وقفات في استقبال رمضان
فالنفس لينه بفضل الله تعالى وبسبب الصيام، والناس بينهم شعور جماعي بأن هذه الأيام ليست كسائر الأيام، فضلاً عن رؤية الناس مجتمعين على الطاعة، ذلك كله يبعث على انكسار لهيب الشهوات، وميل النفس لفعل الخيرات..
رمضان موسم عظيم، تُضاعف فيه الحسنات، وتُقال فيه العثرات، من وفق للخير فيه فهو الموفق، ومن فقد فيه البر فهو المحروم العاجز؛ لأنه فرط في ثلاث فرص سهلة لتكفير الذنوب، لا يفرط فيها جميعاً إلا مغبون.
أولا: غفران الذنوب، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» (رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه كتاب الإيمان رقم: [34]، ورواه أيضا مسلم وأبو داود والنسائي).
ثانياً: العتق من النار: فما أكثر العتقاء من النار في كل ليلة من ليالي رمضان، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن لله عند كل فطرٍ عتقاء من النار، وذلك في كلِّ ليلة» (رواه ابن ماجة عن جابر رضي الله عنه (حسن) حديث: [2170] في صحيح الجامع)، وفي رواية: «إن لله تعالى عتقاء في كل يوم وليلة لكل عبد منهم دعوة مستجابة» (رواه أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه (صحيح) حديث: [2169] في صحيح الجامع).
فرمضان فرصة ثمينة لا تعوض، ولحظة من اللحظات الذهبية في حياة المسلم، حتى قيل إن الله تعالى يعتق في كل ليلة من رمضان مائة ألف ممن استوجبوا النار، فإذا كان آخر ليلة أعتق الله بقدر ما أعتق في تلك الليالي جميعاً.
ثالثاً: ليلة القدر: وهي خير من عبادة ألف شهر (83 سنة)، من وفق للعمل الصالح فيها فكأنما عمل ذلك العمل لمدة ثلاث وثمانين سنة، قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3]، وقال صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» (خرجه البخاري من حديث أبي هريرة ضي الله عنه -كتاب الصوم رقم: [1497] ، ورواه أيضا مسلم)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى ليلة القدر ويأمر أصحابه بتحريها، وكان عليه أفضل الصلاة والسلام يوقظ أهله في ليالي العشر الأواخر من رمضان رجاء أن يدركوا ليلة القدر.
مذاهب شتى:
للناس في استقبال رمضان مذاهب شتى، ينطبق عليهم قوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4]، وقوله: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:148].
فمن الناس من يستقبله بدموع الفرح والغبطة، اقتداء بالسلف الصالح الذين كانوا يستعدون لاستقباله بالدعاء أشهراً أن يبلغهم الله تعالى رمضان، يقول معلىّ بن الفضل رحمه الله: "كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم" (لطائف المعارف لابن رجب ص: [257] المكتبة التوفيقية بمصر)، نعم ستة أشهر يترقبون رمضان، هل هذا من المبالغة؟! لا والله، لأنهم عرفوا قدره ومكانته وأثره في نفوسهم.
ولنا أن نتصور كيف يكون حال من انتظر شيئاً فترة طويلة، إنه والله لن يفرط فيه لحظة، بل سيستغله بأقصى ما يمكنه، ولذلك نُقلت عن بعض السلف أخبارٌ في الجد والاجتهاد في رمضان أشبه ما تكون بالأساطير، ووالله ما هي بالأساطير بل هي الحقائق، ولماذا نستغرب منهم ذلك؟! ألسنا نحدث أنفسنا بالدنيا لأشهر بل لسنوات، فالطالب يترقب التخرج، والمتخرج يترقب الوظيفة، والمتزوج يترقب الأولاد، والتاجر يترقب مواسم التجارة، وكل إناء بما فيه ينضح.
وقال يحي بن أبي كثير: كان من دعائهم: "اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلاً" (لطائف المعارف لابن رجب ص: [257] المكتبة التوفيقية بمصر).
ويقول عبد العزيز بن مروان: كان المسلمون يقولون عند حضور شهر رمضان: "اللهم قد أظلنا شهر رمضان وحضر، فسلمه لنا وسلمنا له، وارزقنا صيامه وقيامه، وارزقنا فيه الجد والاجتهاد والنشاط، وأعذنا فيه من الفتن" (حلية الأولياء: 543).
وكيف لا يفرح المؤمن بشهر تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، وتغل فيه الشياطين، وتضاعف فيه الحسنات، وترفع الدرجات، وتغفر الخطايا والزلات.
ومن الناس من ليس له هم في رمضان، إلا الأكل والشرب، فكثير منا أصبح استقباله لرمضان استقبالاً مادياً، فقبيل رمضان بأسبوع أو أكثر تجد التجار قد أغرقوا الأسواق بالبضائع والمأكولات والمشروبات، مما لذ وطاب، ولا شك أن هذه المعروضات تستهوي الناس، فتجدهم يتنافسون في شراء مختلف الأصناف وحملها إلى المنازل، وكأن الناس مقدمون على خوض معركة أو يتوقعون حدوث مجاعة، أو كأنهم كانوا طيلة العام محرومين أو في مجاعة، وجاء وقت التعويض والاستدراك.
فإننا والله لم نخلق للأكل والشرب في سائر الأيام، فكيف بشهر رمضان، الذي الأصل فيه أن تقل فيه عدد الوجبات، وما نفعله مناف لبعض حِكم الصيام ومقاصدِه، ونستغرب عندما نقارن بيننا وبين سلفنا في هذه القضية، هم يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم في الوصال، أي صيام يومين متصلين، فلا يأذن لهم إلا بأربع وعشرين ساعة، أي من سُحور إلى سُحور إشفاقاً عليهم (انظر فتح الباري باب بركة السحور من غير إيجاب، وباب الوصال)، وبين كثير منا، حيث جعلنا رمضان شهر المأكولات والمشروبات والتفننِ في الملذات والإسرافِ في الكميات، حتى ارتبطت بعضُ المأكولات بشهر رمضان، فلا تُرى إلا فيه!
وصنف آخر من الناس جعل من رمضان شهراً للهو واللعب، والراحة والبطالة، والنوم والكسل، فنهاره نائم وليله ساهر، ويا ليت أنه ساهر في قيام ليل أو قراءة قرآن بل في توافه الأمور، من لعب بالورق أو مسامرة مع الأقران في القيل والقال، وربما الغيبة والنميمة، والكلام الفاحش والبذيء، أو المغازلة والمعاكسة.
وأسوأ منهما صنف جعل همه المعاصي والآثام، لم يفرق بين شهر رمضان وغيره، فانتهك حرمة رمضان، بالعكوف على الأفلام والأغاني التي تخدش الحشمة والحياء، وفي متابعة الفوازير والمسلسلات التافهة، التي لا تعالج قضية ولا مشكلة، بل ربما أثارت الشبهات وروجت للشهوات، أهكذا يكون الشكر، ومقابلة الإحسان بالإساءة؟!
بركات رمضان:
إن دخول شهر رمضان على المسلمين هو بمثابة دخول الغوث عليهم في دينهم ودنياهم، فأبواب الفرج تتفتح، ففي الحديث: « » (رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه (حسن) حديث: [759] في صحيح الجامع الصوم)، وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: « » (رواه أحمد عن معاذ رضي الله عنه (صحيح) حديث: [5136] في صحيح الجامع)، هكذا بلفظ: « » ، ولم يقيد أو يستثن، وهذا معناه أن كل أبواب الخير الدنيوية والأخروية تفتح، وكلنا يشهد بذلك ويحسه، حتى أن الناس تقول: "رمضان رزقه واسع".
فينبغي أن يكون رمضان -وما فيه من نفحات ربانية- هو سبيل الصلاح والإصلاح، فالنفس لينه بفضل الله تعالى وبسبب الصيام، والناس بينهم شعور جماعي بأن هذه الأيام ليست كسائر الأيام، فضلاً عن رؤية الناس مجتمعين على الطاعة، ذلك كله يبعث على انكسار لهيب الشهوات، وميل النفس لفعل الخيرات، وتهيؤ النفوس للطاعات بما لا تكون مهيأة عليه في غير رمضان، وهذا وغيره كثير يعد بمثابة عوامل - بفضل الله تعالى - مساعدة على أن نجعل من شهر رمضان معسكراً إيمانياً كبيراً، فالوقت لا ينبغي أن تكون فيه برحة بغير طاعة، النهار صيام وذكر وتلاوة، والليل قيام وسماع القرآن.
وإياك أخي الكريم أن تستقبل رمضان على حال المغبونين المفرطين المضيعين، الذين كادوا أن يهلكوا من شدة الظمأ، ثم يردون الماء ويعودون أشد ظمأً، فتلك فرصةٌ عظيمة لا تضيعها، فمن أحياه الله إلى رمضان فقد منّ عليه مِنّة كبيرة، تستوجب الشكر، فمن شكر نجا ومن كفر النعمة هلك، نعوذ بالله من الهلاك.
وفى الحديث قال صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة» (أخرجه الترمذي والحاكم عن أبى هريرة رضي الله عنه، والحديث في صحيح الجامع: [3510]، وقال (صحيح)).
(رغم): بكسر الغين وتفتح، وبفتح الراء قبلها: أي لصق أنفه بالتراب، وهو كناية عن حصول غاية الذل والهوان.
ولنا أن نتخيل أن هذا اليوم هو اليوم الأخير من رمضان، فما حالنا في هذا اليوم، لا شك أننا إن كنا قصرنا وما زال في قلبنا حياة وإيمان سنندم، وسوف نعاهد الله ونعاهد أنفسنا إن أمد الله في عمرنا إلى قابل لنعمل صالحاً، ونستغل ما فرطنا في هذا العام، وإن كنا قد أحسنا فسوف نحمد الله ونتمنى القبول، ونتمنى أن يبلغنا الله رمضاناً آخر لنبرهن على صدقنا وحبنا لله، فنقول للفريقين: نحن في أول يوم من رمضان، فما كنت ستندم عليه تجنبه من اليوم، وما كنت ستتمنى فعله افعله من اليوم، وكل نفس بما كسبت رهينة.
شهر الخيرات:
لابد أن نجعل من رمضان باب خير علينا وعلى أهلنا، فلا مانع من التوسيع على الأهل بلا تكلف ولا إسراف، والتوسيع على الإخوان من الأرحام ومن الجيران ومن الأصحاب هو من أفضل الأعمال، ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سرورا، أو تقضي عنه دينا، أو تطعمه خبزا» (أخرجه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه، وابن عدي في الكامل عن ابن عمر رضي الله عنه، وقال الألباني في صحيح الجامع (حسن)، برقم: [1096] )، وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: «من أفضل العمل إدخال السرور على المؤمن: تقضي عنه ديناً، تقضي له حاجة، تنفس له كربة» (أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن المنكدر مرسلاً، وفى صحيح الجامع برقم: [5897] (صحيح)).
فياليتنا نخرج من سوء نفوسنا، ونستقبل هذا الضيف العزيز بإدخال السرور على الأهل والجيران والأصحاب، ونجعل من رمضان ملتقى الأحبة في الله، نطعمهم ونخفف عنهم ونشاركهم في قضاء حوائجهم ولو بالدعاء ممن لم يجد، ولنتذكر في هذا المقام قول الهادي البشير عليه الصلاة والسلام: «ترى المؤمنين في تراحمهم، وتوادهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو، تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى» (البخاري (كتاب الأدب) حديث رقم: [4888]).
التحول الكبير:
وبناءً على هذا فلنستقبل رمضان من منطلق تحولنا عن الإساءة لإخواننا إلى التواد والتعاطف والتراحم، ولنستقبل هذه الأيام الفضيلة ونحن جسد واحد، جسد الإسلام والمسلمين، ولهذا ينبغي أن نعلم أن فرقة الصف، وتفرق الجمع، وفك حزمة المسلمين، يرجع سبب ذلك إلى أمور، لعل من أعظمها التلاعن بين المسلمين، فكل جماعة تلعن أختها ولو من طرف خفي، وكل فرد يلعن من ليس في حزبه أو جماعته فتزداد بذلك الفرقة، وتتعمق به الغربة بين المسلمين، وهذا لا يُرضي إلا أعداء الإسلام الذين يسعون في المسلمين منذ أمد بعيد بمبدأ "فرق تسد"، وقد نجحوا في ذلك مع الأسف، وما ذلك إلا بسبب بعد المسلمين عن هدي نبيهم وشريعة ربهم، وباتوا يلهثون وراء الغرب الذي هو موطن أعدائهم، ومحل مبغضيهم وحاسديهم، باتوا يتخذونهم أولياء ويتبعونهم في كل صغيرة وكبيرة حتى فرقوهم وجعلوهم شراذم متباغضين متناحرين، حتى قامت بين المسلمين الحروب.
فبدلاً من أن يتوجه المسلم بسلاحه وقوته وضربته إلى أعدائه الحقيقيين، جعل قوته ورميته في صدر أخيه المسلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، فلهذا ينبغي أن نتفطن لما أوقعنا فيه عدونا، وقد ذقنا مرارة التفرق والتلاعن، والسب والمقاتلة حتى كدنا نستنزف لصالح أعدائنا، لنتنبه إلى مثل هذه الأمور العظام، ونخرج أنفسنا من ورطة الغفلة التي وضعنا فيها بعدنا عن ديننا، وتربص ومكر أعدائنا.
ينبغي أن يكون أخوك هو أخوك، يشد عضدك ويحوطك من ورائك، ففي الحديث: «المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن: يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه» (أخرجه البخاري في الأدب وأبو داود عن أبي هريرة، وفى صحيح الجامع برقم: [6656]، وقال (حسن)).
وليس الأمر يقف عند حد النصح والتعاون على الخير، بل مجتمع المسلمين مجتمع مسئول، للمسلم على المسلم حقوق، وعليه كذلك حق، فحق المؤمن على أخيه، كما في الحديث: «للمؤمن على المؤمن ست خصال: يعوده إذا مرض، ويشهده إذا مات، ويجيبه إذا دعاه، ويسلم عليه إذا لقيه، ويشمته إذا عطس، وينصح له إذا غاب أو شهد» (الترمذي والنسائي عن أبي هريرة. وفى صحيح الجامع برقم: [5188] ، وقال (صحيح))، وفى الحديث: «المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر» (أخرجه مسلم، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه - كتاب النكاح رقم: [3295])، وفى الحديث: «الْمُؤمِنُ للْمُؤمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهَ بَعْضَاً»، وشبك بين أصابعه (أخرجه الشيخان من حديث أبي موسى، أنظر البخاري باب المظالم والغصب رقم: [1869]).
فينبغي أن نجعل من رمضان منطلقاً لربط الأوصال بين جمع الجماعة الحق التي لا يحب الله غيرهم ويده سبحانه فوق أيديهم، وأن نجعل من استقبالنا للشهر الفضيل مقاطعة للسب والتلاعن والتهاجر، ونجعل من دخول رمضان علينا نقطة تحول إلى الوحدة والتماسك والترابط كالبنيان، ونذر كل سبب للفرقة والشرذمة، ولنتخذ من عفة اللسان وحسن الكلام سبيلا إلى ذلك، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف:
- المصدر: