خطب مختارة - [52] التحذير من أذية المسلمين

منذ 2016-03-01

الذي يؤذي المؤمنين على خطر من غضب الله وانتقامه، وما توعد به الظالمين في الدنيا ويوم القيامة، وعلى خطر من أن تصيبَه دعوةُ مظلوم فيهلك

الخطبة الأولى:

أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى واحذروا سخطه، فإنكم بين يدي الله موقوفون، وبأعمالكم مجزيون، وعلى تفريطكم في حقوق الله وحقوق عباده نادمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

أيها الناس يختصم الناس بين يدي الله تبارك وتعالى فيطالب صاحب الحق حقه، ويشتكي إلى الله المتعدَى عليه من المعتدِي، فيكون الحُكْم بين يدي الحَكَم العدل الذي ينصف صاحب الحق فيعطيه حقه وافيًا، فتؤخذ المظالم من الظالمين فترد إلى أهلها في يوم لا يملك أحد مالًا فضلًا عن أن يفتدي به، وإنما الحسنات، فالقضاء يوم القيامة في هذه المظالم إنما يكون بما جمعه المعتدِي من حسنات؛ إن كان له عمل صالح فيؤخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أو فنيت أُخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه، ثم طرح في النار.

وذلك القضاء في يوم عظيم {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ . وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ . وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ . لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34-37]. في يومٍ يريد المجرم فيه الفداء من عذاب الله وقد ضيع فرصة الفداء في حياته الدنيا {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ . وَصـاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ . وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى تُـوِيهِ . وَمَن فِى الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيه  .  كلا إنا لظى .  نزاعة للشوى .  تدعوا من أدبر وتولى} ِ[المعارج:11-17].

عباد الله، إن أذية المؤمنين من أشد المظالم، وأعظم المآثم التي توعد الله أهلها بالوعيد الأكيد، وتهددهم بالعذاب الشديد، في مثل قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَـاناً وَإِثْماً مُّبِيناً}  [الأحزاب:58]. ثبت في صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى الصبحَ فهو في ذمةِ اللهِ . فلا يطلبنَّكم اللهُ من ذمتِه بشيٍء فيُدركُه فيكبَّهُ في نارِ جهنمَ» [صحيح مسلم:657].

عباد الله، إن المسلم الحق يحرص على عدم الخطأ على إخوانه المسلمين مطلقًا؛ مطبقًا حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» [صحيح البخاري: 6484]، فالذي يؤذي المؤمنين على خطر من غضب الله وانتقامه، وما توعد به الظالمين في الدنيا ويوم القيامة، وعلى خطر من أن تصيبَه دعوةُ مظلوم فيهلك، ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ رضي الله عنه حينما بعثه إلى اليمن: «واتق دعوة المظلوم ؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» [صحيح مسلم: 19].

أيها المسلمون، إن إيذاء المؤمنين بغير حق له صور كثيرة لا يُستطاع حصرها؛ وإنما تجمعها صفة الأذية والإساءة والمضايقة للغير، ويعظم الإيذاء ويتضاعف الإثم وتشتد العقوبة كلما اشتدت الأذية، وكلما عظمت حرمة الشخص، أو الزمان، أو المكان، أو المناسبة، ولعلنا نقف مع بعض صور الأذية لنحذَر منها ونحذِّر:

من أبرز هذه الصور التعدي على الدماء والأموال والأعراض ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن قرر الناس في يوم النحر على حرمة البلد والشهر واليوم قال: «يا أيُّها الناسُ أيُّ يومٍ هذا؟ . قالوا : يومٌ حَرامٌ، قال : فأيُّ بلدٍ هذا؟ . قالوا : بلدٌ حَرامٌ،قال : فأيُّ شهرٍ هذا؟ . قالوا : شهرٌ حَرامٌ، قال : فإنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ، كحُرمةِ يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهرِكم هذا . فأعادَها مِرارًا، ثم رفَع رأسَه فقال : اللهمَّ هل بلَّغتُ؟، اللهمَّ هل بلَّغتُ؟ . قال ابنُ عباسٍ رضي اللهُ عنهما : فوالذي نفسي بيدِه، إنها لوَصِيَّتُه إلى أُمَّتِه : فلْيُبَلِّغِ الشاهدُ الغائبَ، لا تَرجِعوا بعدي كفارًا، يَضرِبُ بعضُكم رِقابَ بعضٍ» [صحيح البخاري: 1739]

فمن أعظم أذية المؤمنين القتل، وفي ذلك يقول تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، وروى البخاري  عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا» [صحيح البخاري:6862].

أيها المسلمون، وإذا كانت هذه حرمة دم المسلم فإن لعنه وهجره وتفسيقه ورميه بالكفر بغير حق كقتله، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ولعن المؤمن كقتله» [صحيح البخاري:6105]، وفي سنن أبي داود وحسنه الألباني عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:  «إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبوابها دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً ، فإذا لم تَجد مساغا رجعت إلى الذي لُعن فإن كان لذلك أهلًا وإلا رجعت إلى قائلها» [سنن أبي داود:4905]، وروى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» [صحيح البخاري: 6044]

وروى البخاري عن أبي ذررضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يرمي رجل رجلًا بالفسق والكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبُه كذلك» [صحيح الجامع: 5431]، والبعض يؤدي به الأمر في المخاصمة والاختلاف والاتهامات مع أخيه المؤمن إلى الهجر والمقاطعة، والشرع حرَّم الهجرَ والقطيعة بين المسلمين، روى أبو داود في سننه، وصححه الألباني، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار» [صحيح أبي داود:4914].

ومن تِلْكُم الأذيةِ المحرمةِ الاستطالةُ باللسان في أعراض الناس بالغيبة والبُهتُ والتُّهِمُ والنميمة؛ فكل هذه من المظالم التي لا تكفرها الصلاة ولا الصدقة ولا الصوم، بل لا يُغفر للظالم حتى يعفو عنه المظلوم، ونتذكر بهذا ما رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وفيه: «وهل يكبُّ الناسَ في النار إلا حصائدُ ألسنتهم» [صحيح الترمذي: 2616].

ومن تلكم الأذية المحرمة أخذ أموال الناس بالباطل، فهي من أعظم الظلم وأكبر موجبات الإثم، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تـحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام ؛ دمه وماله وعرضه» [صحيح مسلم: 2564]، وروى الإمام مسلم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة. فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله ؟ فقال: وإن كان قضيبًا من أراك» [صحيح مسلم:137].

أيها المسلمون، ثبت في صحيح البخاري عن خولةَ الأنصاريةِ رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عيه وسلم قال: «إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة» [صحيح البخاري: 3118]، وروى البخاري عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته – يعني أفصح في البيان – من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله فإنما فإني أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها» [صحيح البخاري: 2680].

وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الشهيد على عظم منـزلته وعظم مغفرة الله له فإنه لا يغفر له الدَّيْنَ، روى البخاري عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين» [صحيح مسلم: 1886] ، فالدين لا يكفره القتل في سبيل الله وذلك لأنه من حقوق الناس. فكيف بالتعديات المالية التي يعمِد إليها البعض ويرى أنه قد غلب، وهو في الحقيقة قد هلك.

فمن أخذ من الناس شيئا بغير حق فهو ظالم، سواء أخذه بطريق القوة والقهر، أو عن طريق الخديعة والحيلة، أو عن طريق الرشوة، أو بواسطة اليمين الفاجرة، أو بحكم القاضي إذا أخطأ اجتهاده مع علم المدعِي ببطلان دعواه، فكل ذلك ظلم يكون الظالم به عرضةً لعقوبةِ ظُلمِه في الدنيا والآخرة.

عباد الله، إن الرجل إذا ملك مبلغًا كبيرًا من المال ولو كان بالملايين، وكانت عليه ديون أكثر مما يملك، فإنه يصبح مفلسًا لا ثريًا، فيقال: أفلس فلان فقد ذهبت الديون بما جمع، كذلك الحال يوم القيامة، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة؛ ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار» [صحيح مسلم: 2581].

نسأل الله العافية والسلام، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.

الخطبة الثانية:

عباد الله، يتأكد هذا التحذير من أذية المؤمنين في حق الجار، فيجب احترام جواره، فله فوقَ حقِ الإسلام حقُ الجوار؛ روى البخاري ومسلم عن أبي شريح العدوي وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:   «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره» [صحيح البخاري: 6019]، عبدَ الله، إن لم تكن مكرمًا لجيرانك فلا أقل من أن تبتعد عن التعدي أو الأذية أو الإساءة لهم، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قـال: «والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن. قيل : ومن يا رسول الله ؟ قال: الذي لا يأمنُ جارُه بوائقَه» [صحيح البخاري: 6016]، وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من لا يأمنُ جارُه بوائقَه» [صحيح مسلم:46]. 

وكذلك يتأكد هذا التحذير من أذية المؤمنين في حق الرحم والأقارب، فحقهم عظيم ، فيجب الحرص على احترام قربهم، كما يجب الحرص على البعد عن كل ما يؤذيهم أو يكدر عليهم، روى الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله» [صحيح مسلم: 2555].

وكذلك يتأكد هذا التحذير من أذية المؤمنين مع المستضعفين كاليتامى والأرامل والنساء والخدم والعمال، إذ الظلم فيها مع ضعفهم يكون أعظم أخي المسلم إذا مكنت قدرتك من ظلم مخلوق فتذكر ضعفك بين يدي الخالق في الدنيا والآخرة، و كذلك يتأكد هذا التحذير من أذية المؤمنين في حق أهل الاستقامة والصلاح والعلم والدعوة؛ روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قال: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب» [صحيح البخاري: 6502].

فاتقوا الله عباد الله، واحذروا إيذاء المؤمنين، بل أحبوهم وأحسنوا إليهم. اللهم ألِّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، وجنبنا الفواحش والآثام، اللهم طهر قلوبنا تجاه أقاربنا وجيراننا وإخواننا المسلمين، اللهم ارزقنا المحبة والألفة والتعاون على البر والتقوى، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.

                                        

 

المقال السابق
[51] التاريخ الهجري شعيرة إسلامية
المقال التالي
[53] التحذير من أذية المسلم