بل عادة وعبادة
منذ 2010-01-19
تتعرض كثير من شعائر الإسلام للهجران أو محاولة تقليل الأخذ بها عند كثير من الناس، ومن تلك الشعائر ما يتعلق بالمرأة، وذلك انطلاقا من أن إفساد المرأة إفساد للمجتمع، ومما تعرض للهجوم والانتقاص في العقود الأخيرة ستر المرأة وجهها ...
بسم الله الرحمن الرحيم
تتعرض كثير من شعائر الإسلام للهجران أو محاولة تقليل الأخذ بها عند كثير من الناس، ومن تلك الشعائر ما يتعلق بالمرأة، وذلك انطلاقا من أن إفساد المرأة إفساد للمجتمع، ومما تعرض للهجوم والانتقاص في العقود الأخيرة ستر المرأة وجهها بحضرة الرجل الأجنبي، وأول ما بدأ ذلك ما تلقاه المسلمات في بلدان الكفر حيث منعت من ارتداء الحجاب في كثير من الأماكن، لكن الأمر لم يقتصر على تلك البلاد التي تكفر برب العباد وشريعته، بل تعدتها إلى كثير من الدول الإسلامية، حتى تورط في ذلك بعض من ينسب إلى العلم، وأول ما بدأ الأمر في الدول الإسلامية التخفي والاستتار خلف قول مجموعة من أهل العلم أن تغطية وجه المرأة بحضرة الرحل الأجنبي ليس بواجب-مع أنهم قالوا إن التغطية مستحبة وفضيلة-لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد بل تعداه لما هو أطغى وأطم فوجدنا من يكتب كتابا نشازا بعنوان "تذكير الأصحاب بتحريم النقاب"، ثم فوجئنا أخيرا ببعض المرجعيات الدينية من يزعم أن تغطية المرأة وجهها بحضرة الرجل الأجنبي عادة وليس عبادة، وكذبوا في ذلك وما صدقوا، وكأنهم لما رأوا أن القول بتغطية وجه المرأة أمام الرجل الأجنبي سنة وفضيلة ليس بواجب لا يحقق ما يريدونه من إبعاد المرأة المسلمة عن التمسك بأحكام دينها؛ لأن المسلمة تحرص على الإتيان بالسنة ولو لم تكن فرضا وواجبا، أرادوا نفي الأمر بالكلية وقد أنفقوا الملايين في الدعاية لذلك القول وتعميمه ثم أصدروا بعض القرارات المبنية على ذلك القول الكاذب ليجبروا الناس على الالتزام به، مع أنهم لم ينفقوا درهما واحدا في سبيل الحديث عما هو متفق عليه بين المسلمين كافة وهو حرمة التبرج التي تقع فيه نساء كثيرات حتى نتج عن ذلك من الفتنة والبلايا ما تعجز الصحائف عن تحمله، ومن هنا كان لا بد من بيان ما في ذلك القول من الباطل والخطأ الصراح.
فالعبادة: اسم جامع لما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة الصادرة من المكلف ابتغاء وجه الله ومرضاته، وما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال قد دل عليه وبينه الوحي المعصوم من الكتاب والسنة، ومن ثم فإن العبادة لا تثبت إلا بالدليل الدال عليها والمثبت لها، ولا وجه لإثبات عبادة لم تدل عليها نصوص الشارع بوجه من وجوه الدلالة المعتبرة، وعلى ذلك فكل ما أمر الشارع المكلفين بفعله أو قوله يكون الإتيان به من العبادة سواء كان الأمر أمر إيجاب أم أمر استحباب.
والعادة: تكرير الشيء دائما أو غالبا على نهج واحد بلا علاقة عقلية، وقيل: ما يستقر في النفوس من الأمور المتكررة المعقولة عند الطباع السليمة" (تاج العروس للزبيدي) ، وقال السعدي: "العادة هي الديدن وهو الدأب والاستمرار على الشيء وسميت بذلك لأن صاحبها يعاودها ويرجع إليها مرة بعد أخرى"، ومن ثم فهي اسم جامع لما يعتاد الناس قوله أو فعله، كالأكل والشرب والزواج ودفن الموتى ونحو ذلك من الأمور العادية المشتركة بين الناس.
وما يعتاده الناس أنواع، فمنه ما يكون مرجعه للجبلة التي خلق الله الخلق عليها كاعتيادهم للنوم والاستيقاظ والقيام والقعود والأكل والشرب واللباس ونحو ذلك، ومنه ما يكون مرجعه إلى العرف الشائع بين الناس في زمان أو مكان، ومنه ما يكون مرجعه القياس والتجربة، ومنه ما يكون مرجعه إلى أوامر الدين ونواهيه، كما يعتاد المسلم الأكل والشرب باليمين، وكما يعتاد إلقاء السلام إذا قدم على جماعة من الناس وكما يعتاد دخول المسجد بالرجل اليمنى والخروج بالرجل اليسرى ونحو ذلك، وهذا النوع الأخير يجتمع فيه الوصفان فيكون عبادة من قبل طلب الشارع له، ويكون عادة من قبل المداومة على الإتيان به، ولا يناقض أحدهما الآخر، فاعتباره عادة لا ينفي كونه عبادة، واعتباره عبادة لا يناقض كونه عادة.
والعادة في مجتمع المسلمين تكون بأحد أمرين: إما أن تكون عادة موروثة أو عادة محدثة:
1- فالعادة الموروثة: إما أن تكون مأخوذة مما دلت عليه النصوص الشرعية، وإما أن تكون من أمر الناس القديم منذ القرون المفضلة مما تعاقبت عليه الأمة جيلا بعد جيل من غير نكير من أحد من علماء المسلمين فيكون من عرف المسلمين، وفي كلا الحالين تكون العادة معتبرة شرعا يؤخذ بها وتؤسس عليها الأحكام الشرعية.
2- والعادة المحدثة إما أن تكون عادة أحدثها الناس من تلقاء أنفسهم من بعد القرون المفضلة، أو تكون عادة قادمة من غير بلاد المسلمين وقد دلت النصوص الشرعية إما إجمالا وإما تفصيلا على فسادها ومخالفتها لنصوص الشريعة أو مقاصدها، وفي كلا الحالين فإن العادة مرفوضة غير مأخوذ بها ولا معول عليها.
فالعادة على ذلك نوعان:
عادة صحيحة، وهي التي لا تخالف نصاً من نصوص الكتاب أو السنة، ولا تفوت مصلحة معتبرة، ولا تجلب مفسدة راجحة، وهي التي تذكر في مثلها القاعدة الفقهية المشهورة: "العادة محكمة".
وعادة فاسدة، وهي التي تكون مخالفة للنص الشرعي من الكتاب أو السنة أو مخالفة للمقاصد الشرعية، أو فيها تفويت مصلحة معتبرة أو جلب مفسدة راجحة.
ومن هنا نسأل الذين يزعمون أن تغطية المرأة وجهها بحضرة الرجل الأجنبي عادة وليس عبادة-أي يثبتون لها العادة وفي الوقت نفسه ينفون عنها العبادة، فتكون نسبتها للدين حينئذ بدعة (حسب دعواهم السابقة) -هل هي عادة فاسدة أم عادة صحيحة؟ والجواب واضح لكل من كان ذا عقل ولب يفهم ويعي ويقيس الأمور بمقياسها الصحيح.
وإذا نظرنا لمسألة تغطية المرأة وجهها بحضرة الرجل الأجنبي من جهة العادة فقط تبين بما لا مجال فيه للمناقشة أن هذه العادة موروثة ليست حادثة بعد القرون المفضلة ولا مستجلبة من بلاد الكفار، وحينئذ يقال: هذه العادة الموروثة من أين ورثها المسلمون؟ فإما أن يقال: إنهم ورثوها من أيام الجاهلية واستمرت فيهم بعد مجيء الإسلام، وإما أن يقال: إنهم ورثوها من نصوص الشريعة التي تدل على ذلك.
فإن قيل: إنهم ورثوها من النصوص الشرعية دل ذلك على أن تغطية وجه المرأة مما دلت عليه الشريعة وطلبته من نساء المؤمنين وبذلك تكون أيضا عبادة إلى جانب كونها عادة.
وإن قيل: إنهم ورثوها من أيام الجاهلية[1]، قلنا لهم: عندما جاء الإسلام ووجد الأمر على ذلك النحو هل نهى عنه أم أقره؟
فإن قالوا نهى عنه قلنا لهم: كذبتم أين النهي؟ أين نهى الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم نساء المؤمنين عن تغطية وجوههن بحضرة الرجل الأجنبي؟ ولا يوجد نهي عن ذلك فمن قاله فهو كاذب مفتر على الله ورسوله.
وإن قالوا: أقره، قلنا: قد ثبت المطلوب، وهو حجة عليكم، فإذا أقره الشرع دل على حسنه وصوابه، فالشرع لا يقر الناس على عمل باطل ويسكت عن بيان وجه الصواب فيه، والقائل في هذه الحالة: إن الشرع سكت عن بيان موقفه من هذه القضية ولم يبين الحق فيها، طاعن في القرآن وطاعن في السنة: أما القرآن فقد فقال الله تعالى عنه أنه هدى ونور وأنه مبين وأنه بيان، وما كان هذا شأنه فلا يسكت عن بيان الحق، وأما السنة فقد قال الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم"، فالرسول صلى الله عليه وسلم يبين للناس ما أنزله الله إليهم فيدلهم على الحق حتى يتمسكوا به، كما ينهاهم عن الباطل حتى يجتنبوه، وإذا سكت عن شيء بعد علمه به دل أن ذلك الشيء مما تقبله الشريعة وتقره، ولذلك عد علماء الأصول من السنة التي يؤخذ بها وتستقى منها الأحكام: التقرير، ويقال لها سنة تقريرية: وهو أن يحدث شيء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل فيبلغه ويسكت عن النهي عنه فيكون هذا إقرارا له وبيان أنه حق ومشروع إذ الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم عن إقرار الباطل..
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يستدلون على إقرار الشارع لأمر ما بوجود هذا الأمر بينهم معمولا به ولا ينهاهم القرآن عنه، كما قال جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: "كنا نعزل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل"[2]، زاد سفيان في رواية مسلم: "لو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن"، وفي رواية أخرى لمسلم: "كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا".
فلو قدر أن القرآن لم يأمر نساء المسلمين نصا بتغطية وجوههن إلا أنه أقر ذلك ولم ينه عنه، ولما كانت المسلمات تفعل ذلك تدينا لأنه لم يكن من عادتهن قبل ذلك،كان هذا الإقرار إقرارا أنه حق ودين وعبادة.
وهذا الكلام كله يقال على فرض أن تغطية المرأة وجهها بحضرة الرجل الأجنبي عنها لم يرد فيها غير عادة المسلمين، لكن هل هذا الافتراض صحيح؟ بالطبع لا، فقد جاءت أدلة متعددة من الكتاب ومن السنة تدل على أن المرأة تغطي وجهها بحضرة الرجل الأجنبي عنها، فمن ذلك:
1- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب: 59]، وهذا أمر من الله تعالى لرسوله الكريم المبلغ عنه وحيه وشرعه أن يأمر نساءه وبناته ونساء المؤمنين بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، وهذا معناه تغطية وجوههن ورؤسهن وسائر أجسادهن بحضرة الرجل الأجنبي، وقد اتفقت كلمة كثير من المفسرين على أن تغطية وجه المرأة بحضرة الرجل الأجنبي داخل في المراد بإدناء الجلابيب، وهناك العديد ممن تكلم بذلك من العلماء العالمين بتفسير كلام رب العالمين [3]، وكفى بذلك دليلا وحجة واضحة على أن التغطية من الدين ومن العبادة التي أمر النساء بها.
والجلابيب جمع جلباب، والجلباب هو الثوب الذي تشتمل به المرأة فيغطي جميع الجسد، قال ابن حجر رحمه الله تعالى في بيان تفسير الجلباب: "الجِلْباب وهو بكسر الجيم وسكون اللام وبموحدتين بينهما ألف، قيل :هو المقنعة، أو الخمار، أو أعرض منه، وقيل :الثوب الواسع يكون دون الرداء، وقيل :الإزار، وقيل :الملحفة، وقيل :المُلاءة، وقيل :القميص" [4] فكل هذه ألفاظ متقاربة في المعنى يراد بها الثوب الذي يستر البدن كله.
وقوله :"يدنين" أي يقربن "من جلابيبهن" أي شيئا من جلابيبهن، والمعنى يقربن إلى وجوههن شيئا من جلابيبهن فيغطين بها وجوههن.
أقوال بعض أهل العلم في بيان ذلك:
وقد فسر جمع من أهل العلم قديما وحديثا آية الجلابيب بتغطية المرأة لوجهها في مواجهة الرجال الأجانب، فمن هؤلاء:
1- ابن جرير الطبري قال رحمه الله تعالى: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين: لا تشتبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن، لئلا يعرض لهن فاسق إذا علم أنهن حرائر، بأذى من قول"، فبين رحمه الله تعالى أن الإدناء المأمور به يعني تغطية الشعور والوجوه يخالفن الإماء بذلك، ليدل على أنهن حرائر، ثم بين الطبري أن أهل التفسير منهم من قال بهذا القول الذي اختاره، ومنهم من لم يقل به، فقال: "ثم اختلف أهل التأويل في صفة الإدناء الذي أمرهن الله به فقال بعضهم :هو أن يغطين وجوههن ورءوسهن فلا يبدين منهن إلا عينا واحدة... وقال آخرون :بل أمرن أن يشددن جلابيبهن على جباههن" [5] وقد ذكر ابن جرير من قال بكل قول من هذين القولين من أهل التفسير.
2- أبو بكر الجصاص الحنفي: "في هذه الآية يدنين عليهن من جلابيبهن، دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين وإظهار الستر والعفاف عند الخروج، لئلا يطمع أهل الريب فيهن، وفيها دلالة على أن الأمة ليس عليها ستر وجهها وشعرها، لأن قوله تعالى ونساء المؤمنين ظاهره أنه أراد الحرائر" [6].
3- القرطبي المالكي: "لما كانت عادة العربيات التبذل وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن، وكن يتبرزن في الصحراء قبل أن تتخذ الكُنُف، فيقع الفرق بينهم وبين الإماء فتعرف الحرائر بسترهن، فيكف عن معارضتهن من كان عذبا أو شابا" [7]، وقال في معنى الجلباب: "والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن" [8]، وكلام القرطبي هنا واضح في أنه يفسر الإدناء بتغطية الوجه وعدم كشفه، ثم حكى القرطبي القولين كما فعل الطبري.
4- ابن كثير الشافعي: "يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم تسليما أن يأمر النساء المؤمنات -خاصة أزواجه وبناته لشرفهن -بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية، وسمات الإماء، والجلباب هو الرداء فوق الخمار...قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما :أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة، وقال محمد بن سيرين :سألت عبيدة السلماني عن قول الله عز وجل: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} ، فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى" [9].
5- القاضي البيضاوي الشافعي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ}: يغطين وجوههن وأبدانهن بملاحفهن إذا برزن لحاجة" [10].
6- جلال الدين المحلي: " {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} : جمع جلباب وهي الملاءة التي تشتمل بها المرأة :أي يرخين بعضها على الوجوه إذا خرجن لحاجتهن إلا عينا واحدة" [11].
7- وقال أبو السعود: "أي يغطين بها وجوههن وأبدانهن إذا برزن لداعية من الدواعي" [12].
8- وقال النسفي الحنفي: "ومعنى يدنين عليهن من جلابيبهن يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال إذا زال الثوب عن وجه المرأة ادن ثوبك على وجهك، ومن للتبعيض أي ترخى بعض جلبابها وفضله على وجهها، تتقنع حتى تتميز من الأمة، أو المراد أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب، وأن لا تكون المرأة متبذلة في درع وخمار كالأمة، ولها جلبابان فصاعدا في بيتها، وذلك أن النساء في أول الإسلام على هجيراهن في الجاهلية متبذلات تبرز المرأة في درع وخمار، لا فضل بين الحرة والأمة، وكان الفتيان يتعرضون إذا خرجن بالليل لقضاء حوائجهن في النخل والغيطان للإماء، وربما تعرضوا للحرة لحسبان الأمة، فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء، بلبس الملاحف وستر الرؤوس والوجوه، فلا يطمع فيهن طامع" [13].
9- وقال الزمخشري: " {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} : يرخينها عليهن ويغطين بها وجههن وأعطافهن، يقال: إذا زل الثوب عن وجه المرأة :أدنى ثوبك" [14].
10- وقال أبو إسحق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري: "أي يرخين أرديتهن وملاحفهن فيتقنّعن بها، ويغطّين وجوههن ورؤوسهن ليُعلم أنّهنّ حرائر فلا يُتعرّض لهنَّ ولا يؤذين" [15]، وغيرهم من أهل العلم كثير.
ومما يدل على أن المراد بإدناء الجلابيب يدخل فيه تغطية الوجه أن تلك الآية قد توجه الأمر فيها بالإدناء لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكان المعنى شاملا لتغطية الوجه لوجوب ذلك عليهن بالإجماع، وهو ما يعني أن نساء المؤمنين عليهن تغطية وجوههن عند الرجال الأجانب، لتوجه الأمر إليهن بإدناء الجلابيب مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقد خرج الأمر بذلك مخرجا واحدا.
2- قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ..} إلى قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ..} [الأحزاب: 53] قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "هذه آية الحجاب وفيها أحكام وآداب شرعية، وهي مما وافق تنزيلها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما ثبت في الصحيحين عنه أنه قال: وافقت ربي في ثلاث قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [سورة البقرة: 125]، وقلت: "يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو حجبتهن، فأنزل الله آية الحجاب، وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما تمالأن عليه في الغيرة: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن، فنزلت كذلك" [16].
ومعلوم أن الحجاب الذي كان يطلبه عمر ليس هو مجرد تغطية الرأس والنحر أو العنق مع كشف الوجه، وإنما كان يريد غطاء البدن كله بما فيه الوجه، بل كان يريد أكثر من ذلك، كان يريد عدم الخروج من المنزل إطلاقا، وقد دل على رغبته تلك حديثه في قصة خروج سودة رضي الله تعالى عنها عندما قال لها عند خروجها قد عرفناك يا سودة -وكان يعرفها قبل الحجاب وكانت جسيمة لا تخفى على من عرفها -فانظري كيف تخرجين.
والاستخدام القرآني للفظ الحجاب إنما جاء في الستر، ويدل لذلك آيات كثيرة منها قوله تعالى في حق مريم رضي الله تعالى عنها: {فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا} [سورة مريم: 17]، والحجاب الذي اتخذته مريم فيه ثلاثة أقوال:
أحدها :الستر والحاجز.
والثاني :أن الشمس أظلتها فلم يرها أحد من أهلها وذلك مما سترها الله به.
والثالث :أنها اتخذت حجابا من الجدران" [17]، وكلها تدور حول سترها كلية عن نظر الناس، وليس ستر شعرها ونحرها.
والعلماء لم يختلفوا في المعنى المراد من الحجاب في آية الحجاب، لكن هل الأمر بالحجاب قاصر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أم هو عام يشمل نساء المؤمنين جميعهن؟
أسباب ورود الآيات تبين أن الحديث كان عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، لكن بالنظر إلى أدلة كثيرة يتبين أن نساء المؤمنين يشتركن في ذلك الحكم مع أمهات المؤمنين.
أولا: لما تقرر في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب.
وثانيا: لاشتراك الجميع في علة الحكم، وهي قوله تعالى: {ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [سورة الأحزاب: 53]، قال ابن جرير رحمه الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} يقول: وإذا سألتم أزواج رسول الله، ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج، متاعا فاسألوهن من وراء حجاب، يقول: من وراء ستر بينكم وبينهن، ولا تدخلوا عليهن بيوتهن، ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن، يقول تعالى ذكره: سؤالكم إياهن المتاع إذا سألتموهن ذلك من وراء حجاب، أطهر لقلوبكم وقلوبهن من عوارض العين فيها التي تعرض في صدور الرجال من أمر النساء، وفي صدور النساء من أمر الرجال، وأحرى من أن لا يكون للشيطان عليكم وعليهن سبيل" [18].
وقال القرطبي: "في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب، في حاجة تعرض أو مسألة يُستفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة بدنها وصوتها كما تقدم، فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة :كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يَعرِض وتَعَيَّن عندها" [19]، وقال أبو بكر الجصاص: "قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} ، قد تضمن حظر رؤية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وبين به أن ذلك أطهر لقلوبهم وقلوبهن، لأن نظر بعضهم إلى بعض ربما حدث عنه الميل والشهوة، فقطع الله بالحجاب الذي أوجبه هذا السبب، قوله تعالى :وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله، يعني بما بين في هذه الآية: من إيجاب الاستئذان، وترك الإطالة للحديث عنده، والحجاب بينهم وبين نسائه، وهذا الحكم وإن نزل خاصا في النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه، فالمعنى عام فيه وفي غيره؛ إذ كنا مأمورين باتباعه والاقتداء به، إلا ما خصه الله به دون أمته" [20]
3- ومن أدلة الأمر بالحجاب قول الله عز وجل: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ} [سورة النور: 31].
فقد نهى الله تعالى النساء عن إبداء زينتهن، واستثنى من ذلك ما ظهر من الزينة، وفي ذلك قولان مشهوران لأهل العلم:
القول الأول: أن ما ظهر منها، هو ما ظهر بدون قصد منها أي بغير اختيارها، فهو الذي ظهر،كأن يقع الستر أو يسقط، أو تكشفه الريح ونحو ذلك، ولم تكن هي التي أظهرته باختيارها، أو ما لا يمكن إخفاؤه كالثياب الظاهرة، فهو ظاهر بوضعه.
والقول الثاني: أن ما ظهر منها، هو الوجه والكفان، وما تعلق بهما كالكحل والخضاب والأَسورة والخاتم.
واللغة تبين أن ظهر غير أظهر، فما ظهر من الزينة هو الذي ظهر، ولم يظهره أحد، والوجه والكفان لا يظهران إلا إذا أظهرتهما المرأة، فالقول الأول أقوي وأصوب لدلالة الاستعمال اللغوي عليه، فمعنى الآية على ذلك نهي النساء عن إبداء الزينة، لكن ما ظهر من هذه الزينة بغير اختيارها -على التفصيل المتقدم- لا تنهى عنها لأنه خارج عن إرادتها.
وعندما جاء الحديث عن إبداء الزينة باختيار المرأة وإرادتها قال الله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ...} الآية، فهنا إبداء الزينة يحدث باختيار المرأة وإرادتها لأنها هي الفاعلة له، لذلك قيد هذا الإبداء بزوجها ومحارمها، فتظهر المرأة زينتها باختيارها لمن ورد ذكرهم في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ...} الآية، وهم الأزواج والآباء والأبناء وسائر من جاء في الآية، لأن الآية حصرت إبداء الزينة فيهم، أي لا يجوز أن تبدي شيئا من بدنها لأجنبي عنها لا وجهها ولا كفيها ولا غير ذلك، وقد دل على ذلك أيضا ووضحه أن من الذين استثنتهم الآية ممن يجوز إبداء الزينة لهم صنفان:
الأول: غير أولي الأربة من الرجال، وهم الذين لا شهوة لهم، وليس لهم رغبة في النساء.
والثاني :الأطفال الصغار الذين لم يظهروا على عورات النساء، فيعلموا ما هنالك، فهذان الصنفان لا يتأثران بزينة المرأة ولا تثير زينتها فيهم شيئا، ولذلك جاز الإبداء لهم، مما يعلم معه أن تلك التدابير إنما هي لمنع فتنة الرجال بالنساء، وبهذا يتبين أن ستر وجه النساء مطلوب؛ لأنه موضع الجمال ومكمن الافتتان.
4- ومما يدل على أن ستر الوجه مطلوب بدرجة كبيرة أن الآيات نهت النساء عن الضرب بالأرجل لأن ذلك يُظهر زينة الحلي المخفية فقال تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}، ولا شك أن فتنة النظر إلى وجه المرأة أشد وأقوى من سماع صوت خلخال مستور لا يرى على أرجل بعض النساء، والذي لا يُشك فيه أن وجه المرأة يجمع محاسنها، وهو محل نظر الرجال، وأن الفتنة الحاصلة بالنظر إليه أكثر بكثير من النظر إلى غيره، أو سماع صوت حلي مستور، ثم إن سياق الآية يبين أن النساء كن منهيات عن إبداء موضع الخلخال، وإلا لو كان يصلح لهن إبداء الموضع وإظهاره لما احتجن إلى الضرب بالأرجل حتى يعلم السامع بتلك الزينة المخفية.
وحينئذ يقال :أيهما أشد فتنة وتأثيرا في القلب :رؤية وجه المرأة، أم رؤية موضع الخلخال وعليه الخلخال أو رؤية قدم المرأة؟ وإذا كانت الشريعة قد منعت من إظهار الخلخال أو موضعه أفتجيز الشريعة بعد ذلك إظهار الوجه؟
5-وقد جاء في السنة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " لَا تَنْتَقِبِ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ وَلَا تَلْبَسِ الْقُفَّازَيْنِ" [21]
القفازان: مثنى، مفرده القُفَّاز بضم القاف وتشديد الفاء، وهو شيء يلبس على قدر اليد، فيغطي الكف والأصابع.
النقاب: الخمار الذي تستر به المرأة وجهها، ولا يبدو منه إلا العينان وهو مصنوع على قدر الوجه.
المحرمة :المرأة التي أهلت بالحج أو العمرة أو كليهما.
تنتقب: تستر وجهها بالنقاب.
هذا طرف من حديث طويل بين فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يلبس المحرم من الثياب، كما بين فيه ما لا تلبس المحرمة، وأنها لا تستر وجهها بالنقاب، فكان في ذلك دليل من باب مفهوم المخالفة أن المرأة غير المحرمة يشرع لها أن تستر وجهها بالنقاب، وكان أيضا دليلا على أن النقاب كان معروفا زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت النساء تستعملنه وتلبسنه، حتى احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين للنساء المحرمات أنها لا تنتقب، وكان في منع المرأة المحرمة من الانتقاب دليل على أن وجه المرأة ليس بعورة، كعورة الصدر والنهدين مثلا، وإنما يُطلب تغطيته من أجل نظر الرجال، فإذا كانت المرأة بحيث لا يراها الرجل الأجنبي عنها: كأن تكون في بيتها، أو في سيارة مظللة بما يحجب رؤية ما بداخلها، أو عليها ستور، أو في مكان خال لا يوجد فيه رجال، لم يجب عليها تغطية وجهها، بل يجوز لها إبداؤه.
وذلك أن أمر المرأة في الإسلام مبني على الستر والصيانة وعدم التبذل، مع عدم تضييق الواسع، لذلك جاءت النصوص تأمر المرأة بالقرار في بيتها، وترك الخروج منه إلا لحاجة، وألزمتها النصوص عند الخروج بأحكام وآداب كلها محققة للستر والصيانة، فمُنعت النساء من الاختلاط بالرجال في المجامع العامة، وفي الطرقات، وأُمرت النساء بالاحتجاب من الرجال، والحجاب :هو كل ما منع شيئين أو حال بينهما وسترهما عن بعضهما.
وحجاب المرأة قد يكون بقرارها في البيت الذي تحجز جدرانه النساء عن أعين الرجال، ويكون بمنع الرجال الأجانب من الدخول على النساء في البيوت والخلوة بهن، كما يكون بثيابها التي تغطي بدنها كله فتكون حاجزا بين المرأة وبين نظر الرجال عند الخروج.
والنقاب نوع من أنواع الحجاب الذي أُمرت به المرأة، كما أن جدار البيوت أو المنازل حجاب، وكذلك الخيمة حجاب، والثياب حجاب، وكل ما حجب شيئا عن شيء أو منعه فهو حجاب، فالحجاب معنى عام يمكن تحقيقه في عالم الواقع بعدة طرق كالتي مرَّ ذكرها، والنقاب هو أحد تطبيقات الحجاب في عالم الواقع.
والحجاب نوعان: حجاب الأشخاص وذلك عن طريق الاحتجاب بالجدر أو الخيمة أو الستور، وحجاب الرؤية وذلك عن طريق الثياب، ولا ينحصر الحجاب في صورة واحدة من الصور، بل يتحقق احتجاب النساء عن الرجال بأمور كثيرة منها:
أ- قرار المرأة في بيتها وعدم خروجها منه بغير حاجة، وعدم اختلاطها بالرجال كما جاء في قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ} [الأحزاب: 33].
ب- منع دخول الرجال الأجانب على النساء في بيوتهن والخلوة بهن من غير وجود محرم، كما دل على ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} .
ج- ستر المرأة جسدها كله من الرأس حتى القدمين عند الخروج،كما في قوله تعالى: { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} [سورة الأحزاب: 59]، قال ابن تيمية: "فآية الجلابيب في الأرْدِية عند البروز من المساكن، وآية الحجاب عند المخاطبة في المساكن".
فالذي ينبغي التعويل عليه وخاصة في ذلك العصر الذي كثرت فيه الفتن، وفشت فيه الخيانة وضاعت فيه الأمانة، أن تغطي المرأة رأسها ووجهها ونحرها وجسدها كله، بثياب واسعة لا تشف ولا تصف، ولا تظهر شيئا منها صونا لدينها وحفظا لحيائها وعفافها، والمرأة لا تخسر شيئا بتغطيتها وجهها، بينما تشهد الوقائع الكثيرة المتكررة أن في كشفه خسارة عليها وعلى غيرها، وظهور وجه المرأة خاصة إذا كان الوجه حسنا وضيئا -وهو كذلك في نظر كثير من الرجال وتقديرهم وإن لم يكن كذلك في الحقيقة والواقع- قد يحمل بعض أهل الفضل والديانة، من أصحاب الصدور السليمة التي لا غش فيها ولا خيانة، على النظر إليه وإن لم يرد من وراء ذلك سوءا، فكيف بمن لم يكن كذلك، بل كان أكبر همه أن يجيل ناظريه في وجوه النساء؟
كشف النساء وجهها أمام الرجل الأجنبي أمر حادث طارئ:
والمتتبع لمسألة كشف المرأة وجهها بحضرة الرجل الأجنبي من الناحية الواقعية يجد أنه أمر حادث ليس من شأن الناس القديم، ويدل لذلك أمور منها:
الأول: أن سفور المرأة وكشفها وجهها له دعاة معروفون، وله بداية يؤرخ لها في عصرنا الحاضر، فيقولون :أول من دعا إلى سفور النساء فلان، وأول من خلعت الحجاب وكشفت وجهها للرجال الأجانب فلانة، وهذا يعني أنه لم يكن من أمر الناس القديم، بل هو شيء حدث بعد أن لم يكن حادثا، وهو أمر لم يمض عليه أكثر من سبعين عاما، وقد يختلف هذا التوقيت نوعا ما باختلاف البلدان وقربها من العمل بأحكام الشرع أو بعدها عنه، وما زالت هناك حتى الآن بلاد تحافظ على هذا الحجاب نسأل الله لها الثبات.
الثاني: ما نقله أهل العلم في كتبهم من تتابع نساء المؤمنين على ستر وجوههن عن الرجال الأجانب، قال ابن حجر رحمه الله تعالى: "ولم تزل عادة النساء قديما وحديثا يسترن وجوههن عن الأجانب"[22]، ونقل عن الغزالي قوله: "لم تزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن متنقبات" [23].
تنبيه:
نهي المرأة المحرمة عن لبس النقاب والقفاز لا يعني أنه يجب عليها أن تكشف وجهها وكفيها، ولا تسترهما عن أعين الرجال، إذ ليس هناك ما يمنع النساء من ستر وجوههن وهن محرمات عن الرجال الأجانب، كل ما هناك أنها لا تستعمل النقاب في ذلك، وقد بين أهل العلم العلة في النهي عن النقاب والقفاز، أنه مصنوع على قدر العضو، فالمنع من تغطية عضو أو جزء من الجسد بغطاء مصنوع على قدره يحيط به لا يقتضي المنع من ستره بالكلية بغير ذلك النوع من الغطاء، فإن الرجل المحرم يحرم عليه لبس السراويل، ومع ذلك فلا يحرم عليه تغطية المكان نفسه بإزار بل يجب عليه تغطيته.
وقد دل على أن النساء المحرمات يغطين وجوههن عند حاجتهن إلى ذلك إذا اقترب منهن الرجال أو اقتربن هن من الرجال، ما روته السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: "كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه" [24]، وقول الصحابي كنا نفعل كذا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كنا نفعل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صيغة لها حكم الرفع كما قرر ذلك علماء الأصول، وما روته فاطمة بنت المنذر عن أسماء قالت :"كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نتمشط قبل ذلك في الإحرام" [25]، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت إلا ثوبا مسه ورس أو زعفران، ولا تتبرقع ولا تلثم، وتسدل الثوب على وجهها إن شاءت" [26]، وروى سعيد بن منصور بسنده عن عائشة قالت: "تسدل المرأة جلبابها من فوق رأسها على وجهها"[27]، وقال ابن حجر: "وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله والخفاف، وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها، إلا وجهها فتسدل عليه الثوب سدلا خفيفا، تستتر به عن نظر الرجال، ولا تخمره، إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر قالت :كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر، تعني: جدتها، قال: ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدلا، كما جاء عن عائشة قالت: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بنا ركب سدلنا الثوب على وجوهنا ونحن محرمات، فإذا جاوزنا رفعناه، انتهى، وهذا الحديث أخرجه هو من طريق مجاهد عنها وفي إسناده ضعف" [28]، وقال ابن عبد البر: "وعلى كراهية النقاب للمرأة جمهور علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من فقهاء الأمصار أجمعين،لم يختلفوا في كراهية الانتقاب والتبرقع للمرأة المحرمة، إلا شيء روي عن أسماء بنت أبي بكر: أنها كانت تغطي وجهها وهي محرمة، وروي عن عائشة أنها قالت: تغطي المحرمة وجهها إن شاءت، وقد روي عنها أنها لا تفعل، وعليه الناس"، إلى أن يقول: "ولا خلاف بين العلماء بعد ما ذكرنا، في أنه جائز للمرأة المحرمة لباس القمص والخفاف والسراويلات، وسائر الثياب التي لا طيب فيها، وأنها ليست في ذلك كله كالرجل، وأجمعوا أن إحرامها في وجهها دون رأسها، وأنها تخمر رأسها وتستر شعرها وهي محرمة، وأجمعوا أن لها أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها سدلا خفيفا، تستتر به عن نظر الرجال إليها، ولم يجيزوا لها تغطية وجهها وهي محرمة إلا ما ذكرنا عن أسماء، روى مالك عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر الصديق، وقد يحتمل أن يكون ما روي عن أسماء في ذلك كنحو ما روي عن عائشة أنها قالت :كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا مر بنا راكب سدلنا الثوب من قبل رؤوسنا وإذا جاوزنا الراكب رفعناه" [29]، وذكر ابن القاسم: "أن مالكا كان يوسع للمرأة أن تسدل رداءها من فوق رأسها على وجهها إذا أرادت سترا، وإن كانت لا تريد سترا فلا تسدل" [30]، وهذا الذي ذكره ابن عبد البر احتمالا وكذلك ابن المنذر، قد جاء ما يؤيده في رواية فاطمة المتقدمة التي أخرجها سعيد بن منصور فإن فيها "كنا نغطي وجوهنا من الرجال" فبينت أنهن كن يغطين وجوههن، ولم تقل :نخمر، وبينت أيضا أن ذلك لم يكن على الدوام، إنما ذلك بسبب الرجال أي عند مرور الرجال.
فائدة:
ما جاء عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما من أنها كانت تغطي وجهها أو تخمره وهي محرمة، دليل على بطلان الرواية المنسوبة إليها أنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يري منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه، فلو كان هذا ثابتا عندها ما كانت تحتاج لتغطية وجهها في الإحرام الذي جاء فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تنقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين.
وأخيرا:
قد تبين بما أوردت من النصوص وأقوال أهل العلم أن تغطية وجه المرأة بحضرة الرجل الأجنبي قربة وطاعة وعبادة لله تعالى إلى جانب كونها من عادات المسلمين، وأن أقوال أهل العلم من مختلف مذاهب المسلمين لم تخرج عن ذلك فهي دائرة بين إيجاب التغطية وبين استحبابها، فأعلاها الوجوب وأدناها الاستحباب، فيكون قول القائل إن تغطية المرأة لوجهها بحضرة الرجل الأجنبي عادة وليس عبادة أي ليست التغطية من الدين مخالفا لإجماع المسلمين بيقين، وهو متوعد على ذلك بالعذاب الشديد، قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [سورة النساء: 115]؛ فمتبع غير سبيل المؤمنين الذي هو طريقهم متوعد بعذاب جهنم وساءت مصيرا.
نسال الله تعالى بمنه وفضله أن يبصرنا بأمور ديننا وأن ينجينا من عذاب جهنم، وأن يجعلنا من الذين يصدقون في حديثهم ولا يقولون إلا الحق ولا يبيعون دينهم بعرض من الدنيا ومن الذين يبلغون شريعة الله ويخشونه وحده ولا يخشون أحدا سواه.
------------------------------------
[1] مع أن هذه العادة ليست موروثة من أيام الجاهلية فالثابت في النصوص أن العادة في العصر الجاهلي كان كشف وجه المرأة وليس تغطيته.
[2] أخرجه البخاري.
[3] من ذلك حبر الأمة وترجمان القرآن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، والتابعي الجليل عبيدة السلماني وشيخ المفسرين الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ت310هـ، وأبو بكر أحمد بن علي الجصاص ت370هـ، وأبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني ت 489هـ، وعماد الدين بن محمد الطبري الشهير بالكيا الهراسي ت504، ومحيي السنة أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي ت510هـ، ،، وأبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد الزمخشري ت538هـ، وأبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري، وفخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي 606 هـ، وأبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي 671هـ، وناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي ت 685 هـ، وعبد الله بن أحمد بن محمود النسفي ت 701هـ، ومحمد بن أحمد ابن جزي ت741هـ، وأبو حيان محمد بن يوسف بن حيان الأندلسي ت745هـ، وأبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي ت775هـ، أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي ت875 هـ، وأبو السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطفى ت982هـ، وأحمد بن محمد بن عجيبة الحسني ت 1227هـ، ومحمد بن علي بن محمد الشوكاني ت 1250هـ و أبو الفضل محمود الألوسي ومحمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي ت: 1393هـ.
[4] فتح الباري1/505.
[5] تفسير ابن جرير الطبري 10/331.
[6] أحكام القرآن للجصاص 5/245.
[7] تفسير القرطبي 14/.
[8] تفسير القرطبي 14/215.
[9] تفسير ابن كثير 3/519، وقد روى ابن جرير الطبري أثر عبيدة السلماني بإسناده إليه، وهو إسناد صحيح، فقد قال الشيخ محمد بن أحمد إسماعيل المقدم: "رجال هذا الإسناد جبال في الثقة والضبط" (عودة الحجاب 3/182).
[10] تفسير البيضاوي1/386.
[11] تفسير الجلالين 1/559.
[12] تفسير أبي السعود 7/115.
[13] تفسير النسفي 3/315.
[14] الكشاف 1/1008.
[15] الكشف والبيان 8/64.
[16] تفسير ابن كثير 3/504 والحديث المذكور أخرجه البخاري كتاب الصلاة رقم 387.
[17] أنظر في ذلك تفسير ابن جرير الطبري 16/59 زاد المسير5/215 وفتح القدير 3/327.
[18] تفسير الطبري: 22 / 39.
[19] تفسير القرطبي 14/227.
[20] أحكام القرآن للجصاص 5/242.
[21] أخرجه البخاري كتاب الحج رقم1707، والترمذي كتاب الحج رقم 763، والنسائي كتاب الحج رقم 2625 وأبو داود كتاب المناسك رقم 1554، وأحمد رقم 5731.
[22] فتح الباري 9/235-236.
[23] فتح الباري 9/248.
[24] أخرجه أبو داود كتاب المناسك رقم1562، وابن ماجه كتاب المناسك رقم2926 وأحمد رقم22894 وابن خزيمة 4/203 قال: وفي القلب منه، ورواه غيرهم، كلهم من طريق يزيد بن أبي زياد وهو متكلم فيه،قال ابن حجر :وفي إسناده ضعف، وقال الألباني: وسنده حسن في الشواهد ومن شاهده الحديث الذي بعده (حديث أسماء) جلباب المرأة المسلمة/107.
[25] أخرجه الحاكم في المستدرك1/624 وقال :هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، قال الألباني :ووافقه الذهبي، وإنما هو على شرط مسلم وحده (جلباب المرأة المسلمة/108)، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه 4/203، بدون قوله "في الإحرام"، وأخرجه مالك في الموطأ رقم634 بلفظ: "كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق".
[26] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى5/47، وقال الألباني :رواه البيهقي بسند صحيح (جلباب المرأة المسلمة/ 14).
[27] ذكره ابن حجر في فتح الباري 3/474.
[28] فتح الباري3/475، وأثر عائشة رضي الله تعالى عنها تقدم تخريجه في الهامش رقم 27.
[29] التمهيد 15/107-109، وواضح من كلام ابن عبد البر فيما نقله التفرقة بين السدل والتغطية حيث أجازوا الأول ومنعوا الثاني، والسدل في اللغة الإرخاء والإرسال، والتغطية الستر، وكلا السدل والتغطية تستخدمه المرأة كي تستتر عن أعين الرجال، فلعل المراد في كلامهم تغطية معينة فيكون الممنوع الصفة وليس مجرد الستر، كأن يكون المراد بالتغطية النقاب مثلا أو الإلصاق الشديد على الوجه.
[30] التمهيد 15/111.
المصدر: موقع صيد الفوائد
محمد بن شاكر الشريف
باحث وكاتب إسلامي بمجلة البيان الإسلاميةوله عديد من التصانيف الرائعة.
- التصنيف: