شذرات من فقه الصوم ورمضان - شذرات من فقه الصوم ورمضان (3)

منذ 2016-05-26

لما كانت العبادات في أمس الحاجة لفقه يوضح معالمها ويعصمها من الجنوح إلى شراك البدعة، رأيت أن أجمع جواهر من فقه الصوم نحن في أمس الحاجة إليها.

بسم الله الرحمن الرحيم

رمضان وذكريات الطاعة والصيام من الأيام الجميلة في مخيلة كل مسلم، فهي أيام نور وبركة وسكينة وإطعام وإفضال، وهي محطة سنوية هامة في حياة كل مؤمن، فيها يغفر الذنب وتقبل التوبة وتمحى الحوبة، ولما كانت العبادات في أمس الحاجة لفقه يوضح معالمها ويعصمها من الجنوح إلى شراك البدعة، رأيت أن أجمع جواهر من فقه الصوم نحن في أمس الحاجة إليها، وقصدت من ذلك تذكير العالم وتعليم الجاهل، هذا وأسأل الله التوفيق والقبول والسداد والرشاد إنه على كل شيء قدير وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع سنتهم.


- يقضي الصائم إذا أفطر وهو شاك في الغروب لقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة من الآية:187]، والليل يبدأ من غروب الشمس، وهو كان على يقين أنه في نهار فلا يفطر إلا إذا تيقن أو غلب على ظنه غروب الشمس، لأن الأصل بقاء النهار، فلا ينتقل عن هذا الأصل إلا بيقين أو غلبة ظن.

ولا يقضي الصائم إذا أكل أو شرب وهو شاك في طلوع الفجر، لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة من الآية:187]، فقد قال تعالى: {حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ}. مما يدل على جواز الأكل والشرب قبل تيقن طلوع الفجر، ولأنه كان على يقين أنه في ليل فلا يحرم عليه الأكل إلا إذا تيقن طلوع الفجر، لأن الأصل بقاء الليل.

- المعاصي التي تقع في رمضان لا تنافي ما ثبت من أن الشياطين تصفد في رمضان، لأن تصفيدها لا يمنع من حركتها، ولذلك جاء في الحديث:«وَيُصَفَّدُ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، فَلَا يَخْلُصُوا إِلَى مَا كَانُوا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهِ» (رواه أحمد: [7857]، والحديث ذكره الألباني في ضعيف الترغيب: [586]، وقال: ضعيف جدًا).

وليس المراد أن الشياطين لا تتحرك أبدًا بل هي تتحرك، وتضل من تضل، ولكن عملها في رمضان ليس كعملها في غيره.

وروى ابن خزيمة في (صحيحه: [3/188]) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَانَ أَوُّل لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَان صُفِّدَتْ الشَّيَاطِين مَرَدُةُ الجِنِّ»، وبوَّب عليه الإمام ابن خزيمة بقوله: "باب ذكر البيان أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بقوله: «صُفِّدَتْ الشَّيَاطِين» مردة الجن منهم، لا جميع الشياطين؛ إذ اسم الشياطين قد يقع على بعضهم".

وقيل أن تصفيد الشياطين: إنما هو في حق المؤمنين الصائمين، دون الكفار. قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: "إنما تُغلُّ عن الصائمين الصوْم الذي حوفظ على شروطه، وروعيت آدابه" (شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك: [3/137]).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والمصفَّد من الشياطين قد يؤذي، لكن هذا أقل وأضعف مما يكون فى غير رمضان، فهو بحسب كمال الصوم ونقصه، فمن كان صومه كاملًا: دفعَ الشيطانَ دفعًا لا يدفعه دفع الصوم الناقص" (مجموع الفتاوى: [25/246]).

- إذا أسقطت المرأة فلا يعتبر الدم النازل منها دم نفاس إلا إذا أسقطت ما تبين فيه خلق الإنسان، من رأس أو يد أو رجل أو غير ذلك.

والتخليق لا يبدأ في الحمل قبل ثمانين يوماً، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوح» (صحيح البخاري: [3208]).

فدل هذا الحديث على أن الإنسان يمر بعدة مراحل في الحمل: أربعين يومًا نطفة، ثم أربعين أخرى علقة، ثم أربعين ثالثة مضغة. ثم ينفخ فيه الروح بعد تمام مائة وعشرين يومًا.

والتخليق يكون في مرحلة المضغة، ولا يكون قبل ذلك، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ} [الحج من الآية:5]. فعُلم من هذه الآية: أن المضغة قد تكون مخلقة وقد تكون غير مخلقة.

قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "أما إذا كان الخارج من المرأة لم يتبين فيه خلق الإنسان بأن كان لحمة ولا تخطيط فيه أو كان دما: فإنها بذلك تكون لها حكم المستحاضة لا حكم النفاس، لا حكم الحائض، وعليها أن تصلي وتصوم في رمضان وتحل لزوجها... لأنها في حكم المستحاضة عند أهل العلم" (فتاوى إسلامية: [1/243]).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المستحاضة إذا مكثت مدة لا تصلي لاعتقادها عدم وجوب الصلاة عليها، ففي وجوب القضاء عليها قولان، أحدهما: لا إعادة عليها -كما نقل عن مالك وغيره-؛ لأن المستحاضة التي قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: "إني حضت حيضةً شديدةً كبيرةً منكرةً منعتني الصلاة والصيام" أمرها بما يجب في المستقبل، ولم يأمرها بقضاء صلاة الماضي" (مجموع الفتاوى: [22/102]).

- "إذا طهرت النفساء في الأربعين فصامت أيامًا ثم عاد إليها الدم في الأربعين فإن صومها صحيح، وعليها أن تدع الصلاة والصيام في الأيام التي عاد فيهل الدم -لأنه نفاس- حتى تطهر أو تكمل الأربعين، ومتى أكملت الأربعين وجب عليها الغسل، وإن لم تر الطهر، لأن الأربعين هي نهاية النفاس في أصح قولي العلماء، وعليها بعد ذلك أن تتوضأ لوقت كل صلاة حتى ينقطع عنها الدم، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك المستحاضة، ولزوجها أن يستمتع بها بعد الأربعين، وإن لم تر الطهر، لأن الدم والحال ما ذكر دم فساد لا يمنع الصلاة ولا الصوم، ولا يمنع الزوج من استمتاعه بزوجته. لكن إن وافق الدم بعد الأربعين عادتها في الحيض فإنها تدع الصلاة والصوم وتعتبره حيضًا" (الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، فتاوى إسلامية: [2/146]).


- قالت اللجنة الدائمة: إذا كان الصائم في الطائرة واطلع بواسطة الساعة والتليفون عن إفطار البلد القريبة منه وهو يرى الشمس بسبب ارتفاع الطائرة فليس له أن يفطر لأن الله تعالى قال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة من الآية:187]، وهذه الغاية لم تتحقق في حقه ما دام يرى الشمس.

وأما إذا أفطر بالبلد بعد انتهاء النهار في حقه فأقلعت الطائرة ثم رأى الشمس فإنه يستمر مفطرًا لأن حكمه حكم البلد التي أقلع منها وقد انتهى النهار وهو فيها.

- قال ابن قدامة رحمه الله: "فإن سال فمه دمًا، فازدرده (يعني ابتلعه) أفطر، وإن كان يسيرًا؛ لأن الفم في حكم الظاهر، والأصل حصول الفطر بكل واصل منه، لكن عفي عن الريق؛ لعدم إمكان التحرز منه، فما عداه يبقى على الأصل، وإن ألقاه من فيه، وبقي فمه نجسًا أو تنجس فمه بشيء من خارج، فابتلع ريقه: فإن كان معه جزء من المنجس أفطر بذلك الجزء، وإلا فلا" (المغني: [3/36]).

وقال علماء اللجنة الدائمة: "وإذا كان في لثته قروح أو دميت بالسواك: فلا يجوز ابتلاع الدم، وعليه إخراجه، فإن دخل حلقه بغير اختياره ولا قصده: فلا شيء عليه، وكذلك القيء إذا رجع إلى جوفه بغير اختياره فصيامه صحيحط (فتاوى اللجنة الدائمة: [10/254]).

- قاعدة: "أن الأجر على قدر المشقة" ليس مطردة في كل شيء، بل هناك من الأعمال ما هو أخف وأعظم أجرًا.

قال الزركشي في (المنثور في القواعد: [2/415-419]): "العمل كلما كثر وشق كان أفضل مما ليس كذلك، وفي حديث عائشة رضي الله عنه: «إنَّ لَكِ منَ الأجرِ علَى قدرِ نَصَبِكِ» (صحيح الجامع: [2160]). وقد يفضل العملُ القليلُ على الكثير في صور:

منها: قصر الصلاة أفضل من الإتمام للمسافر.

ومنها: الصلاة مرة في الجماعة أفضل من فعلها وحده خمسا وعشرين مرة.

ومنها: تخفيف ركعتي الفجر أفضل من تطويلهما.

ومنها: التصدق بالأضحية بعد أكل لقم منها أفضل من التصدق بجميعها.

ومنها: قراءة سورة قصيرة في الصلاة أفضل من قراءة بعض سورة، وإن طالت، لأنه المعهود من فعله صلى الله عليه وسلم غالبًا" (انتهى بتصرف واختصار).

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

المقال السابق
(2)
المقال التالي
شذرات من فقه الصوم ورمضان (4)