خطبة في سفر

منذ 2016-05-02

وموضع حديثنا في اليوم عند قوله صلى الله عليه وسلم: «فمن أحبَّ أن يزحزحَ عن النارِ ويدخلَ الجنةَ، فلتأتِه منيَّتُه وهو يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ. وليأتِ إلى الناسِ الذي يحبُّ أن يؤتى إليهِ».

إن الحمد لله، أما بعد:

ففي سفرٍ من الأسفار النبوية، وقعتْ هذه القصة التي يحدّثنا عنها الإمام مسلمٌ رحمه الله في صحيحه، عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزلنا منزلًا فمنّا مَن يُصلح خِباءَه، ومِنّا من يَنتضِل -أي يرمي بالنِّشاب-، ومنا من هو في جشَره -أي مع دوابّه التي تَرعى وتبيت مكانها- إذ نادى منادي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: الصلاةَ جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «إنَّهُ لم يكن نبيٌّ قبلي إلا كان حقًّا عليهِ أن يَدُلَّ أُمَّتَه على خيرِ ما يُعلمُه لهم، ويُنذرهم شرَّ ما يُعلِّمُه لهم. وإنَّ أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها. وسيُصيبُ آخرها بلاءٌ وأمورٌ تنكرونها. وتجيءُ فتنةٌ فيُرقِّقُ بعضها بعضها. وتجيءُ الفتنةُ فيقول المؤمنُ: هذه مهلكتي. ثم تنكشفُ. وتجيءُ الفتنةُ فيقول المؤمنُ: هذه هذه. فمن أحبَّ أن يزحزحَ عن النارِ ويدخلَ الجنةَ، فلتأتِه منيَّتُه وهو يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ. وليأتِ إلى الناسِ الذي يحبُّ أن يؤتى إليهِ. ومن بايعَ إمامًا، فأعطاهُ صفقةَ يدِه وثمرةَ قلبِه، فليُطعْه إن استطاعَ. فإن جاء آخرٌ يُنازعُه فاضربوا عنقَ الآخرِ» (صحيح مسلم؛ برقم: [1844]).

هذا الحديث العظيم -يا عباد الله- تضمّن جملةً من المسائل الكبار، التي يضيق المقامُ عن استيعابها، وموضع حديثنا في هذا اليوم عند قوله صلى الله عليه وسلم: «فمن أحبَّ أن يزحزحَ عن النارِ ويدخلَ الجنةَ، فلتأتِه منيَّتُه وهو يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ. وليأتِ إلى الناسِ الذي يحبُّ أن يؤتى إليهِ».

هكذا.. جملةٌ اختصرت الكثيرَ في أبواب المعاملة بين الخلق بعضِهم البعض..

هكذا يختصر صلى الله عليه وسلم آلافًا من الكلمات والعبارات، والخطب والمقالات -في باب التعامل مع الخلق- في هذه القاعدة الجامعة، بل هي قاعدة من قواعد السعادة، إنه ميزانٌ عادِلٌ منصِفٌ يَنصبه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لكل مَن يتعامل مع الناس، الذين في تنوّع أخلاقهم، وتفاوت معاملاتهم كما بين السماء والأرض.

وما ذكره صلى الله عليه وسلم هنا هو الميزانُ الصحيح للإحسان وللنصح لعباد الله، فكلما أشكَلَ عليك شيءٌ مما تعامل به الناس؛ فانظر هل تحب أن يعاملوك بتلك المعاملة أم لا؟ فإن كنتَ تحب ذلك؛ كنتَ محبًا لهم ما تُحِب لنفسك، وإن كنتَ لا تُحب أن يعاملوك بتلك المعاملة؛ فقد ضيعتَ هذا الواجب العظيم (انظر: بهجة قلوب الأبرار، ص: [206]).

إن من يهتدي بهذه القاعدة في معاملاته الاجتماعية تستقيم حالُه، وتجمُل خصالُه، وتَرقى مع الناس أفعالُه "فلا يؤذيهم؛ لأنه لا يحب أن يؤذوه، ولا يَعتدي عليهم؛ لأنه لا يحب أن يعتدوا عليه، ولا يشتمهم؛ لأنه لا يحب أن يشتموه، وهلمّ جرًا: لا يغشّهم في البيع والشراء وغير ذلك، ولا يكذب عليهم؛ لأنه لا يحب أن يُفعَل به ذلك، وهذه قاعدة لو أن الناس مشوا عليها في التعامل فيما بينهم لنالوا خيرًا كثيرًا، ويُشبِه هذا قولُ الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفْسِه»" (صحيح البخاري؛ برقم: [13]، انظر: شرح رياض الصالحين للعثيمين: [6/235]).

أيها الإخوة: وعندما نتأمل القرآن الكريم نجده قد رسّخ هذه القاعدة بأساليب متنوعة، ومن ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ . الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 1-3]، فهؤلاء لحقَهم الذمّ حين تلبّسوا بهذا الوصف المركّب: يأخذون زائدًا، ويدفعون ناقصًا! وقد قال قتادة: "أوفِ يا ابن آدم الكيلَ كما تحب أن يُوفى لك، واعدل كما تحب أن يُعدَل لك" (تفسير الزمخشري: [4/720]).

وهذا مثالٌ آخر من القرآن يرسّخ هذه الوصية النبوية: «وليأتِ إلى الناسِ الذي يحبُّ أن يؤتى إليهِ»؛ وهو قوله تعالى في حق الزوجات: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة من الآية:228] (التحرير والتنوير [2/ 396]: "وكان الاعتناء بذكر ما للنساء من الحقوق على الرجال، وتشبيهه بما للرجال على النساء؛ لأن حقوق الرجال على النساء مشهورة، مسلمة من أقدم عصور البشر، فأما حقوق النساء فلم تكن مما يلتفت إليه أو كانت متهاونا بها، وموكولة إلى مقدار حظوة المرأة عند زوجها، حتى جاء الإسلام فأقامها، وأعظم ما أسست به هو ما جمعته هذه الآية...").

والمعنى: "ولهنّ على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، فليؤدِّ كلُّ واحدٍ منهما إلى الآخر ما يَجب عليه بالمعروف" (تفسير ابن كثير: [1/609]).

ولهذا قال ابن عباس: "إني لأتزيّن لامرأتي كما تتزين لي" (تفسير القرطبي: [3/123]).

 

أيها المسلمون: لقد طبّق نبيُّكم صلى الله عليه وسلم هذه الوصية، والقاعدةُ العظيمة في التعامل، واستعملها في التربية، فكان مِن أنجع الأدوية وأشفاها.. يأتيه شابٌ فيقول: يا رسولَ اللهِ ائذنْ لي بالزِّنا. فأقبل القومُ عليه فزجَروه وقالوا: مَهْ مَهْ. فقال: «ادنُهْ». فدنا منه قريبًا، قال: فجلس. قال: «أَتُحبُّه لِأُمِّكَ؟»، قال: لا واللهِ، جعلني اللهُ فداءَك. قال: «ولا الناسُ يُحبونَه لأُمهاتِهم»، قال: «أفتُحبُّه لابنتِك؟»، قال: لا واللهِ يا رسولَ اللهِ، جعلني اللهُ فداءَك. قال: «ولا الناسُ يُحبونَه لبناتِهم»، قال: «أفتُحبُّه لأُختِك؟»، قال: لا واللهِ، جعلني اللهُ فداءَك. قال : «ولا الناسُ يُحبونَه لأَخَواتِهم»، قال: «أَفتُحبُّه لعمَّتِك؟»، قال: لا واللهِ، جعلني اللهُ فداءَكَ. قال: «ولا النَّاسُ يُحبُّونَه لعمَّاتِهم»، قال: «أفتُحبُّه لخالتِك؟»، قال: لا واللهِ، جعلني اللهُ فداءَكَ. قال: «ولا النَّاسُ يحبونَه لخالاتِهم»، قال: فوضع يدَه عليه وقال: «اللهمَّ اغفرْ ذنبَه وطهِّرْ قلبَه وحصِّنْ فرْجَهُ» فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفتُ إلى شيءٍ (أحمد؛ برقم: [22211] وسنده جيد).

إن هذه القاعدة الجليلة هي نداءُ الفطرة السليمة التي فطر اللهُ تعالى الناس عليها، فاستخدمها النبيُ صلى الله عليه وسلم في حواره مع هذا الشاب؛ فما كان منه إلا الاستجابةُ العاجلة لهذا النِّداء.

قيل للأحنف بن قيس: ممن تعلَّمتَ الحلم؟ قال: "مِن نفسي! كنتُ إذا كرهتُ شيئًا من غيري لا أفعل مثلَه بأحد" (فيض القدير: [1/65]).

وكان محمد بن واسع يبيع حمارًا له، فقال له رجل: أترضاه لي؟ قال: لو رضيتُه لم أبعه! ومُرادُه: أنني لا أرضى لك إلا ما أرضاه لنفسي، لهذا صدَقْتُك، وأنني لم أبعه إلا لرغبتي عنه، وعدم رضاي عنه.

الله أكبر! ما أجلّها مِن وصيةٍ عظيمة! وما أحرى المسلمَ بتدبّرها وتأمّلها، وأن يبادر إلى تطبيقها في نفسه ومَن حولَه!

طبِّقها -أيها المؤمن- في بيعك وشرائك، وأخذِك وعطائِك، في البيت والشارع والسوق، والمسجد والمدرسة، وفي وسائل النقل وساحات الاستراحات، وإن خالفتَها فعاملتَ غيرَك بما تكره أن تُعامَل به؛ فقد علمتَ ما قال الله في المطففين! وكنتَ من المتناقضين الذين ذمّهم الله تعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3].

ليكن كلّ واحدٍ منّا حكَمًا على نفسه أمام هذه الجملة: «وليأتِ إلى الناسِ الذي يحبُّ أن يؤتى إليهِ»، وليضع نفسَه دومًا في مكان الطرَف الآخر ولينظر! هل يحب أن تقدّره زوجتُه؟ وهل يحب أن يقدّره الناس؟ وهل يحب أن يحترم الناسُ مواعيدَه؟ أسئلةٌ كثيرة إجابتُها معلومَةٌ عند كلِّ عاقل، فإذا كان كذلك، فليَعلم أن الناسَ أيضًا كذلك.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة.

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله، أما بعد:

فإذا كانت هذه الوصيةُ النبوية مطلوبة في حق الخلق؛ فهي في حق الخالق سبحانه وتعالى من بابٍ أولى! كيف تَطلب من ربك أن يعطيك ما تحب، وينجيك مما تكره، وأنت مقيمٌ على ما يَكره، تاركٌ لما يحب؟ يقول ابن الجوزي رحمه الله: "ويحك! لو ابتلاك في مالك فقلَّ لاستغثت، أو في بدنك ليلةً بمرضٍ لشكوت، فأنت تستوفي مطلوباتك منه، ولا تستوفي حقّه عليك!{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1]" (صيد الخاطر، ص: [423]).

لهذا قال سلمان رضي الله عنه: "الصلاةُ مكيال، فمن وَفّى وُفّي له، ومَن طفَّف فقد علمتم ما قال الله تعالى في حق المطففين" (تفسير التستري، ص: [189]).

 

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال؛ لا يهدينا لأحسنها إلا أنت، وجنّبنا عن أسوأ الأخلاق والأقوال والأعمال؛ لا يجنّبنا عن أسوأها إلا أنت، إياك نعبد وإياك نستعين.

 

 

ألُقيت في 8/7/1437هـ.

عمر بن عبد الله المقبل

الأستاذ المشارك في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم.