سلسلة غنائم الصائمين (7) رمضان يحزم حقائب رحيله
رمضان ضيف عزيز مرتحل، يحل في مرابعنا اليوم، ثم يحزم حقائبه ويسافر غداً، ساعاته ثمينة، ولياليه مليئة زاخرة، والكيّس الذي لا يدع ساعات الليل وأطراف النهار إلا ويجعلها مطية طاعة..
رمضان ضيف عزيز مرتحل، يحل في مرابعنا اليوم، ثم يحزم حقائبه ويسافر غداً، ساعاته ثمينة، ولياليه مليئة زاخرة، والكيّس الذي لا يدع ساعات الليل وأطراف النهار إلا ويجعلها مطية طاعة، ومركب عبادة، فبادروا إلى اغتنام نفحات رمضان، ولا تلهينكم الحياة الفانية، ولا تفتنكم زينتها الزائلة، ألا يكفينا ما فرطنا في أشهر السنة الأخرى؟!!
أفلا يستحق منا شهر العتق والغفران أن نحسن إكرامه وضيافته؟!!
فنملأ خزائن ليله ونهاره بطاعة الرحمن تبارك وتعالى، ليشهد لنا يوم القيامة.
فيا من ضيع عمره في غير الطاعة..
يا من فرط في شهره بل في دهره و أضاعه..
يا من بضاعته التسويف والتفريط و بئست البضاعة..
يا من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان.. كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة؟!
أيها الأحبة:
إن طول الأمل يؤدي بالإنسان إلى تسويف الأعمال الخِيرة، وتأجيلها بدعوى أن العمر طويل، والتسويف بالأعمال الصالحة في شهر رمضان مفسدته كبيرة، وجريرته عظيمة، ومصيبته خطيرة، وصدق من قال عن التسويف أنه من أكبر جنود إبليس، و التسويف عادة استحكمت في نفوس كثير من الخلق، وهي عادة مهلكة يغذيها شعور غبي، لأن التسويف تكتنفه آفات خطيرة، من أهمها:
الآفة الأولى: أن المسوف لا يضمن أن يعيش إلى الغد، وما أكثر موت الفجأة في أيامنا هذه.
الآفة الثانية: أن المسوف، وإن بقي إلى الغد، فلا يأمن المعوقات من مرض طارئ، أو شغل عارض، أو بلاء نازل، إلى غير ذلك من الصوارف الكثيرة.
الآفة الثالثة: أن المسوف، يتجاهل أن لكل يوم عمله الخاص به، ولكل وقت واجباته المختلفة، فليس هناك وقت فارغ من العمل المتجدد.
الآفة الرابعة: أن تأخير المسوف للطاعات وفعل الخيرات، يجعل النفس تعتاد تركها، والعادة إذا رسخت أصبحت طبيعة ثانية يصعب الإقلاع عنها، حتى إن المرء ليقتنع عقلياً بوجوب المبادرة إلى الطاعة، وعمل الصالحات، ولكنه لا يجد من إرادته ما يعينه على ذلك، بل يجد تثاقلاً عن العمل، وإعراضاً عنه، وإذا خطا يوماً إليه خطوة كان كأنما يحمل على ظهره جبلاً، والنفس إذا ألِفت ارتكاب المعاصي، والتقلب في الذنوب والشهوات، فإنه يعسر فطامها عنها، لأنها كل يوم تزداد شغفا بها، وملاصقة لها، ويزداد حجم المعصية في القلب حتى يغشاه سوادها، ويعمه ظلامها.
ورحم الله ابن الجوزي إذ يقول: "أيها الناس إن شهركم هذا قد انتصف، فهل فيكم من قهر نفسه وانتصف، وهل فيكم من قام فيه بما عرف، وهل تشوقت هممكم إلى نيل الشرف، أيها المحسن فيما مضى منه دم، وأيها المسيء وبخ نفسك على التفريط ولم، إذا خسرت في هذا الشهر متى تربح، وإذا لم تسافر فيه نحو الفوائد فمتى تبرح، كان قتادة يقول: كان يقال: من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له".
لقد أصبحت أوقاتُ كثير من الناس اليوم في رمضان بين بطالة وغفلة، وشرور ومعاصٍ، وإسراف في المباحات، واجتماعات لا فائدة منها، فنهارهم كسل ونوم، وليلهم سهر ولهو بالباطل، فإذا سألت أحدهم لماذا فعلت ذلك؟
أجابك ببرود: أضيع الوقت، وآخر يجيبك: ماذا نفعل نقتل الوقت، كأن الوقت أصبح عدواً له فهو في حرب معه ليقتله، وما علم المسكين أنه يقتل نفسه.
كيف يستشعر أولئك روح الصوم ونفحاته؟
مادام أحدهم يقضي نهاره في النوم، أم كيف يستلذ أحدهم بحلاوة المناجاة الربانية ما لم يعش ظمأ النهار وجوعه، إذ أن من مقاصد الصيام أن يجوع الإنسان ويعطش، حتى تخمد ثورة شهواته، ونار نزواته، وحتى يستشعر الروابط الإيمانية بينه وبين فقراء المسلمين الذين لا يجدون ما يكفيهم، ثم بالله أخبروني كيف يدرك أولئك القوم الحكمة من الصوم؟
وكيف هو ذكرهم لله؟
بل أين اغتنام بركات هذا الشهر المبارك في تصرفاتهم اليومية؟
يا ذا الذي ما كفاهُ الذنبُ في رجب *** حتى عصى ربه في شهر شعبانِ
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما *** فلا تصيره أيضا شهر عصيان
و اتل القران و سبح فيه مجتهدا *** فإنه شهر تسبيح و قرآن
واحمل على جسد ترجو النجاة له *** فسوف تضرم أجساد بنيران
كم كنت تعرف ممن صام في سلف *** من بين أهل و جيران و إخوان
أفناهم الموت و استبقاك بعدهم *** حيا فما أقرب القاصي من الداني
و معجب بثياب العيد يقطعها *** فأصبحت في غد أثواب أكفان
حتى متى يعمر الإنسان مسكنه ***مصير مسكنه قبر لإنسان
اللهم لا تجعلنا من الغافلين، وأكرمنا بمغفرتك ورضوانك في هذا الشهر الكريم، اللهم تقبل منا صيامه وقيامه، وتجاوز عنا بمنك وكرمك يا ذا الجلال والإكرام.
خالد بن منصور الدريس
أستاذ مشارك قسم الحديث في قسم الدراسات الإسلامية في جامعة الملك سعود بالرياض. ومدير موقع تعليم التفكير من منظور إسلامي
- التصنيف: