا، وَلَا تَفْرَحَ بِمَا آتَاكَ مِنْهَا، قَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ: هَذَا هُوَ الزَّاهِدُ الْمُبْرِزُ فِي زُهْدِهِ" (جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط:2/ 183).

وأما الدنيا فلا يجوز لنا أن نذمها لذاتها؛ لأنها أرض الغرس للآخرة، وموسم الحصاد، وسوق التزود بالطاعات ومن هنا يكون حب الدنيا لا ذمهاَ قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ: "كَيْفَ لَا أُحِبُّ دُنْيَا قُدِّرَ لِي فِيهَا قُوتٌ أَكْتَسِبُ بِهَا حَيَاةً أُدْرِكُ بِهَا طَاعَةً أَنَالُ بِهَا الْآخِرَةَ" (جامع العلوم والحكم:2/193).

وقال بعض العارفين: مَا هِيَ الدُّنْيَا الَّتِي ذَمَّهَا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَجَنَّبَهَا؟ فَقَالَ: كُلُّ مَا أَصَبْتَ فِي الدُّنْيَا تُرِيدُ بِهِ الدُّنْيَا، فَهُوَ مَذْمُومٌ، وَكُلُّ مَا أَصَبْتَ فِيهَا تُرِيدُ بِهِ الْآخِرَةَ، فَلَيْسَ مِنْهَا (جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط:2/ 193).

ويؤخذ مما عرضناه عن سلفنا الصالح أنه لا يجوز لنا بحال أن نجعل الزهد سُلما لهجر الدنيا أو الاشتغال بها وتركها لغيرنا يتمتعون بخيراتها ويفسدونها بمعاصيهم ويقودونها بظلمهم وعتوهم ويكون لهم فيها الأمر والنهي، والقيادة والريادة، ويصبح المسلم رهين سلطانهم، مستعطفًا رضاهم، قانعًا بفتاتهم بل الواجب على المسلمين أن يعمروا الدنيا بإقامة منهج الله الذي أمرهم به في كل نواحي الحياة ليعرف غيرنا كيف تكون الحياة التي أرادها الله في الدنيا، إنها دنيا العدل، والكرامة، والمساواة والقناعة والرضا، المال فيها وإن كثر لا يطغينا، والدنيا إن أقبلت علينا لا تلهينا نجمع المال باليد فلا يدخل القلب، والغنى ليس بكثرة المال وإنما بقناعة النفس، والزهد الحقيقي أن نملك الدنيا بأيدينا لا بقلوبنا نسكن القصور ولا ننسى ظلمة القبور يستوي عندنا الحاكم والمحكوم، والقائد والمقود، والغني والفقير، والقوي والضعيف فلا نحزن على ما فات منها ولا نفرح بما هو آت يستوي عندنا الوجود والعدم فهذا هو الزهد المطلوب ليعلم غيرُنا أن الإسلام دين الدنيا والآخرة وأن من تمتع في الدنيا المتاع الحسن وفق ما أراده الله فإنه يتمتع في الآخرة أيضًا بالمتاع الحسن بالجنة، ومن أساء دنياه أضر بآخرته.

وختامًا أقول إن الذين يتمسكون بالمفهوم الخاطئ للزهد ويحبون الفقر والانزواء عن الدنيا هؤلاء يساعدون من حيث لا يشعرون أعداء الأمة على ترسيخ هذا المفهوم في كتاباتهم عن الإسلام، بل تقديمه لعوام الناس على أنه الحق أو الأصل الذي ينطلق منه الإسلام

والنتيجة أو المحصلة من وراء ذلك أن أمة الإسلام تظل دومًا عالة على غيرها، وتركت قيادة الحياة لغيرها، واكتفت من أرض الحياة بقطعة أرض تسجد فيها سجدة، ومن زينتها بثوب خلق، وسبحة طويلة، ومن قوتها حبة تمر يتبعها شربة ماء.

ولو ظل فينا هذا الفهم للزهد والنظر للحياة فسوف يعز علينا حصول هذه الأشياء ويبقى باطن الأرض خير لنا من ظاهرها لكنه عند الله ليس بخير لنا.

عبد التواب مصطفى خالد

المصدر: موقع لها أونلاين
المقال السابق
(3) تعميم الأحكام
المقال التالي
تأخير الزكاة إلى شهر رمضان