ليلة النصف من شعبان

منذ 2016-05-21

الحمد الله الكريم المنان الرحيم الرحمن  من علينا بأفضل رسول أرسل وخصنا بخير كتاب أنزل وجعلنا خير أمة أخرجت للناس  وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله. 

وبعد

ألا أيها المقصود في كل حاجة *** شكوت  إليك الضـر فارحــم شكايتي
ألا يا رجائي أنت تكشف كربتي *** فهب لي ذنوبي كلها واقضِ حاجتي

مغفرة الذنوب (طهارة قبل التزين):
«إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِى لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ» (رواه ابن ماجة عَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ والبيهقي وقال هذا مرسل جيد والطبراني في الأوسط وابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني وقال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح بشواهده). 

«يَطْلُعُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُمْلي لِلْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدْعُوهُ» (حديث أَبِي ثَعْلَبَةَ رواه الطبراني في الكبير والبيهقي وقال الألباني صحيح لغيره).

فهي فرصة تاريخية لكل مخطئ ومقصِّر في حق الله ودينه ودعوته، وهي فرصة لكل من وقع في معصية أو ذنب مهما كان حجمه، هي فرصة لكل من سولت له نفسه التجرؤ على الله بارتكاب معاصيه هي فرصة إذاً لإدراك ما فات، وبدء صفحة جديدة مع الله تكون ممحوة من الذنوب وناصعة البياض بالطاعة.

احرص أخي المسلم على أن لا يدخلَ عليك رمضان إلاّ وأنت طاهِرٌ نقيّ، فإنّ رمضانَ عِطر، ولاَ يُعطَّرُ الثّوبُ حتى يُغسَل، وهذا زمنُ الغسل، فاغتسلوا من درَن الذنوب والخطايا، وتوبوا إلى ربكم قبل حلول المنايا، اتّقوا الشركَ فإنه الذنب الذي لا يغفره الله لأصحابه، واتَّقوا الظلم فإنه الديوان الذي وكله الله لعباده، واتقوا الآثام فمن اتقاها فالمغفرة والرحمة أولى به.

يا من للناس عليك حقوقٌ، أدِّ الحقوقَ لأصحابها. أيها العاق لوالديه، ائت مرضاةَ الله من أبوابها، وإن رضا الله تعالى في رضا الوالدين، وسخطه تعالى في سخط الوالدين. أيها الشاب الواقع في المعاصي، اعلم أن الشيطان لن ينتصر عليك بإيقاعك في المعاصي، وإنما ينتصر عليك بتقنيطك وتيئيسك من رحمة أرحم الراحمين وبتسويف التوبة وطول الأمل.

احذر الشرك بالله:
يجدر بالمؤمن أن يتخلي عن الشرك المحبط لكل عمل وهو مقبل علي رمضان فقد قال تعالى {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].

صور الشرك:
وللشرك صور منها الاتباع أي لغير منهج الله روى الترمذي وحسنه، وحسنه الألباني ورواه ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَفِى عُنُقِى صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ. فَقَالَ: «يَا عَدِىُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ». وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِى سُورَةِ بَرَاءَةَ {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[التوبة:31] قَالَ «أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئاً اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئاً حَرَّمُوهُ».

* ومن النص القرآني الواضح الدلالة؛ ومن تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فصل الخطاب، ثم من مفهومات المفسرين الأوائل والمتأخرين ، تخلص لنا حقائق في العقيدة والدين ذات أهمية بالغة نشير إليها:

أن العبادة هي الاتباع في الشرائع بنص القرآن وتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم فاليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أرباباً بمعنى الاعتقاد بألوهيتهم أو تقديم الشعائر التعبدية إليهم، ومع هذا فقد حكم الله سبحانه عليهم بالشرك في هذه الآية وبالكفر في آية تالية في السياق لمجرد أنهم تلقوا منهم الشرائع فأطاعوها واتبعوها فهذا وحده دون الاعتقاد والشعائر يكفي لاعتبار من يفعله مشركاً بالله، الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ويدخله في عداد الكافرين.

أن النص القرآني يسوي في الوصف بالشرك واتخاذ الأرباب من دون الله ، بين اليهود الذين قبلوا التشريع من أحبارهم وأطاعوه واتبعوه، وبين النصارى الذين قالوا بألوهية المسيح اعتقاداً وقدموا إليه الشعائر في العبادة. فهذه كتلك سواء في اعتبار فاعلها مشركاً بالله، الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ويدخله في عداد الكافرين.

أن الشرك بالله يتحقق بمجرد إعطاء حق التشريع لغير الله من عباده؛ ولو لم يصحبه شرك في الاعتقاد بألوهيته؛ ولا تقديم الشعائر التعبدية له.

إن دين الحق الذي لا يقبل الله من الناس كلهم ديناً غيره هو (الإسلام). والإسلام لا يقوم إلا باتباع الله وحده في الشريعة -بعد الاعتقاد بألوهيته وحده وتقديم الشعائر التعبدية له وحده- فإذا اتبع الناس شريعة غير شريعة الله صح فيهم ما صح في اليهود والنصارى من أنهم مشركون لا يؤمنون بالله -مهما كانت دعواهم في الإيمان- لأن هذا الوصف يلحقهم بمجرد اتباعهم لتشريع العباد لهم من دون الله، بغير إنكار منهم يثبت منه أنهم لا يتبعون إلا عن إكراه واقع بهم، لا طاقة لهم بدفعه، وأنهم لا يقرون هذا الافتئات على الله.

إن مصطلح (الدين) قد انحسر في نفوس الناس اليوم، حتى باتوا يحسبونه عقيدة في الضمير، وشعائر تعبدية تقام! وهذا ما كان عليه اليهود الذين يقرر هذا النص المحكم ويقرر تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لم يكونوا يؤمنون بالله، وأنهم أشركوا به، وأنهم خالفوا عن أمره بألا يعبدوا إلا إلهاً واحداً، وأنهم اتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله.

* إن المعنى الأول للدين هو الدينونة أي الخضوع والاستسلام والاتباع وهذا يتجلى في اتباع الشرائع كما يتجلى في تقديم الشعائر.

والأمر جد لا يقبل هذا التميع في اعتبار من يتبعون شرائع غير الله -دون إنكار منهم يثبتون به عدم الرضا عن الافتئات على سلطان الله- مؤمنين بالله، مسلمين، لمجرد أنهم يعتقدون بألوهية الله سبحانه ويقدمون له وحده الشعائر . . وهذا التميع هو أخطر ما يعانيه هذا الدين في هذه الحقبة من التاريخ؛ وهو أفتك الأسلحة التي يحاربه بها أعداؤه؛ الذين يحرصون على تثبيت لافتة (الإسلام) على أوضاع ، وعلى أشخاص، يقرر الله سبحانه في أمثالهم أنهم مشركون لا يدينون دين الحق، وأنهم يتخذون أرباباً من دون الله. وإذا كان أعداء هذا الدين يحرصون على تثبيت لافتة الإسلام على تلك الأوضاع وهؤلاء الأشخاص؛ فواجب حماة هذا الدين أن ينزعوا هذه اللافتات الخادعة؛ وأن يكشفوا ما تحتها من شرك وكفر واتخاذ أرباب من دون الله {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة :31] (في ظلال القرآن).

* هو لا يمزق المصحف ولا يحرف آياته بالمحو أو بالتبديل كما فعل اليهود والنصارى ولكن يمحوها أو يبدلها من قلبه فلا وجود لها في حياته أو معاملاته وتقول له قال الله وقال الرسول يقول لك سيبك من هذا الكلام، الكلام الذي لا يودي ولا يجيب قال الله وقال الرسول في المسجد {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء :65].

فمن يحرم وارث من ميراثه ومن تحرم علي زوجها الزوجة الثانية وتعتبرها خيانة ومن يستحل لنفسه في التجارة ما حرم الله ومن يستحل لنفسه الربا {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة :275] أليس هذا تبديل لما شرع الله. وعبادة للهوي والعقل؟! وقس علي ذلك في الاقتصاد والسياسة و .....

والشك شرك أكبر وهو عبادة غير الله وشرك أصغر وهو الرياء

درس تحويل القبلة:
طاعة النبي صلي الله عليه وسلم وامتثاله لأمر الله في توجهه للقبلة مع تطلعه وتقلب وجهه في السماء طاعة الصحابة واستدارتهم في الصلاة.

قص القرآن الكريم علينا تحايل بني إسرائيل علي أوامر الله تعالى {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:58].

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65] وأكثر القرآن من قصصهم حتي نتجنب أمراضهم ولا نسلك سبيلهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء:47].

التمائم:
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ إِلَيْهِ رَهْطٌ فَبَايَعَ تِسْعَةً وَأَمْسَكَ عَنْ وَاحِدٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايَعْتَ تِسْعَةً وَتَرَكْتَ هَذَا، قَالَ: «إِنَّ عَلَيْهِ تَمِيمَةً». فَأَدْخَلَ يَدَهُ فَقَطَعَهَا فَبَايَعَهُ وَقَالَ «مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ» (رواه أحمد وصححه الألباني).

التطير:
«مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَةٍ فَقَدْ أَشْرَكَ» قَالُوا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟" قَالَ: «أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ اللَّهُمَّ لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُكَ وَلاَ طَيْرَ إِلاَّ طَيْرُكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ» أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وقال أحمد شاكر إسناده صحيح وصححه الألباني.

الدجل:
«مَنْ أَتَى حَائِضاً أَوِ امْرَأَةً فِى دُبُرِهَا أَوْ كَاهِناً فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» (رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو داود عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ وصححه الألباني).

الناس تخاف من السحر والحسد أكثر من خوفها من الله وترجوا الناس وتقف ببابهم أكثر من لجوئهم ووقوفهم بباب الله، نعم السحر موجود والحسد موجود ولكن الله رب الوجود موجود {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54].

{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102].

سلامة الصدر أقصر طرق الجنة
فمن فضائل سلامة الصدر أنها صفة أهل الجنة الذين هم خير أهل ومعشر {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].

ومن فضائل سلامة الصدر أن صاحبها خير الناس وأفضلهم فإن عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَي النَّاسِ أَفْضَلُ؟" قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ». قَالُوا: "صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟" قَالَ: «هُوَ التَّقِىُّ النَّقِىُّ لاَ إِثْمَ فِيهِ وَلاَ بَغْىَ وَلاَ غِلَّ وَلاَ حَسَدَ» (ابن ماجة وصححه الألباني  وزاد ابن عساكر: قالوا: "فمن يليه يا رسول الله؟" قال: «الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة» قالوا: "ما نعرف هذا فينا إلا رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم". قالوا: "فمن يليه؟" قال: «مؤمن في خلق حسن»).

ومن فضائل سلامة الصدر أنها من موجبات الجنة 
يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ:
قال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ كُنَّا جُلُوساً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ». فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وَضُوئِهِ قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِى يَدِهِ الشِّمَالِ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الأُولَى فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضاً فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الأُولَى فَلَمَّا قَامَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّى لاَحَيْتُ أَبِى فَأَقْسَمْتُ أَنْ لاَ أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلاَثاً فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُئْوِيَنِى إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِىَ فَعَلْتَ . قَالَ نَعَمْ . قَالَ أَنَسٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِىَ الثَلاَثَ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئاً غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلاَةِ الْفَجْرِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ غَيْرَ أَنِّى لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلاَّ خَيْراً فَلَمَّا مَضَتِ الثَلاَثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ قُلْتُ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنِّى لَمْ يَكُنْ بَيْنِى وَبَيْنَ أَبِى غَضَبٌ وَلاَ هَجْرٌ ثَمَّ وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَكَ ثَلاَثَ مِرَارٍ: «يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ». فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَلاَثَ مِرَارٍ فَأَرَدْتُ أَنْ آوِىَ إِلَيْكَ لأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِىَ بِهِ فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ فَمَا الَّذِى بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا هُوَ إِلاَّ مَا رَأَيْتَ. قَالَ فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِى. فَقَالَ مَا هُوَ إِلاَّ مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لاَ أَجِدُ فِى نَفْسِى لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا وَلاَ أَحْسُدُ أَحَداً عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ هَذِهِ الَّتِى بَلَغَتْ بِكَ وَهِي الَّتِى لاَ نُطِيقُ. رواه أحمد وغيره بسند صحيح صححه الألباني.

$ روى البيهقي في الشعب عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن داود عليه السلام قال فيما يخاطب ربه عز وجل: يا رب، أي عبادك أحب إليك؟ أحبه بحبك، قال: يا داود، أحب عبادي إلي تقي القلب، نقي الكفين، لا يأتي إلى أحد بسوء، ولا يمشي بالنميمة، تزول الجبال ولا يزول، وأحبني وأحب من يحبني، وحببني إلى عبادي، قال: يا رب، إنك لتعلم أني أحبك وأحب من يحبك، فكيف أحببك إلى عبادك؟ قال: ذكرهم بآياتي وبآلائي ونعمائي، يا داود، إنه ليس من عبد يعين مظلومًا أو يمشي معه في مظلمته إلا أثبت قدميه يوم تزل الأقدام» وقال بعض أهل العلم ضعيف جداً.

إن سلامة الصدر سببٌ من أعظم أسباب قبول الأعمال الصالحة
«تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً إِلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» (رواه مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ).

فانظر كم يضيع على نفسه من الخير من يحمل في قلبه الحقد والحسد والغل؟!!

عُلبة بن زيد:
وقام علبة بن زيد فصلى من الليل وبكى وقال: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد ورغبت فيه ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك ولم تجعل فى يد رسولك ما يحملني عليه وإنى أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها من مال أو جسد أو عرض ثم أصبح مع الناس فقال النبي صلى الله عليه و سلم: «أين المتصدق هذه الليلة؟». فلم يقم إليه أحد ثم قال: «أين المتصدق فليقم» فقام إليه فأخبره فقال النبي صلى الله عليه و سلم: «أبشر فوالذي نفس محمد بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة» وصححه الألباني (فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي).

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم «خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ إِذَا رُؤوا ذُكِرَ اللَّهُ وَشِرَارُ عِبَادِ اللَّهِ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ الْبَاغُونَ الْبُرَآءَ الْعَنَتَ» (رواه البخاري في الأدب المفرد وأحمد وحسنه الألباني).

عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِكُمْ». قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى». ثُمَّ قَالَ: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمُ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ الْبَاغُونَ للْبُرَآءِ الْعَنَتَ» (رواه أحمد وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد فيه شهر بن حوشب وقد وثقه غير واحد وبقية رجال أحد أسانيده رجال الصحيح).

القلب السليم سبب من أسباب النجاة يوم القيامة 
قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم}ٍ[الشعراء:87-89] والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والنفاق، ومن الغل والحقد والحسد.

و(ليس أروح للمرء، ولا أطرد لهمومه، ولا أقر لعينه من أن يعيش سليم القلب، مبرأ من وساوس الضغينة، وثوران الأحقاد، إذا رأى نعمة تنساق لأحد رضي بها، وأحس فضل الله فيها، وفقر عباده إليها، وذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِى مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْكَ وَحْدَكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ فَلَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ. فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ وَمَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حِينَ يُمْسِى فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ لَيْلَتِهِ» رواه أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَنَّامٍ الْبَيَاضِىِّ، وإذا رأى أذى يلحق أحدا من خلق الله رثى له، ورجا الله أن يفرج كربه ويغفر ذنبه... وبذلك يحيا المسلم ناصع الصفحة، راضياً عن الله وعن الحياة ، مستريح النفس من نزعات الحقد الأعمى، فإن فساد القلب بالضغائن داء عياء، وما أسرع أن يتسرب الإيمان من القلب المغشوش، كما يتسرب السائل من الإناء المثلوم...! 

والإسلام يحارب الأحقاد ويقتل جرثومتها في المهد، ويرتقي بالمجتمع المؤمن إلى مستوى رفيع من الصداقات المتبادلة أو المعاملات العادلة، وقد اعتبر الإسلام من دلائل الصغار وخسة الطبيعة، أن يرسب الغل في أعماق النفس فلا يخرج منه، بل يظل يموج في جوانبها كما يموج البركان المكتوم، وكثير من أولئك الذين يحتبس الغل في أفئدتهم، يتلمسون متنفساً له في وجوه من يقع معهم، فلا يستريحون إلا إذا أرغوا وأزبدوا، وآذوا وأفسدوا. الشيخ العلامة محمد الغزالي 

قال بعض السلف: أفضل الأعمال سلامة الصدور وسخاوة النفوس والنصيحة للأمة.

عثمان رضي الله عنه: "ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله عز وجل على صفحات وجهه وفلتات لسانه"
أبو حاتم: "الحقد أصل الشر ومن أضمر الشر في قلبه أنبت له نباتا مرا مذاقه نماؤه الغيظ وثمرته الندم".

وأما الشحناء: 
وما أدراكم ما الشحناء؟ شرها عظيم، و وبالها يعم ولا يخص، روى البخاري عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ خَرَجَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ «خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْراً لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا فِى التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ»

ضرر سقم الصدر على نفسه 
روى الترمذي وغيره وحسنه الألباني عن الزُّبَيْر بْن الْعَوَّامِ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِىَ الْحَالِقَةُ لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَفَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ».

روى البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَحَدٍ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَىْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ».

فها هي فرصة لمحو الأحقاد من القلوب تجاه إخواننا ، فلا مكان هنا لمشاحن وحاقد وحسود ، وليكن شعارنا جميعاً قوله {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:8-10].

وبال الضغينة والشحناء:
ثمرة خبيثة من ثمار الغضب.. وتطور طبيعي لمرض خبيث اسمه الحقد.. ومرض خطير ينهش في جسد مجتمع فقد مناعته أو كاد، أمام سيول من رذائل تعيش بيننا هادئة مستكينة, وكأنها وجدت وطنًا حنونًا يحتضنها ويربيها وينمِّيها.. فأيقظ ما هو قديم من رقاده، ووفد إلينا ما هو جديد.. مرض قديم، وقديم جدًّا قدم البشرية نفسها.
أصاب أول ما أصاب ابن سيدنا آدم عليه السلام "قابيل"، الذي لم يتحمل أن يتقبَّل الله قربان أخيه ويرفض قربانه؛ فاشتعل فؤاده، وعمي بصره، وملك عليه الغلُّ مشاعره، وقرر أن يرتكب جريمته؛ لتصبح أول جريمة قتلٍ في تاريخ البشرية.. قتل سدس البشر.. وأقرب الناس إليه.. أخيه "هابيل .
وفي آيةٍ بينة من سورة "المائدة" يتضح لنا الفارق الرهيب بين نفسية الحاسد القاتل والمحسود المقتول؛ حيث يقول عزَّ من قائل على لسان هابيل لأخيه: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة:28].

ومع هذا التصريح الرقيق الذي يُعلي قيمة الأخوَّة، ويرقُّ له قلب القاسي العنيف؛ لم يرِقَّ له قلب أخيه أقرب الأقرباء إليه بعد أمه وأبيه، وأبلغ القرآن في الوصف مرةً أخرى، فقال: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:30].

وفعلها بعده إخوة يوسف..{إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:8-9] فانظر كم يضيع على نفسه من الخير من يحمل في قلبه الحقد والحسد والغل؟!!

نبي الله يوسف عليه السلام:
وقصته مع إخوته أنموذج رائع لسلامة الصدر فبعد أن ألقوه في الجب وفرقوا بينه وبين أبيه ودخوله السجن إلى غير ذلك مما هو معروف مكن الله له وجعله على خزائن مصر فلما ترددوا عليه وعرفوه قالوا: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} فما كان منه إلا أن قَال: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ما حمل غلا. ثم لما جاء أبوه مع إخوته: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100].

فلم يقل أخرجني من الجب كي لا يُخجلهم {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ}، ولم يقل رفع عنكم الجوع والحاجة حفظًا للأدب معهم. {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} فأضاف ما جرى إلى السبب ولم يضفه إلى المباشر (إخوته).
إنه الحسد.. أن تكره النعمة التي أنعم الله بها على غيرك وتحبَّ زوالها،ولو تمكَّنت من إزالتها لأزلتها ، ألا تشعر به وهو يقف على بابِ عملك أو مدرستك أو جامعتك؟! يأتي قبل الجميع فينتظر أفواجًا من البشر كل يوم ليعرض عليهم خدماته، ويرفض القليل القليل جدًّا، ويسقط الكثير الكثير جدًّا وربما تكون أنت واحدًا ممن سقطوا أو سيسقطون.. إلى متى يظل زميلي فلان متفوقًا إلى هذا الحد؟ إلى متى يظل إعجاب الجميع به بهذا الشكل؟!

إنه تقريبًا لا يخطئ قط، ولا يتكاسل قط، ولا يغيب قط، حتى لا أكاد أذكر أنه مرض قط ، إنني أكرهه وأحسده.. تغلي الدماء في عروقي عندما أراه، أشعر بالدوار، أسمع اسمه يتردد بين زملائي في زهو وإعجاب، لا أعرف كيف أتحامل على نفسي لأرسم على شفتي بسمةً كاذبةً عندما أقابله؛ لأتناول معه الحديث، وأمنيات التفوق والنجاح الكاذبة.. إنني أتمنَّى له الفشل المبين والسقوط المريع السريع.. إنه يكاد يدمرني.

إنها حقًّا مشكلة، والمشكلة الكبرى أنها ليست هذه المشكلة الوحيدة بالنسبة لي.. يوجد فلان الآخر الذي اشترى سيارة قريبًا، وآخر الذي شرع في بناء منزل خاص به، ورابع وخامس وسادس. إنها طبيعة الحسد ومأساته.

الحسد مرض اجتماعي نفسي رهيب، يتألف من عناصر أربعة في الغالب: الحاسد، والمحسود، ونعمة أنعم الله بها على المحسود، وفي الغالب مجال مشترك بين الحاسد والمحسود .

 

عبد الوهاب عمارة

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام