بِأَيِّ أرضٍ تموتُ؟!

منذ 2016-05-15

ولو كان المرضُ سببًا للموتِ؛ لَمَا مات الطَّبيبُ وهو العالمُ بمداخلِ الأمراضِ وطرقِ علاجِها. ولو كان المَشِيبُ سببًا للموتِ؛ لَمَا رأينا كثيرًا مِن الشَّبابِ يموتون وهم في أعمارِ الزُّهورِ.

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
اللهمَّ اهدِني وسدِّدْني

الحمدُ للهِ وحدَه، والصَّلاةُ والسَّلامُ على مَن لا نبيَّ بعدَه، وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ.

أمَّا بعدُ؛ فالموتُ هو الحقيقةُ الوحيدةُ الَّتي يُؤمِنُ بها كُلُّ البشرِ، وعلى الرَّغمِ من هذا الإجماعِ الشَّاملِ إلَّا أنَّ وقوعَه لا يزالُ دائمًا حَدَثًا مُزلزِلًا، ثقيلَ الوطأةِ على كُلِّ النُّفوسِ!

في مَواطنِ القتالِ والحروبِ، والصِّراعاتِ والصِّداماتِ، وفي الأجواءِ المُحتدِمةِ بأنواعِ التَّخويفِ والإرهابِ، تجدُ كثيرًا من النَّاسِ يَهرُبُ من تلك المواضعِ فرارًا من الموتِ، وخوفًا من لَسْعتِه، ورغبةً في البقاءِ ولذَّتِه؛ فتجدُهم يُهرَعون إلى حقائبِهم مُسارِعينَ لتركِ ديارِهم، باحثينَ عن مواطنَ يأمنون فيها على أرواحِهم وأبدانِهم، هاربينَ من الموتِ وسكرتِه، ومن القبرِ وظُلمتِه؛ فتزدحمُ المطاراتُ بالرَّاحلينَ، وتكتظُّ المواقفُ بالرُّكَّابِ المُهاجِرينَ!

وفي تلك المواطنِ وذلك الزِّحامِ، يعلو الصُّراخُ والعويلُ، والبكاءُ والنَّشيجُ؛ فتَتوتَّرُ الأعصابُ، ويضيقُ بالنَّاسِ العيشُ، وكأنَّهم لم يَجِدوا في ذلك المكانِ لذَّةً، ولم يُحصِّلوا من أيَّامِهم الخاليةِ سعادةً! ضاقت نفوسُهم، وتَحشرَجَتْ الأنفاسُ في صدورِهم، وكأنَّهم يَتنفَّسون من خُرْمِ إبرةٍ!!

هَلَعٌ وخوفٌ، ورعبٌ وشِدَّةٌ، وكُلٌّ ينتظرُ ساعةَ خروجِه بشدَّةٍ، وفرارِه بلهفةٍ، وكأنَّ الموتَ والشَّقاءَ، والألمَ والبلاءَ ليس له مكانٌ من الأرضِ إلَّا ذلك الموطنَ الَّذي عَلَتْهُ الطَّائراتُ، وتَجمَّعت فيه الدَّبَّاباتُ، وتلاقت فيه أنوفُ المِدفعيَّاتِ!

وفي خضمِّ هذا المشهدِ الرَّهيبِ، والموقفِ العصيبِ، قد يتبادرُ للذِّهنِ بعضُ التَّساؤلاتِ:

* هل في خروجِ النَّاسِ وهربِهم محذورٌ؟

- فالجوابُ أن نقولَ: الخروجُ من مثلِ هذه المواطنِ في أحيانٍ كثيرةٍ ممَّا هو مشروعٌ، بل مأمورٌ به؛ فاعتزالُ مواطنِ الفتنِ الَّتي تكونُ فيها الصِّراعاتُ والصِّداماتُ تحتَ رايةٍ عِمِّيَّةٍ ودعوى جاهليَّةٍ ممَّا أمرت به الشَّريعةُ وحثَّت عليه؛ فرُوحُ العبدِ المسلمِ عندَ اللهِ غاليةٌ لا يجوزُ إزهاقُها بغيرِ وجهِ حقٍّ.

أمَّا إن كان الصِّراعُ بينَ أهلِ الحقِّ وأهلِ الباطلِ؛ فيكونُ خروجُ القادرِ مِن الرِّجالِ بغيرِ عُذرٍ مُحرَّمًا، بل هو كبيرةٌ من الكبائرِ! أمَّا أصحابُ الأعذارِ مِن العَجَزةِ والنِّساءِ والأطفالِ؛ فلا حَرَجَ في خروجِهم.

إنَّ الصُّورةَ السَّابقةَ الذِّكرِ هي في حالِ الحربِ واحتدامِ الأمرِ، ولكنْ هناك صُوَرٌ أخرى في حالِ السِّلمِ، ومنها:

- أنَّ بعضَ النَّاسِ قد يحتاجُ إلى السَّفرِ بالطَّائرةِ أو الباخرةِ، فتجدُه يركبُها وقد تَملَّكَ الخوفُ جنانَه، والفَرَقُ فؤادَه، كُلُّ ذلك خوفًا من الموتِ والنِّهايةِ! فتجدُه عندَ أيِّ هزّةٍ أو رجفةٍ يرتجفُ فؤادُه، وتضطربُ أنفاسُه، ويتظاهرُ بالسُّكونِ وهو في حالٍ من الرُّعبِ عظيمةٍ!!

- ومثلُها إذا أصابه مرضٌ خطيرٌ، وأَشعَره أهلُ الاختصاصِ بصعوبةِ علاجِه، وآيسوه من الحياةِ؛ فتجدُه لا يجدُ للطَّعامِ طعمًا، ولا للمنامِ رغبةً، ولا للحياةِ لذّةً!

* وقد يسألُ سائلٌ: لماذا الحديثُ عن مِثلِ هذا الموضوعِ؟

- فالجوابُ: في مثلِ هذه الأزماتِ، يجبُ علينا أن نُراجِعَ توحيدَنا، ونحاسبَ أنفسَنا، ونقولَ لها: هل هذا الخوفُ العارمُ خوفٌ جِبِلِّيٌّ طَبَعِيٌّ، أم خوفٌ تجاوَز الحدَّ فأوقَع في المحظورِ؛ من اليأسِ والقنوطِ، والتَّسخُّطِ والضَّجرِ، والويلِ والثُّبورِ، وسَبِّ الدَّهرِ، والاعتراضِ على المقدورِ، وإساءةِ الظَّنِّ بالمعبودِ؟!

وما سبق يجرُّنا إلى سؤالٍ آخرَ مُهِمٍّ:

هل الموتُ والبلاءُ لن يكونَ إلَّا في مثلِ هذه المواضعِ؟ أم هل هربُه وخروجُه ممَّا هو فيه سببٌ لبقائِه وعيشِه؟!

دَعْنِي أتجاوزُ هذا التَّساؤلَ إلى ما هو أعظمُ منه:

لماذا الخوفُ من الموتِ وكُربتِه بهذه الصُّورةِ المُزعِجةِ؟!

هل هو حُبُّ الحياةِ والحرصُ عليها؟!

أم الرَّغبةُ في البقاءِ لأجلِ البقاءِ؟!

أم هو الشَّكُّ في اليومِ الآخرِ؟!

أم حُبُّ الفاني على الباقي؟!

أم هو التَّقصيرُ في جنبِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه يعلمُ أنَّ الموتَ هو البابُ الَّذي يصلُ به العبدُ إلى ربِّه عزَّ وجلَّ والدَّارِ الآخرةِ؟!

قد تكونُ الإجابةُ بـ(نَعَمْ) لمُجمَلِ ما سبق أو بعضِه.

العجيبُ أنَّ العبدَ لا يعلمُ متى يموتُ، ولا أين يموتُ؟ يقولُ العليمُ الخبيرُ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لُقْمان:34]؛ وهذا ما جعله يَتلمَّظُ الحياةَ، ويُفتِّشُ عن النَّجاةِ، ويُصارِعُ الصِّعابَ، ويُناطِحُ العِجامَ.

إنَّك بحقٍّ لَتَعجَبُ من البشرِ كيف يهربون من الموتِ والموتُ أمامَهم؟! وكيف يَفِرُّون منه وهو مُلاقِيهم؟! {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8].

مهما بلغ الإنسانُ مِن القُوَّةِ والمنعةِ، والمالِ والسُّلطانِ، والبروجِ المُشيَّدةِ؛ فإنَّ الموتَ مُحصِّلُه، وهادمُ اللَّذَّاتِ مُدرِكُه، يقولُ اللهُ العظيمُ: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النِّساء:78].

لكنَّه لو أَيقَن أنَّ الموتَ حَقٌّ لا شكَّ فيه، ويقينٌ واقعٌ لا بدَّ منه؛ فساعتُه مُحدَّدةٌ، فمهما تَمنَّع منه واستَدفَعَه فإنَّه به واقعٌ، ولِبابِه والجٌ؛ {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، فاللهُ قد حدَّد تلك السَّاعةَ مُذْ خَلَقَ الخلائقَ، ومُذْ أَرسَل إلى عبدِه المَلَكَ لينفخَ فيه الرُّوحَ وهو مُضْغةٌ في بطنِ أُمِّه، يقولُ الصَّادقُ المصدوقُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ثُمَّ يُرسَلُ المَلَكُ، فيَنفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، ويُؤمَرُ بأَربَعِ كَلِماتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وأَجَلِهِ، وعَمَلِهِ، وشَقِيٌّ أو سَعِيدٌ» (أخرجه مُسلِمٌ عن ابنِ مسعودٍ رضي اللهُ عنه)، فإذا أيقَن بذلك هَدَأَتْ نفسُه، واطمأنَّ قلبُه، وقَنِع من الدُّنيا بالقليلِ، واستَعدَّ للرَّحيلِ، فبادَر للعملِ وصبر عليه، وكان الموتُ بالنِّسبةِ له بابًا إلى دارِ الحبورِ والنَّعيمِ المُقيمِ.

إنَّ إدراكَ هذه الحقائقِ واعتقادَها ممَّا يزيدُ العبدَ إيمانًا ويقينًا، فيحملُه ذلك على الرِّضا التَّامِّ بقضاءِ اللهِ وحُكمِه، وأمرِه وقدرِه، وكان بعدَ ذلك مِن الرَّاضينَ المُنِيبينَ، ومِن السُّعداءِ المُطمَئِنِّينَ.

تأمَّلْ... لو كانتِ المعاركُ والحروبُ ممَّا يجلبُ الموتَ؛ لكان خالدُ بنُ الوليدِ رضي اللهُ عنه في عِدادِ موتاها، لكنَّه مات على فراشِه بعدَ عمرٍ مديدٍ من القتالِ والحروبِ.

ولو كان المرضُ سببًا للموتِ؛ لَمَا مات الطَّبيبُ وهو العالمُ بمداخلِ الأمراضِ وطرقِ علاجِها.

ولو كان المَشِيبُ سببًا للموتِ؛ لَمَا رأينا كثيرًا مِن الشَّبابِ يموتون وهم في أعمارِ الزُّهورِ.

ولو كان الحبسُ سببًا للموتِ؛ لَمَا رأينا كثيرًا من الطُّلَقاءِ يموتون وهم يَمضُونَ في الطُّرقاتِ.

ولو كان الفقرُ سببًا لقصرِ العمرِ؛ لَمَا رأينا أبناءَ الملوكِ والتُّجَّارِ يُزَفُّونَ إلى الموتِ زَفًّا وهم شبابٌ في كاملِ قُوَّتِهم.

ختامًا .. أَيقِنْ يا عبدَ اللهِ أنَّك لن تموتَ حتَّى تستكملَ رزقَك وأجلَك، وحقَّك وعملَك، فَلْتَنعَمْ بذلك عينًا، يقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللهَ وأَجمِلُوا في الطَّلَبِ؛ فإِنَّ نَفْسًا لن تَمُوتَ حتَّى تَستَوفِيَ رِزقَها» (أخرجه ابنُ ماجَهْ عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي اللهُ عنهما).

وبعدَ هذا تَذكَّرْ واعتَبِرْ بقولِه جلَّ جلالُه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281]؛ فما الموتُ إلَّا بابٌ إلى الدَّارِ الآخرةِ، فبادِرْ بالتَّوبةِ والإنابةِ، وحُسنِ العملِ والطَّاعةِ، أسألُ اللهَ أن يُصلِحَ حالَنا، وأن يرزقَنا حُسنَ الاستقامةِ على أمرِه، وأن يُعِينَنا على ذِكْرِه وشُكرِه وحُسنِ عبادتِه، وأن يختمَ بالصَّالحاتِ أعمالَنا وبالسَّعادةِ آجالَنا؛ إنَّه سميعٌ مُجِيبٌ، وصلَّى اللهُ على نبيِّنا مُحمَّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ.

المصدر: الموقع الرسمي لفضيلة الدكتور الشيخ ظافرُ بنُ حسنٍ آلِ جَبْعانَ