تأمُّلات أُم - (2) حب الأبناء
اقتضت حكمة الله -سبحانه- أن يفطر قلب الأم على المحبة الشديدة لأولادها؛ حتى يتسنى لها القيام بما هو منوط بها من واجبات الأمومة التي تعْلمها كل أمّ: فتتحمل مواصلة السهر، ومباشرة الأذى، وعنت التوجيه،
نتابع معًا أخواتي الكريمات رحلتنا مع تأملات الأمّ، أبدأ مستعينة بالله تعالى سائلته التوفيق والسداد:
نصحتني إحدى كبيرات العائلة -حفظها الله تعالى- أن أطعم ولدي بعض الأغذية الخفيفة بجوار الرضاع، فسارعت أعمل بالنصيحة، أخذت ولدي لأطعمه بالملعقة بعض الأغذية اللبنية السائلة نوعًا؛ نظرًا لصغر سنه، ومن الطبيعي جدًا أن يسيل بعض الطعام على جانبي فِيه، ويبقى الكثير من الأثر على شفتيه الصغيرتين، فإذا بي -بي أنا- وبكل تلذذ ألعق كل ما سبق ذكره بلساني -بدل أن أزيله بالمحارم الورقية التي في يدي-، والأعجب أني لم أجد في نفسي أدنى تقززٍ، ولا شائبة من نفور-سبحان الله-، وكأني اعتدت هذا الفعل طيلة عمري.
رغم أنني كنت قبلًا: أتحرى وبشدة ألا أشرب أو آكل سؤرًا لطفل مهما كان قريبًا لي، أو عزيزًا عليّ، والحق أنني لم أنتبه لفعلتي هذه إلا عندما نبهتني إحدى أخواتي -والتي كانت حاضرة - لمَّا تعجبت من فعلي قائلة: "ما هذا الذي تفعلين؟" قلت لها: "وماذا أفعل؟" - حتى أني لم أنتبه لما أشارتْ إليه من فعلى المعنيّ بسؤالها-، فقالت دهِشةً: "أتلعقين باقي طعام الولد، وما يتفله من فيه؟!".
فبُهتُّ لقولها، و لم أُحرْ جوابًا ؛ لأنني -وبكل بساطة- لم أنتبه لفعلتي حتى نبهتني هي إليها.
فما برح عقلي يُعمل الفكر؛ محاولًا الوصول لسبب هذا الفعل العجيب -مني بالذات- ومرت سحابة يومي وأنا شاردة، حتى أنارت في عقلى فكرة، إنه الحبّ الذي فطر الله العليم الحكيم الأم عليه تجاه أولادها، غيَّر في شخصي سمتًا كنت أظنه ثابتًا، وهنا توارد على خاطري فعل رسولنا الكريم صلوات ربي وسلامه عليه مع الحبيبة عائشة أم المؤمنين حيث قالت رضي الله عنها: "كنت أشرب وأنا حائض. ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم. فيضع فاه على موضع في. فيشرب. وأتعرق العرق وأنا حائض. ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم. فيضع فاه على موضع في (مسلم، صحيح مسلم، رقم: [300]).
هذه واحدة، وأما الثانية فأشد حيث قالت رضي الله عنها: "توفي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي وفي يومي، وبين سحري ونحري، وكانت إحدانا تعوذه بدعاء إذا مرض، فذهبت أعوذه، فرفع رأسه إلى السماء وقال: «الدنيا وأول يوم من الآخرة" (البخاري، صحيح البخاري،رقم: [4451]).
. ومر عبد الرحمن بن أبي بكر، وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فظننت أن له بها حاجة، فأخذتها، فمضغت رأسها، ونفضتها، فدفعنها إليه، فاستن بها كأحسن ما كان مستنًا، ثم ناولنيها، فسقطت يده، أو: سقطت من يده، فجمع الله بين ريقي وريقه في آخريوم منكم فرحت أن لي فيما فعلت سنة، مع الفارق بلا شك، والأمر لا يحتاج إلى مزيد تعليق.
فاقتضت حكمة الله سبحانه أن يفطر قلب الأم على المحبة الشديدة لأولادها؛ حتى يتسنى لها القيام بما هو منوط بها من واجبات الأمومة التي تعْلمها كل أمّ: فتتحمل مواصلة السهر، ومباشرة الأذى، وعنت التوجيه، و...و...و....
إذن هذه المحبة لازمة ولا غنىً لأم سوية عنها فبها أعانها الله ويسرها لما خلقت له، سبحان الحكيم. فقد تواترت النصوص في الشرع تحض الأبناء على بر الآباء، بينما لم يأت نصًا صريحًا بالعكس. وقد سمعتُ قولاً لبعض أهل العلم نصه: "إن حب الأبناء للآباء تكلف، بينما حب الآباء الأبناء فطرة".
هنا يأتي السؤال: فهل يستوي ما هو فطرة بما هو تكلف؟! كلنا يلمس الفارق بلاشك.
وهنا جاءت منحة ربانية من الوهاب، أزالت إشكالًا كان في عميق نفسي منذزمن طويل، حيث جاء في حديث عبد الله بن عمرسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «
» (البخاري، صحيح البخاري، رقم: [2272]).كان الإشكال: لِمَ ظل واقفًا طوال الليل حاملاً الغبوق لوالديه؟ وقد جاء في رواية أخرى لهذا الحديث: «
»، استطاع هذا الرجل -بحول من الله وقوة- أن يقدم ويؤثر ما هو تكلف على ما هو فطرة؛ فاستحق بذا أن تتحرك له الصخرة.فمن منا يطيق ذلك وبخاصة مع الصغار؟ من؟!
فالله المستعان، الله المستعان، الله المستعان.
الله أسأل أن يعيننا على أنفسنا، وأن يلهمنا رشدنا، ويوفقنا لما يرضيه عنا؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
- التصنيف:
- المصدر: