حاجز المهنة

منذ 2016-03-06

وتمتد هذه النماذجُ المشرقةُ إلى عصرنا؛ لنرى شباباً أفاضل من تخصصات غير شرعية، تمثّلوا هذه الحقيقة، فسعوا إلى توظيف تخصصاتهم، والمهن التي ينتمون إليها في نشر الخير، والدعوة إلى الله، ولسانُ حالِ أحدِهم يقول: لعلي أكون من أهل هذه الآية: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].

الانتساب إلى مهنةٍ مِن المهَن -كالطب والهندسة والتعليم والزراعة وغيرها- قديمٌ قِدَم دبيب أقدامِ البشر في الأرض.

لقد كان الغالبُ على المنتسبين لمهنَتهم الاكتفاءَ بها، والانشغالَ بتطوير ذاته، أو البقاء من رسومها على ما يحقِّق رزقًا له ولأولاده، فلما جاء الإسلامُ نقلَ أهلَه إلى فضاءٍ أرحب، وميادينَ أوسع، جعلتِ الهمّ الأكبرَ الذي يدورُ حولَه الإنسانُ هو همّ الإسلام، مهما كانت مِهَنُهم، وعلى اختلاف مستوياتهم، فلا يحجزهم عن حملِ رسالةِ الإسلام كونهم ليسوا طلبة علمٍ بَلْه علماء بالشريعة.

بل امتد حملُ هذا الهمّ إلى مَنْ ينشغلون عادةً بخاصةِ أنفسهم، أو أناس وقعوا في بعض المعاصي فسُجِنوا، ويحضرني هنا مثالٌ مرّ بي في ترجمة الإمام أحمد رحمه الله حيث يقول: "ما سمعتُ كلمةً منذ وَقعتُ في الأمر الذي وقعتُ فيه؛ أقوى من كلمةِ أعرابي كلَّمني بها في رَحبة طَوق، قال لي: "يا أحمد! إن يَقتلك الحقُّ متَّ شهيدًا، وإن عشتَ عشتَ حميدًا"، قال: فَقوّى قلبي" [1]، ولما تكلّم الإمامُ أحمد عن خوفه من فتنة السوط، وأنه يخاف أن لا يصبر! سمعه بعضُ أهلِ الحبس فقال: "لا عليكَ يا أبا عبدالله! فما هو إلا سَوطان ثم لا تدري أين يَقع الباقي!" فكأنه سُرِّي عنه [2].

وتمتد هذه النماذجُ المشرقةُ إلى عصرنا؛ لنرى شباباً أفاضل من تخصصات غير شرعية، تمثّلوا هذه الحقيقة، فسعوا إلى توظيف تخصصاتهم، والمهن التي ينتمون إليها في نشر الخير، والدعوة إلى الله، ولسانُ حالِ أحدِهم يقول: لعلي أكون من أهل هذه الآية: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].

ومن الأمثلة القريبة: ما فعله بعضُ الشباب -في رمضان الماضي- من تسخير موقع التواصل الاجتماعي (سناب تشات) للتعريف بمكة؛ من خلال حملة سُخّرت للنقل الحيّ لشعائر التراويح، ومشهد الطواف، الأمرَ الذي ترتَّب عليه إسلامُ عددٍ ممن كان يتابع ذلك البث، ومنهم من لم يكن يعرف مكة مِن قبْل، فقادته تلك الجموعُ التي رآها في العشر الأواخر إلى السؤال عن الإسلام، ولعلّهم اهتدوا بسبب ذلك.

لم يكن ذلك الشابُ والفريقُ الذي معه -ممن تبنّوا الفكرة- مِن حمَلَة الشهادات الشرعية، بل كانوا من ذوي التخصصات التقنية.. لكنه حبّ الخير، والرغبة في الدعوة إلى الله باستخدام هذه الوسيلة، فلله درّهم، وبارك فيهم، وأكثر مِن أمثالهم.

وفي القطاع الصحي، تَقرُّ العينُ حين تَرى مَن انبرى لدعوةِ الوافدين -من مسلمين وغيرهم- داخل القطاع الصحي، فهذا طبيب، وآخر صيدلي، وثالث ممرض، كلهم يتسابقون إلى التعاون مع مكاتب التوعية الدينية في المستشفيات، فنفع الله بجهودهم كثيرًا، وأنقذ اللهُ بهم فئاماً من النار.

ونجد بعضَ الموفَّقين من معلميّ اللغة الإنجليزية، يبادرون قبل أن يُسْألوا، بادروا بالتواصل مع مكاتب توعية الجاليات؛ ونُصْبُ أعينهم قوله صلى الله عليه وسلم: «فوالله لأن يهدى بك رجل واحد خير لك من حُمْرِ النعم» [البخاري ح(2942) واللفظ له، ومسلم ح(2406)]، فيجتهدون في الدعوة، وإيصال رسالة الحق إلى من ضل عنه، وهمُّ أحدِهم: كم سيدخل الإسلام بسببي من إنسان؟!

وأعرفُ أحدَ الشباب ممن يعمل في قطاع المقاولات، جعل دعوة الجاليات همّه الأكبر، فلما حمل هذا الهمّ اجتهد في اغتنام كل وسيلةٍ لدعوتهم، ويقول: أتمنى ألا أموت حتى يُسلِم على يديّ أكثر من 300,000 كافر، وأظن أن الذين أسلموا على يديه حتى الآن فاقوا عشرين ألفاً.

إنها دعوةٌ لكل مسلم أن يَحمل رسالةَ الإسلام ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.. وأن يغتنم ما يسّره اللهُ من وسائل لخدمة الدين، فإن كَسِل، فاللهَ اللهَ أن يُؤتَى الإسلام من قِبَله! ولا يكن صاداً عنه بسوء أفعاله وتصرفاته: «فليكفّ شره عن الناس، فإنها صدقة منه على نفسه» [البخاري ح(2518)، مسلم ح(84)]، والله يهدي مَن يشاء إلى صراطٍ مستقيم.

-------------------

[1] مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي (ص: 422).
[2] مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي (ص: 427).

عمر بن عبد الله المقبل

الأستاذ المشارك في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم.