تفكيك الاتحاد الأوربي لصالح الناتو
المحصلة النهائية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي هي استمرار السيطرة الأمريكية والبريطانية على الغرب من خلال حلف الناتو، وإفشال سعي فرنسا التي تراودها أحلام الزعامة القديمة ومعها ألمانيا التي تبحث عن استعادة قوتها والتخلص من ذل الهزيمة، وإبقاء الدول الأوربية في حالة الضعف التي تعيش فيها منذ خروجها من الحرب العالمية الثانية، وجعل أوروبا في احتياج دائم للقوة العسكرية الأمريكية، والرضوخ كدول تابعة للقرار الأمريكي في المنظمات والمؤسسات الدولية.
قرار بريطانيا بالانفصال عن الاتحاد الأوربي أجهض طموحات الأوروبيين لبناء كيان قادر على منافسة حلف الناتو، فقرار الانفصال جاء لصالح الدوائر المسيطرة في الولايات المتحدة وبريطانيا التي تعمل على استمرار هيمنة الحلف الأنجلوساكسوني على الغرب وإغلاق الباب أمام بروز قيادة أوربية كاثوليكية تطيح بالزعامة البروتستانتية المستقرة منذ نحو قرنين.
تعد الخريطة الدينية في الغرب من القضايا المهمة التي تحتاج إلى دراسة ومتابعة لكونها من العوامل الرئيسية التي تساعد في تفسير ما نراه من سياسات داخل الكيان الغربي، أو بين الغرب وباقي العالم، وبدون فهم تكوينات المسيحية والمذاهب الدينية لا يمكن فهم منطلقات السياسة الغربية واستراتيجياتها.
تتكون المسيحية الغربية من ثلاثة مذاهب رئيسية، الأول: الأرثوذكسية وتتركز في صربيا واليونان وأوروبا الشرقية وترتبط بروسيا، والثاني: الكاثوليكية وتتركز في قلب أوروبا وجنوبها بقيادة فرنسا، والثالث: البروتستانتية تتركز على ضفتي الأطلنطي بقيادة أمريكا وبريطانيا. وأدي هذا الانقسام المذهبي إلى الخلافات والانشقاقات بين الغربيين عبر العصور، وساهم في تغيير الحدود الجغرافية وإنشاء التكوينات السياسية التي أسفرت في النهاية بعد حربين عالميتين عن شكل الغرب المعاصر.
ورغم العوامل الاقتصادية والسياسية والظواهر الاجتماعية، فإن هذا الخلاف المذهبي القديم ما زال هو الحاكم للعلاقات داخل الكيان الغربي، وهو المحرك لمراكز اتخاذ القرار في الدول القائدة للغرب، وهو الأساس لما نراه من مواقف واتجاهات على الساحة العالمية.
بريطانيا والبروتستانتية
كان لقرار هنري الثامن ملك انجلترا (1509 - 1547) بالانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية وتنصيب نفسه رأساً للكنيسة الإنجليزية والجمع بين السلطتين الدينية والملك الدنيوي أثره في تحويل الأمة الإنجليزية إلى البروتستانتية.
ومع توحد بريطانيا وتحولها إلى المذهب البروتستانتي، ثم صعودها الامبراطوري في القرنين التاسع عشر والعشرين أصبح الأنجلوساكسون (العرق الذي أسس إنجلترا) هم قادة الغرب. وعندما بدأت الشمس تغيب عن المستعمرات البريطانية وتراجعت السطوة الإنجليزية بانتهاء الحرب العالمية الثانية انتقلت قيادة الغرب إلى الولايات المتحدة التي أسسها المهاجرون البيوريتان الأنجلوساكسون، وقام البريطانيون اضطراراً بتسليم نفوذهم في قارات العالم إلى إخوانهم الأمريكيين البروتستانت البيض.
أمريكا ترث بريطانيا
مع انتقال قيادة الغرب من بريطانيا إلى أمريكا، بدا التحرك البروتستانتي الأنجلوساكسوني أكثر انسجامًا وتنظيمًا على الصعيد الدولي منذ أربعينات القرن الماضي؛ فقد بدأ الحلف الأنجلوساكسوني يتحرك بقوة، وبدا واضحاً أن الدول الخمس التي تنتمي إلى هذا العرق وتعتنق ذات المذهب تشكل عصبة فاعلة علي صعيد العلاقات الدولية، وهذه الدول هي الولايات المتحدة الأمريكية، المملكة المتحدة، كندا، أستراليا، ونيوزيلندا.
ورغم الصبغة البروتستانتية للدول الاسكندنافية، فإنهم ليسوا أعضاء في المحور الذي نتحدث عنه، لكونهم لا ينتمون للعرق الأنجلوساكسوني. وذات الأمر ينطبق علي إيرلندا التي تنتمي إلى العرق الأنجلوساكسوني ولكنها تدين بالكاثوليكية.
بمتابعة التطورات العالمية منذ الأربعينات، نجد أن حكومات المحور الأنجلوساكسوني البروتستانتي تتعاون بشكل معلن وواضح في كل الحروب وتتساند داخل المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة وغيرها، وتتخندق معًا في التحالفات والشراكات.
المحور الأنجلوساكسوني
لقد أنشأ المحور الأنجلوساكسوني البروتستانتي الأحلاف العسكرية المغلقة، أو بمشاركة دول أخري دون التنازل عن القيادة والسيطرة، فقد أسست الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا حلف الأنزوس في سبتمبر/أيلول 1951 للدفاع عن منطقة المحيط الهادي، ووقعت الاتفاقية في سان فرانسيسكو وأصبحت سارية في 29 أبريل/نيسان 1952، وكانت تهدف إلى حماية مصالح الدول الثلاث في منطقة الباسيفيك، وتكون مجلس إدارة هذا الحلف من وزراء الخارجية للدول الثلاث، ومازالت أستراليا هي الشرطي الأنجلوساكسوني في منطقة جنوب شرق آسيا حتى الآن ثم أنشيء حلف جنوب شرق آسيا امتدادا لحلف الأنزوس، وانضمت إليه كل من فرنسا وباكستان والفلبين وتايلند، وقد انسحبت باكستان بعد ذلك عندما رفض الحلف مساعدتها في حربها مع الهند عام 1971.
وبذات الدوافع وقف الأنجلوساكسون وراء حلف بغداد الذي أنشئ في 1955 لمواجهة الاتحاد السوفيتي، وضم العراق (في عهد عبد الكريم قاسم) وتركيا والذي رفضت الدول العربية خاصة مصر وسوريا الانضمام إليه لقناعة هذه الدول بأن مصدر الخطر الحقيقي على المنطقة يتأتى من "إسرائيل" وحلفائها الذين يقفون وراء الحلف وليس من الاتحاد السوفيتي الذي كان المزود الوحيد للدول العربية لمواجهة إسرائيل بالسلاح والعتاد، والذي أقيم الحلف واقعيا لمواجهته، و كما يقول الدكتور محمد عزيز شكري في كتابه "الأحلاف والتكتلات في السياسة العالمية" لم تنضم حكومة الولايات المتحدة إلى الحلف بصورة كاملة - في البداية- رغم أن دورها في التحريض علي إنشائه أوضح من أن يشرح، واقتصرت مشاركتها علي الانضمام إلى عضوية لجنة مكافحة النشاط الهدام وكذلك اللجنة الاقتصادية والعسكرية التابعة للحلف، وقد استمر ذلك حتى عام 1959، وبعد ثورة العراق أصبحت أمريكا عضوًا عاملاً كامل العضوية في هذا الحلف.
حلف الناتو
ومع اتساع النفوذ السوفييتي تحالف المحور البروتستانتي مع الدول الكاثوليكية واتحدوا لمواجهة الاتحاد السوفيتي وأنشأوا حلف الأطلنطي لمواجهة الشيوعية، وكانت المظلة العسكرية لحلف الأطلنطي هي المدخل لهيمنة المحور الأنجلوساكسوني علي دول أوربا عموما، وتسخير الحلف لصالح السياسة العسكرية التي تحددها الولايات المتحدة وبريطانيا.
ورغم ما قد يبدو من خلافات بين الأمريكيين وباقي دول الحلف فإن الولايات المتحدة بسبب نفوذها والتأييد البريطاني تجر الحلف للمشاركة في حروبها، وقد نجحت في توريط الأوربيين في معاركها بدرجات متفاوتة.
التعاون الاستخباري
رغم أن أجهزة الاستخبارات الغربية تتعاون فيما بينها، إلا أن دول المحور الأنجلوساكسوني لها ارتباطاتها المغلقة، الخاصة بها، والتي تعمل لتحقيق الاستراتيجيات التي تخدم مصالح الدول الخمس أعضاء الحلف.
يعد النظام الاستخباراتي "إيشلون" من المشروعات المشتركة التي يظهر فيها روح التنسيق المذهبي لدول الحلف، فهو أهم المحطات التجسسية، التي تربط أجهزة الاستخبارات في دول المحور الأنجلوساكسوني، وهو أكبر نظام تجسس في العالم. هذا النظام يراقب ويتجسس من خلال أكبر شبكة من الأقمار الاصطناعية وتكنولوجيا التجسس المتطورة، ومن الثابت أن عمليات إشلون تغطي كافة أنحاء العالم، بما فيه دول أوروبا.
وطبقاً لتقرير أصدرته لجنة شكلها الاتحاد الأوربي في 11 يوليو/تموز 2001 فإن "بإمكان إيشلون اعتراض وتعقب أكثر من ثلاثة بلايين عملية اتصال يومياً، وتشمل كل شيء من المكالمات الهاتفية العادية والجوالة، واتصالات الانترنت، وانتهاءا بالاتصالات التي تتم عبر الأقمار الاصطناعية".
نتائج خروج بريطانيا
المحصلة النهائية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي هي استمرار السيطرة الأمريكية والبريطانية على الغرب من خلال حلف الناتو، وإفشال سعي فرنسا التي تراودها أحلام الزعامة القديمة ومعها ألمانيا التي تبحث عن استعادة قوتها والتخلص من ذل الهزيمة، وإبقاء الدول الأوربية في حالة الضعف التي تعيش فيها منذ خروجها من الحرب العالمية الثانية، وجعل أوروبا في احتياج دائم للقوة العسكرية الأمريكية، والرضوخ كدول تابعة للقرار الأمريكي في المنظمات والمؤسسات الدولية.
لكن ومع أن انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوربي يصب لصالح الناتو كقوة مهيمنة فإنه سيفتح الباب أمام عمليات انفصال أخرى وتفكيك الاتحاد الأوربي، وإعطاء دفعة معنوية للحركات الانفصالية داخل الدول الأوربية وفي مقدمتها بريطانيا، وقد نرى سرعة تفكك دول أوربية أكثر مما كنا نتوقع، وربما ما يفوق عمليات التقسيم التي تنفذها جيوش أوربا وأمريكا حاليا في العالم الإسلامي بالتدمير والقتل والإبادة.
لكن ثمة حقيقة لا تغيب عنا وهي أن دول الغرب رغم ما بينها من خلافات مذهبية، وانشقاقات وصراعات وحروب، فإن الحكومات الأوربية تتحد ضد قضايا العالم الإسلامي، ويتفق الساسة الغربيون على أمتنا وينسون خلافاتهم؛ فالهدف المشترك لهم هو استمرار الهيمنة على بلادنا واحتكار ثرواتنا التي يتعيشون عليها، ولذلك من الأصوب أن لا يعول العرب والمسلمون كثيرا على تفكك الاتحاد الأوربي ولا يبالغوا في نتائج انقسامات أوربا وعليهم أن يبحثوا عن استعادة وحدتهم وإنقاذ أنفسهم بتعظيم قوتهم الذاتية والاستمساك بعقيدتهم أساس وحدتهم.
عامر عبد المنعم
كاتب صحفي
- التصنيف: